إيران والثورة «الثالثة»

أراد المرشد الإيراني إبلاغ القريب قبل البعيد، أن المرحلة الجديدة قد تشهد أحد أكثر استحقاقات الثورة الإيرانية حساسية. وبالتالي لا يمكن لأدوات الماضي أن تقدم النتائج ذاتها، خاصة مع أجواء الانفتاح النسبي الذي تعيشه إيران، مع تشريع أبوابها لمئات الشركات وآلاف الوفود الدولية والغربية الساعية نحو تأمين حصّتها من عودة إيران الى أحضان السوق الدوليّة.

عمليّة الإعداد المجتمعي شكّلت بالمنظور القيادي إحدى أبرز أدوات إعادة التجدّد والتجديد (أ ف ب)
يبدو أن الدخول الإيراني الرتيب في ذكرى «13 آبان» لم يعُد متاحاً اليوم. فطبيعة خطابة نخب الجمهورية الإسلامية في «اليوم الوطني لمقارعة الاستكبار العالمي»، وفي ظل «مخرجات» الاتفاق النووي وما تلاها من تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية، تشي بواقع مجتمعيّ مخالف لما كانت عليه الأحوال عندما دخل شبان «الثورة» إلى السفارة الأميركية في طهران، معلنين إسقاط ما سمّوه وقتها «وكر التجسس»، وهي العمليّة التي وصفها قائد الثورة الإيرانية الإمام الخميني الراحل بـ «الثورة الثانية». فقد حمل خطاب المرشد آية الله خامنئي عشيّة الذكرى، «عتباً» شديداً على الجيل الإيراني الشاب، تحديداً القطاعات المروّجة لكل ما يتعارض مع «أدبيات» مقارعة «الاستكبار»، والتي قامت عليها المضبطة الأخلاقية الإيرانية الرسمية طوال السنوات التاليّة لانتصار الثورة. وهو ما يظهر حاجة شديدة لإعادة إنتاج خطابة رسميّة تسهم في «احتواء» الاتجاهات الصاعدة، وتمنع نموذجاً إيرانياً خاصاً من «البريسترويكا»، من خلال «ثورة ثالثة» تضع أميركا في موقعها التاريخي الطبيعي في «المنظور» المجتمعي الإيراني.

استضافة الولايات المتحدة الأميركية لشاه إيران الأخير محمد رضا بهلوي «الهارب» من طهران العام 1979، كانت قد شكّلت الفرصة المناسبة لتسوية أوضاع الثورة الخمينيّة الناشئة، وتوجيه ثقلها الدولي نحو الولايات المتحدة، خاصة أن الأخيرة عملت بجهد على تكريس نفسها كراعٍ قويّ لنظام الشاه، بما يحمله ذلك من إرث ثقيل في الوعي الإيراني، تحديداً منذ الانقلاب العسكري المدعوم من واشنطن على رئيس الوزراء القومي محمد مصدق العام 1953، الذي قام بتأميم النفط الإيراني خلافاً للرغبة الغربية. وهو انقلاب فتح الباب أمام ربع قرن من الحكم «الثقيل»، الذي أرهق القطاعات الشبابيّة الإيرانيّة، في موازاة ضغوط قياسيّة على المؤسسة الدينية المتمثلة بحوزة قم، الأمر الذي أفضى إلى أكثر الخطوات الثورية «تعقيداً وراديكاليّة»، والمتمثلة في اقتحام الطلاب الإيرانيين للسفارة الأميركية في 4 تشرين الثاني 1979، واحتجازهم 52 أميركياً لنحو 444 يوماً.

عمليّة احتجاز الرهائن الأميركيين من قبل الثورة الإيرانية، تحوّلت مع الوقت إلى ركيزة البناء السياسي و «الثقافي» للنخبة الجديدة ومَن يدور في فلكها، خاصة أنها ترجمت الخطابة الثورية للقيادة في شاكلة عملانيّة، لاقت حديثها الدائم عن ضرورة تفكيك عناصر القوة الأميركية في النظام الإيراني. وقد أكد الإيرانيون لاحقاً أن أهدافاً مصاحبة لقضيّة الشاه ساهمت باتخاذ قرار اقتحام السفارة، كالسيطرة على سجلات الاستخبارات المركزية (CIA) في فرع طهران، وما تبع ذلك من الحصول على أدلة كشفت تجنيد سياسيين، خصوصاً الرجل الذي أصبح الرئيس الأول لإيران أبو الحسن بني صدر، وقبلها دور الأميركيين في انقلاب العام ثلاثة وخمسين، إضافة إلى عدد من الخلايا الناشطة داخل الثورة لحساب الاستخبارات الأميركيّة.

