"ميدل إيست آي": الحرب على غزة ووقف إطلاق النار كذبتان متشابهتان

خطة ترامب للسلام محكوم عليها بالفشل. إذ لم يستسلم شعبٌ في التاريخ للعبودية والقمع الدائمين. ولن يُثبت الفلسطينيون خلاف ذلك.

  • "ميدل إيست آي": خطة ترامب للسلام محكوم عليها بالفشل، إذ لم يستسلم شعبٌ في التاريخ للعبودية والقمع الدائمين، ولن يُثبت الفلسطينيون خلاف ذلك.

موقع "ميدل إيست آي" ينشر مقالاً يتناول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وخطة "السلام" التي يروّج لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، باعتبارهما جزءاً من استمرار مشروع الإبادة والاحتلال الإسرائيلي لا وسيلة لإنهائهما.

المقال يُفكّك خطاب "وقف إطلاق النار" ليكشف أنه أداة سياسية لتبييض الإبادة الجماعية واستدامة الاحتلال الإسرائيلي، ويرى أنّ خطة ترامب ليست سلاماً بل استعماراً مقنّعاً يهدف إلى إخضاع غزة وإفراغها من مقوّمات الحياة والمقاومة. 
 
 أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

تصمد اتفاقيات وقف إطلاق النار إما لأنّ طرفي الحرب وصلا إلى طريق مسدود عسكرياً، أو لأنّ حوافز كل طرف لإلقاء سلاحه تفوق حوافز استمرار سفك الدماء. إلا أنّ كلا الاحتمالين لا ينطبق على غزة. 

لقد شهد القطاع خلال العامين الماضيين أحداثاً كثيرة. لكنّه لم يشهد حرباً، مهما أراد الساسة ووسائل الإعلام الغربية أن نصدّق ذلك. وهذا يعني أنّ الرواية الحالية عن وقف إطلاق النار كذبة بقدر ما هي كذبة الرواية السابقة عن حرب غزة. ووقف إطلاق النار ليس هشّاً كما يُقال لنا باستمرار، بل هو معدوم، كما يتضح من انتهاكات "إسرائيل" المتواصلة - من استمرار جنودها في قتل المدنيين الفلسطينيين بالرصاص إلى منعها وصول المساعدات الموعودة. فما الذي يحدث حقاً؟

من أجل فهم مصطلحي "وقف إطلاق النار" و"خطة السلام" الماكرة الخاصة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، والمكوّنة من 20 نقطة، يتعيّن علينا أن نفهم أولاً ما استُخدم لإخفاء خطاب الحرب السابق. وعلى مدار الأشهر الـ24 الماضية، شهدنا أموراً بالغة الخطورة. فقد رأينا المذبحة العشوائية التي ارتكبتها "إسرائيل"، المدعومة والمُسلّحة من قبل الولايات المتحدة، بحقّ سكان أغلبهم من المدنيين، يرزحون تحت وطأة حصار مستمر منذ 17 عاماً. كما شاهدنا مسح كل المنازل تقريباً في غزة، التي كانت بمثابة معسكر اعتقال لشعبها. 

لقد أُجبرت العائلات على العيش في خيام مؤقتة، كما حدث عندما طُردت قبل عقود تحت تهديد السلاح من أراضيها في ما يُعرف اليوم بـ"إسرائيل". لكن هذه المرة، تعرّضت لمزيج سام من غبار أنقاض منازلها السابقة وبقايا قنابل تعادل في قوتها قوة قنابل هيروشيما التي أُلقيت على القطاع. كما شاهدنا السكان المحتجزين وهم يتضورون جوعاً لأشهر متواصلة، في ما يرقى إلى سياسة مكشوفة للعقاب الجماعي ــ وهي جريمة ضد الإنسانية يُلاحق بسببها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من قِبل المحكمة الجنائية الدولية. 

علاوة على ذلك، تعرّض مئات الآلاف من أطفال غزة لأضرار جسدية، إضافة إلى صدمات نفسية، نتيجة سوء التغذية الذي غيّر حمضهم النووي؛ وهو ضرر من المرجح أن ينتقل إلى الأجيال القادمة. ورأينا مستشفيات غزة تتفكك بشكل منهجيّ، واحداً تلو الآخر، حتى أصبح القطاع الصحي بأكمله فارغاً وعاجزاً عن التعامل مع تدفّق الجرحى أو الموجة المتعاظمة من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية.

لقد شاهدنا عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق، بحيث تمّ تهجير العائلات - أو ما تبقّى منها - من "مناطق القتل" إلى مناطق أطلقت عليها "إسرائيل" اسم "مناطق آمنة"، لكي تتحوّل هذه المناطق الآمنة بسرعة، بشكل غير مُعلن، إلى مناطق قتل جديدة. وفي الوقت الذي كثّف ترامب الضغوط من أجل وقف إطلاق النار، شاهدنا "إسرائيل" تطلق العنان لموجة من العنف، وتدمّر أكبر قدر ممكن من مدينة غزة قبل حلول الموعد النهائي لوقفها. 

خطاب حرب غزة

لا يمكن ولا ينبغي وصف كلّ ما يحصل بأنه حرب. فالأمم المتحدة، وكلّ منظمة حقوقية بارزة في العالم، بما في ذلك منظمة "بتسليم" الإسرائيلية والرابطة الدولية لعلماء الإبادة الجماعية، تتفق على أنّ ما حدث في غزة يُطابق تعريف الإبادة الجماعية، كما هو منصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، التي صادقت عليها "إسرائيل" والولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي.  

ومع ذلك، كان خطاب "إسرائيل" والغرب عن الحرب حاسماً في بيع خطاب كاذب بنفس القدر عن وقف إطلاق النار وآمال السلام إلى الجماهير الغربية. وتتشابه كذبة وقف إطلاق النار الحالي مع كذبة حرب غزة التي رُويت لنا على مدار العامين الماضيين. ويخدم هذا الإطار الغرض نفسه المتمثّل في إخفاء أهداف "إسرائيل" الكبرى.

يوم الثلاثاء، وفي خضمّ وقف إطلاق النار، وبينما كان يتمّ تبادل جثامين الفلسطينيين والإسرائيليين، كانت "إسرائيل" تقتل المزيد من الفلسطينيين. وكانت صحيفة "فايننشال تايمز" من بين وسائل الإعلام التي أفادت بأنّ الجنود الإسرائيليين قتلوا "عدداً" من الفلسطينيين في ذلك اليوم. وفي وقت سابق، نشر جنود إسرائيليون مقاطع فيديو أثناء انسحابهم من مدينة غزة، تُظهر المنازل المحترقة التي احتلوها، ومؤنهم الغذائية، ومحطة معالجة مياه صرف صحي حيوية. بمعنى آخر، لم تكن لدى "إسرائيل" أي نية لوقف إطلاق النار. 

وهذا نمط مألوف! فقد قتلت "إسرائيل" ما لا يقل عن 170 فلسطينياً خلال وقف إطلاق نار سابق تفاوض عليه ترامب في كانون الثاني/يناير، وأنهته من جانب واحد بعد أسابيع لتُعيد إحياء الإبادة الجماعية. وفي لبنان، حيث من المفترض أن يكون وقف إطلاق النار ساري المفعول منذ العام الماضي، بإشراف الولايات المتحدة وفرنسا، فقد سُجّل انتهاك "إسرائيل" شروطه أكثر من 4500 مرة. وقد شهد السفير البريطاني السابق كريغ موراي خلال فترة وقف إطلاق النار قتل "إسرائيل" مئات الأشخاص، بمن في ذلك الأطفال الرضّع، وهدم عشرات الآلاف من المنازل وضمّ 5 مناطق من لبنان". فهل يتصوّر أحد أنّ غزة، تلك المنطقة الصغيرة الخالية من أيّ جيش أو مظاهر الدولة، ستكون في حال أفضل من لبنان في ظل وقف إطلاق النار الإسرائيلي؟

مسرحية وقف إطلاق النار

قد يكون وقف إطلاق النار مجرّد هدنة مؤقتة من العدوان الإسرائيلي الإبادي المستمر منذ عامين على غزة، لكنه لا يُنهي احتلال "إسرائيل" المستمر منذ عقدٍ من الزمن للأراضي الفلسطينية، وهو السبب المُحرِّض على الحرب. ولا يزال الاحتلال مستمراً. كما أنه لا يفعل شيئاً لإلغاء نظام الفصل العنصري الذي تفرضه "إسرائيل" على الفلسطينيين، والذي حكمت أعلى محكمة في العالم العام الماضي بأنه غير قانوني. 