حمل خطاب المرشد في ذكرى «13 آبان» (تاريخ اقتحام السفارة بالروزنامة الإيرانية) مؤشرات شديدة الأهميّة، خاصة أنه طرح وبشكل علني، ما يسوّق في الداخل الإيراني من أفكار تتعارض مع طبيعة النظام وسردية الثورة الملحقة به. وقد ركّز في نقده على تصورين يفيدان بأن «صمود» الإمام الخميني كان من باب «التعصب واللجاجة»، وأن «حل مشاكل البلاد رهن بالتفاوض والمساومة مع أميركا». واعتبر المرشد أن من وصفهم بـ «العناصر التابعة لأميركا وبعض النادمين على المشاركة بالثورة»، يقومون بالترويج لهذه الأفكار في الجامعات والأندية ووسائل الإعلام. وهذا بحد ذاته يعتبر تطوراً في مستوى الشفافية المعهودة من القيادة الإيرانية، ما يعني أن القيادة الإيرانية تستشعر منسوباً غير مسبوق من «التسرّب الثوري»، تحديداً في القطاعات الملتصقة عضوياً بالنخبة وخطابتها.

لم تغب أهميّة ترسيخ «الثورة الدائمة» عن الإدراك النخبوي الإيراني. وكانت ملامحها شديدة الوضوح لدى القيادة المنبثقة عن الثورة، من خلال إعداد جهاز حاكم متعدّد الأذرع، لكنه يصبّ في النهاية في الإبقاء على مستويات «معقولة» من السخونة الثورية في قطاعات مجتمعيّة واسعة، ومن خلال بناء «ثوري» متواصل يقوم على توجيه القطاعات الشبابيّة، اعتماداً على أدبيات دينية سياسية هجينة، تخلق نوعاً من الانسجام الدائم بين القطاعات الثورية هذه، والقيادات العليا وتحديداً الدينيّة منها. وهذا كان ينتج، ضمن مفهوم ديمومة الثورة، صلابة اجتماعية في وجه التمدّد الأميركي المتوقع دوماً، تحديداً في الفترات التي تشهد تراجعاً في التهديدات المتبادلة، كفترة ما بعد الاتفاق النووي مثلاً، خاصة أن الثقافة الغربية كانت ضيفاً دائماً على المجتمع الطهراني طوال فترة ما قبل الثورة. وعلى هذا المنوال، تدرك إيران أن الدروع السياسية ـ الثقافيّة التي تواجه بها «أدوات» الغرب الدعائية وكذلك نشاطاته الاستخباريّة، تصبح أكثر هشاشة في الأيام «الباردة» والملتبسة.

عمليّة الإعداد المجتمعي في إيران لم تكن يوماً من العناوين الثانوية، بل شكّلت بالمنظور القيادي إحدى أبرز أدوات إعادة التجدّد والتجديد، إنما ضمن دائرة محدّدة القطر والمعالم والمبادئ، وبما لا يُفضي في نهاية المطاف إلى مغامرة تأخذ الأمور نحو إنتاج غورباتشيف إيراني آخر. لهذا آثرت القيادة توجيه رسالة أخرى مصاحبة لحديث المرشد، تولّاها العميد نصرت الله سيف مساعد رئيس منظمة «تعبئة المستضعفين»، الذي أكد أن الجمهورية الإسلامية نجحت في إعداد 24 مليون شاب تعبويّ، وأنها تتجه لرفع هذا العدد إلى 36 مليوناً نهاية الخطة الحكومية الخمسيّة السادسة. لكن الأرقام هذه لا يمكن أن تشكل عامل طمأنة داخلي كافٍ، أو معطيات وافية لإحباط التخطيط الأميركي والغربي الدائم لإحداث اختراقة في البنيان الإيراني الثوري. وقد بدت الحماسة هذه من خلال تسعير العمل الإعلامي المرافق لنشاطات جماعة «مجاهدي خلق»، وعلى المستويات الدولية والإقليميّة.

من هنا، فقد أراد المرشد الإيراني إبلاغ القريب قبل البعيد، أن المرحلة الجديدة قد تشهد أحد أكثر استحقاقات الثورة الإيرانية حساسية. وبالتالي لا يمكن لأدوات الماضي أن تقدم النتائج ذاتها، خاصة مع أجواء الانفتاح النسبي الذي تعيشه إيران، مع تشريع أبوابها لمئات الشركات وآلاف الوفود الدولية والغربية الساعية نحو تأمين حصّتها من عودة إيران الى أحضان السوق الدوليّة. ما يعني بالمفهوم الطبيعي لسياق العلاقات التاريخيّة بين الغرب وشركاه الشرقيين، أن عمليّة تسرّب مضاد قد انطلقت بالتوازي مع التعاون الاقتصادي والمالي المتعاظم، وفي ظل مهمات علنيّة تؤديها إيران في انخراطاتها العسكرية الإقليميّة، على الرقعة ذاتها التي ينشط فيها الأميركي، ضد عدو مشترك. وهي عناصر تفضي مجتمعة إلى منسوب احتكاك مع الغرب لم يكن موجوداً من قبل. وهو منسوب يتطلّب مستويات مختلفة من الخطابة السياسية، وكذلك نوعاً مختلفاً من التحركات الديبلوماسية، التي لا يمكن أن تتجاوز الصور التذكارية لكيري ـ ظريف في المنظور الشعبي الإيراني.