وبعد ذلك طالبت محكمة العدل الدولية "إسرائيل" بالانسحاب الفوري من الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك غزة، وطالبت الدول الأخرى بالضغط عليها لتنفيذ هذا الانسحاب. ومنحت الجمعية العامة للأمم المتحدة "إسرائيل" مهلة حتى الشهر الماضي لاحترام قرار محكمة العدل الدولية. إلا أن "إسرائيل" لم تكتفِ بتجاهل هذا الموعد فحسب، بل حتى خلال وقف إطلاق النار الحالي، يواصل جنودها تمركزهم بشكل مباشر في أكثر من نصف قطاع غزة.

إضافة إلى ذلك، لا تزال "إسرائيل"، بطبيعة الحال، تسيطر على كامل أراضي غزة عن بُعد من خلال طائراتها التجسسية، وطائراتها الهجومية المُسيّرة، وطائراتها المقاتلة، وتقنيات المراقبة الخاصة فيها، والحصار البري والبحري الذي تفرضه. ومن المؤكّد أنّ الدولة التي تسعى إلى الإبادة الجماعية لا تملك أي سبب لوقفها إلا إذا أجبرت على ذلك من قبل طرف أقوى.

يتجوّل ترامب على المسرح العالمي متظاهراً بفعل ذلك، مُحاولاً الضغط على "إسرائيل" وحماس. لكن السُذج، والطبقة السياسية والإعلامية الغربية، وحدهم من ينخدعون بهذه المسرحية. باختصار، إنّ وقف إطلاق النار ليس هشاً؛ فقد وُضع ليفشل، لا ليفتح طريقاً للسلام. وغرضه الحقيقي منح "إسرائيل" تفويضاً جديداً لتجديد الإبادة الجماعية.  

سجناء مجرّدون من إنسانيتهم

لعقود، أُجبر الفلسطينيون على العيش في حالة متناقضة؛ يُدانون إن أقدموا على أيّ تحرّك، ويُدانون إن لم يُقدموا. فأيّ مقاومة لاحتلالهم الوحشي تُفضي إلى مجازر – أو سياسة "جزّ العشب"، كما تُسمّيها "إسرائيل" - وإلى تصنيفهم كـ"إرهابيين". إلا أنّ سياسة عدم المقاومة، التي تنتهجها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية برئاسة محمود عباس، تترك الفلسطينيين في مأزق، بحيث يعيشون كسجناء دائمين مجرّدين من إنسانيتهم تحت الحكم الإسرائيلي، ومحصورين في محميات متقلصة باستمرار بينما يتمّ منح الميليشيات اليهودية تراخيص لبناء المستوطنات على أراضيهم.

ويشكّل النوع نفسه من الاختيار الزائف جوهر "وقف إطلاق النار" الحالي.

لقد حصلت حماس على صفقة تبادل للرهائن، بعد أسر الآلاف من الفلسطينيين في الشوارع (وسيتمّ أسر الآلاف غيرهم ليحلّوا محلّهم قريباً)، في حين يحظى شعب غزة بفترة راحة قصيرة من حملة التجويع الإبادية التي تشنّها "إسرائيل". وكانت هذه هي الصيغة المُستخدمة لإرغام حماس على الموافقة على اتفاق وقف إطلاق نار، الذي تدرك جيداً أنه ملغوم. 

وأوضح هذه الشروط هو مطالبة حماس بإعادة آخر الأسرى الإسرائيليين المتبقّين في غزة، بمن فيهم 28 جثة، مقابل نحو 2000 أسير فلسطيني في سجون "إسرائيل". وحدّد الاتفاق مهلة 72 ساعة للتبادل. وقد واجهت حماس صعوبة في تحديد مواقع جثث القتلى. وحتى 17 تشرين الأول/أكتوبر، أعادت 10 منهم، علماً أنّ أحدهم على ما يبدو ليس إسرائيلياً. 

إنّ الأرض القاحلة التي أصبحت عليها غزة اليوم لا تحتوي على المعالم التي تُحدّد مواقع الدفن الأصلية. ويكاد يكون مستحيلاً نقل جبال الأنقاض التي ترقد تحتها جثث الإسرائيليين، والتي خلّفتها القنابل الخارقة للتحصينات التي ألقتها "إسرائيل" وقدّمتها لها الولايات المتحدة، والتي يُرجّح أنها قتلتهم، من دون توافر المعدات الثقيلة التي تفتقر إليها غزة بشدّة. وحتى لو تمكّنت حماس من تحديد المواقع وإزالة الأنقاض، فقد تكتشف أنّ الجثث لم تعد موجودة وأنها تبخّرت إلى جانب الضحايا الفلسطينيين بفعل القنابل الإسرائيلية. وهناك مشكلة أخرى محتملة؛ فقد تكون بعض الجثث موجودة في أكثر من نصف قطاع غزة الذي لا تزال "إسرائيل" تحتله ولا تستطيع حماس الوصول إليه.

وكما أقرّت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وهي طرف محايد، فإنّ العثور على الجثث في هذه الظروف سيُشكّل تحدّياً هائلاً. 

مأزق آخر

على الرغم من أنّ وسائل الإعلام الغربية عملت بسرور على تضخيم مزاعم "إسرائيل" حول سوء نية حماس بشأن إعادة الجثث، فضلاً عن معاناة الأُسر الإسرائيلية التي تنتظر، فإنها لم تقدّم سوى تغطية ضئيلة ممائلة لحالة جثامين الفلسطينيين التي أعادتها "إسرائيل". فقد وصلت الجثث المجمّدة إلى مستشفى ناصر في غزة من دون أيّ إثبات هوية، وعجز الطاقم الطبي هناك عن إجراء فحوصات الحمض النووي (DNA) بسبب الدمار الذي ألحقته "إسرائيل" بمرافقه. وبالتالي، لن تعرف العائلات هوية أحبائها إلا إذا حاولت التعرّف إليهم شخصياً. وستكون هذه مهمة مُريعة ومؤلمة. وقد أشار الأطباء إلى أنّ الجثامين التي أُعيدت كانت لا تزال مُكبّلة ومعصوبة الأعين، ومصابة بطلق في الرأس، وتحمل علاماتٍ واضحةً على تعرّضها للتعذيب قبل الوفاة وبعدها.

وفي الوقت نفسه، وحتى قبل انتهاء مهلة الـ72 ساعة لتبادل الأسرى، استغلت "إسرائيل" التأخير لتجديد تجويع غزة، فقيّدت وصول المساعدات المطلوبة بشدة لمعالجة المجاعة التي دبّرتها. والأسوأ من ذلك، اتفقت الولايات المتحدة على بند سرّي مع "إسرائيل" يسمح لها باستئناف حربها الإبادية في حال لم تتمكّن حماس من تسليم جميع الجثث خلال مهلة الأيام  الـ3، بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية. 

وضع معقّد

إذا استطاعت حماس تجنّب هذا الفخّ، فهناك مطلبٌ مُلزمٌ لها بتسليم سلاحها. ويُقدَّم هذا كشرطٍ مُسبق للسلام. لكنّ الأمر المؤكّد والوحيد هو أنه حتى لو سلّمت حماس سلاحها، فلن يكون السلام هو النتيجة. وخلال هذا الأسبوع، أطلق ترامب بأسلوبه المُعتاد  تهديداتٍ مُبهمة. وقال: "إذا لم تسلّم سلاحها [حماس]، فسننزعه نحن". وأضاف أنه في حال تدخّلت الولايات المتحدة، "فسيحدث ذلك بسرعة، وربما بعنف. لكنها ستنزع سلاحها". وهذا الأمر من شأنه أن يضع حماس وغيرها من الحركات التي تنتهج المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي ــ وهو حقّ معترف به في القانون الدولي ــ في وضع معقّد. 

أولاً، سيُصبح سكان غزة العُزّل أكثر عُزلة في مواجهة الهجمات الإسرائيلية. وبغضّ النظر عن صحة أو خطأ استراتيجية حماس العسكرية، فمن الصعب تجاهل حقيقة أنّ الخسائر طويلة الأمد التي تكبّدتها القوات الإسرائيلية نتيجة للقتال - من حيث الصدمات النفسية وأعداد الضحايا - قد شكّلت نوعاً من الضغط الموازن. 

وقد نزلت أعداد كبيرة من الإسرائيليين إلى الشوارع احتجاجاً على تصرّفات نتنياهو في غزة، ولكن ليس لأنّ معظمهم يهتم بمئات الآلاف من الشهداء والجرحى الفلسطينيين هناك، كما تُظهر استطلاعات الرأي، بل لأن احتجاجاتهم مدفوعة بمخاوفهم بشأن محنة الأسرى الإسرائيليين في غزة، وبشأن الخسائر في صفوف الجنود الإسرائيليين. وستخشى حماس، وكثير من سكان غزة، من أن يؤدي نزع السلاح إلى تحويل تحليل التكلفة والفائدة بين الإسرائيليين إلى اتجاه أكثر تشدّداً نحو استمرار الإبادة الجماعية. وهذا من شأنه أن يؤدّي إلى مزيد من سفك الدماء من جانب "إسرائيل"، وليس إلى إحلال السلام.

معضلة خسارة الطرفين

ثانياً، من المستبعد أن توافق حماس على تسليم سلاحها في ظل وجود عصابات إجرامية، مسلحة ومدعومة من "إسرائيل"، وبعضها مرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، تجوب شوارع غزة. ولطالما أدرك الفلسطينيون أنّ طموح "إسرائيل" يتمثّل في تقويض حركات التحرير الوطني الفلسطينية الكبرى، سواء حماس أو فتح، من خلال الترويج لأمراء الحرب الإقطاعيين مكانهم.

وقد حذّرني محلّل فلسطيني قبل 14 عاماً من مخاطر ما أسماه خطة "إسرائيل" لـ"أفغنة" غزة والضفة الغربية. وستتضمّن استراتيجية "إسرائيل" المُطلقة القائمة على مبدأ "فرّق تسد" تعزيز نفوذ زعماء العشائر المتنافسة الذين يركّزون على حماية إقطاعياتهم الصغيرة ومحاربة بعضهم البعض، بدلاً من محاولة مقاومة الاحتلال غير الشرعي والسعي إلى بناء دولة فلسطينية موحّدة. ففي ذروة الإبادة الجماعية، أثبتت العشائر مدى خطورة مثل هذا التطوّر بالنسبة الفلسطينيين العاديين. وبمساعدة "إسرائيل"، ومع حصار حماس في أنفاقها، نهبت هذه العصابات شاحنات المساعدات، وسرقت المساعدات من الأُسر الأضعف، واستولت على الطعام لأسرها وباعت الباقي بأسعار باهظة لا يستطيع سوى عدد قليل من الناس تحمّلها. أما البقية، فقد تضوّروا جوعاً. 

وفي حال سلّمت حماس سلاحها، فإنّ هذه العشائر، المدعومة من "إسرائيل"، ستصبح الآمرة الناهية. وبالتالي، لا حماس ولا معظم سكان غزة يريدون تكرار ذلك. فهذا ليس طريقاً للسلام، بل هو استمرار للاحتلال الإسرائيلي الوحشي، المُتعاقد عليه جزئياً مع أمراء الحرب المحليين. ومن المثير للدهشة، أنّ ترامب يبدو مُدركاً لبعض هذه الأمور. فقد قال إنّ حماس "قضت على عصابتين شريرتين للغاية وقتلت عدداً من أفرادهما. ولأكون صريحاً لم يُزعجني ذلك كثيراً". ماذا يتخيّل ترامب إذاً أن يحدث إذا سلّمت حماس سلاحها، كما أصرّ هو و"إسرائيل"؟ ألن تعود هذه "العصابات السيئة للغاية" للظهور؟ هذه تحديداً هي المعضلة التي تريد "إسرائيل" توريط حماس وغزة فيها. 

زيادة الطين بلّة

يوم الأربعاء، زاد ترامب الطين بلة مجدداً، محذراً من أنه إذا لم تسلّم حماس سلاحها، فستستأنف "إسرائيل" هجماتها على غزة "بمجرد أن أعطي كلمتي". وفي اليوم التالي، ذهب أبعد من ذلك، مُلمّحاً إلى أنّ الولايات المتحدة نفسها قد تتدخّل في غزة. وكتب على صفحته على منصة "تروث سوشيال": "في حال استمرت حماس في قتل الناس في غزة، وهو ما لم يكن متفقاً عليه، فلن يكون أمامنا خيار سوى التدخّل وقتلهم".

إذاً، ما الذي يُفترض أن يملأ الفراغ الذي سينشأ عن حلّ حماس لنفسها وانسحاب "إسرائيل" الكامل من غزة، وهو أمرٌ مستبعدٌ للغاية؟ تُصّر "إسرائيل" على عدم وجود حكم فلسطيني في القطاع، حتى من قبل نظام عباس الفاشي في الضفة الغربية. كما تواصل "إسرائيل" رفضها إطلاق سراح مروان البرغوثي، زعيم حركة فتح المسجون منذ فترة طويلة، والذي يعدّ الشخصية الوحيدة الموحّدة في السياسة الفلسطينية، والذي يشار إليه غالباً باسم نيلسون مانديلا الفلسطيني. ولو كانت "إسرائيل" مهتمة حقاً بإنهاء الاحتلال وتحقيق السلام، لكان البرغوثي هو الشخص الأمثل. لكن بدلاً من ذلك، تشير التقارير إلى تعرّضه مجدّداً للضرب المبرح على يد حرّاس السجن الإسرائيليين، ما يعرّض حياته للخطر.

لا تقدّم رؤية ترامب للسنوات القليلة المقبلة سوى "مجلس سلام" سيّئ السمعة، إدارة ذات طابع استعماري صريح، ومن المتوقّع أن يرأسها نائب الملك توني بلير. قبل عقدين من الزمن، ساعد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الولايات المتحدة في تدمير العراق، ما أدى إلى انهيار مؤسساته بالكامل ووقوع وفيات جماعية بين سكانه. ومن المفترض أن يكون "مجلس السلام" الذي أنشأه ترامب في مكان قريب في مصر، وليس في غزة.

على الأرض، يتصوّر ترامب إنشاء "قوة استقرار" أجنبية. لكنّ قواتها، إن وُجدت، لن تكون على الأرجح أكثر فعّالية في مواجهة العدوان الإسرائيلي من قوات حفظ السلام النظيرة في لبنان لعقود من الزمن. فقد هاجمت "إسرائيل" قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان بشكل متكرر، في حين أن وجود قوات الأمم المتحدة لم يفعل شيئاً للحد من انتهاكاتها المستمرة لوقف إطلاق النار.

وبالتالي، لن تتمكّن قوة الاستقرار من فعل الكثير لمنع "إسرائيل" من التدخّل المباشر في غزة من خلال تنفيذ عمليات اغتيال بالطائرات المسيّرة، وفرض قيود على استيراد الخرسانة والمواد الغذائية والطبية، وفرض حصار بحري على المياه الإقليمية الخاصة بالقطاع.

إنّ رؤية ترامب للسلام تتمثّل في رؤية الفلسطينيين يكافحون من أجل البقاء وسط أنقاض غزة، تحت رحمة طائرات "إسرائيل" المسيّرة التي تراقبهم على الدوام. ويقول رامي عبده، رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إنه من المرجّح خلال الأسابيع والأشهر المقبلة أن تنتقل "إسرائيل" من الإبادة الجماعية المتعمّدة إلى ما أسماه "إبادة جماعية أكثر إدارة، وتهجير قسري منظّم".

وستتمكّن "إسرائيل" اليوم من التفرّج، وعرقلة إعادة إعمار القطاع، مُرسلة رسالة واضحة إلى السكان المُعدمين بأنّ خلاصهم لن يكون في غزة. كذلك لن يكون مستقبل الضفة الغربية سلمياً، بل هو مستقبل ترتكب فيه "إسرائيل" أعمالاً وحشية وتُنشئ مجموعات من المدن الصغيرة تحشر فيها الفلسطينيين بشكل تدريجي.

في الخلاصة، لن تنتهي المقاومة الفلسطينية في مثل هذه الظروف. إذ لم يستسلم شعبٌ في التاريخ للعبودية والقمع الدائمين. ولن يُثبت الفلسطينيون خلاف ذلك.

نقلته إلى العربية: زينب منعم.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.