الإكوادور رهينة قوى "اليمين": نوبوا رئيساً لولاية ثانية
دانيل نوبوا يفوز بولاية رئاسية ثانية في الإكوادور، وسط تحديات متصاعدة تتعلق بالأمن والاقتصاد والانقسامات السياسية الحادة، ما يُنذر بدخول البلاد في مرحلة جديدة من عدم اليقين.
-
الرئيس الإكوادوري دانيل نوبوا - 15 نيسان/أبريل 2025
حُسمت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في الإكوادور مساء 13 نيسان/أبريل الجاري لصالح دانيل نوبوا، الرئيس المنتهية ولايته والمرشح اليميني، الذي تفوق على منافسته اليسارية لويزا غونزاليس بنسبة 55.7% مقابل 44.3%، وفق ما أعلنت عنه اللجنة الوطنية للانتخابات.
ووجهت غونزاليس وحزبها اتهامات بتزوير الانتخابات وطالبت بإعادة فرز شامل للأصوات، كما أشار مراقبون إلى وجود مخالفات انتخابية مثل اختفاء أصوات لصالح غونزاليس وزيادات غير مبررة في أصوات نوبوا، ما أضاف توترات سياسية جديدة في البلاد. وعلى الرغم من الجدل المثار حول نزاهة الانتخابات، يبدو واضحاً أنّ نوبوا نجح في إعادة توظيف قلق قطاعات واسعة من الناخبين حيال الأمن والعنف والجريمة المنظمة، ليصوغ منها خطاباً تعبوياً تجاوز إخفاقات ولايته الأولى، ويدفع به إلى ولاية ثانية، من دون أن يقدّم وعوداً ملموسة بتغيير جوهري في مقارباته الليبرالية التي سببت استياء شعبياً واسعاً، لاسيما في المناطق الأكثر فقراً وتهميشاً.
لم يكن انتصار نوبوا – وهو ابن أحد أغنى رجال الأعمال في البلاد – في السباق الرئاسي وليد لحظة انتخابية معزولة، بل جاء ثمرة تراكُم ديناميات داخلية معقّدة، شملت انهيار الثقة بالمؤسسات وارتفاع مؤشرات الجريمة واتساع الفجوة الطبقية بين سكان المدن والمناطق الريفية. لقد تبنّى نوبوا منذ انتخابه في 2023 كأصغر رئيس في تاريخ البلاد أجندة يمينية واضحة، قوامها الليبرالية الاقتصادية والانفتاح الكامل على الاستثمارات الأجنبية (والأميركية بشكل خاص)، مع تحييد تدريجي لمواقع النفوذ اليساري المرتبط بإرث الرئيس السابق رافائيل كوريا. غير أن هذه السياسات لم تثمر عن نتائج اقتصادية ملموسة، وإنما ساهمت في تفاقم التضخم وتراجع الأجور الحقيقية وارتفاع أسعار السلع الأساسية بشكل مقلق، ما أضعف موقع نوبوا الشعبي ودفع خصومه لاعتبار عودته إلى الرئاسة بمثابة إعادة إنتاج لمنظومة تحابي النخب المالية ورجال الأعمال وتُقصي الفئات الكادحة عن دوائر التأثير والقرار.
في المقابل، خاضت لويزا غونزاليس المعركة الانتخابية ببرنامج اجتماعي طموح، يرتكز على استعادة دور الدولة في تقديم الخدمات العامة وإعادة توزيع الثروة وتعزيز الأمان الاجتماعي للفئات المهمشة. استثمرت غونزاليس بقوة في سردية العدالة الاجتماعية، مستفيدة من رصيدها كمرشحة مقربة من كوريا، الزعيم اليساري الذي ما زال يحظى بشعبية راسخة بين قطاعات من الشعب الإكوادوري، لاسيما في المناطق الريفية. وعلى الرغم من حملات التشويه والضغوط الإعلامية، استطاعت غونزاليس توسيع قاعدتها الانتخابية، لكنها اصطدمت بجدار المدن الكبرى التي تميل تقليدياً إلى مرشحي نخبة السوق وبحالة القلق العام من عودة اليسار إلى السلطة في ظرف أمني حساس، ما قلّص فرصها في الفوز وسمح لنوبوا بإعادة تدوير مشهد سياسي مأزوم لحسابه الخاص.
كانت القضايا الأمنية بلا شك حجر الزاوية في حملة نوبوا الانتخابية، حيث وظّف سلسلة من أحداث العنف البارزة التي هزّت البلاد في السنوات الأخيرة، مثل اغتيال مرشح الرئاسة فرناندو فيلافيسينسيو في آب/أغسطس 2023 والتصعيد غير المسبوق في عمليات الاتجار بالمخدرات، لتبرير نهجه الأمني المتشدد. أعلن نوبوا "الحرب على الإرهاب" الداخلي، وفرض حالة الطوارئ مؤخراً في مناطق واسعة من البلاد، مستعيناً بالجيش والشرطة لإحكام القبضة على الشارع. وقد لعبت هذه الإجراءات دوراً مهماً في تعزيز صورته كقائد قادر على الإمساك بزمام الأمور، رغم أنّ معدلات الجريمة لم تنخفض فعلياً، بل أظهرت التقارير أنّ حوادث الاختطاف والقتل استمرت في الارتفاع. إلاّ أنّ البعد الرمزي لإظهار الحزم والربط بين الأمن وشرعية الدولة، مكّنا نوبوا من الاستفادة من مزاج عام يبحث عن الاستقرار بأي ثمن، حتى لو جاء ذلك على حساب الحريات أو التوازن المؤسساتي.
ورغم كل هذا الزخم الذي حشدته آلة نوبوا السياسية والإعلامية، فإنّ الواقع الاقتصادي يضع علامات استفهام كبيرة على قدرة الحكومة المقبلة على الوفاء بوعودها. فبحسب بيانات رسمية، بلغ معدل الفقر في الإكوادور 27% في نهاية العام الماضي، بينما تجاوزت نسبة البطالة 5%، مع تراجع في القيمة الحقيقية للأجور بسبب التضخم المتسارع. كما تشير التقارير إلى تدهور الخدمات العامة، خاصة في مجالي التعليم والصحة، وسط انخفاض مخصصات الميزانية لهما لصالح زيادة الإنفاق الأمني والعسكري. وتعاني البنية التحتية في الأرياف من الإهمال، ما يفاقم الفجوة بين الحضر والريف ويعمّق التوترات الاجتماعية. ورغم محاولات نوبوا الترويج لتحالفات استثمارية مع شركات أجنبية، خاصة في قطاعات التعدين والطاقة، فإن الآثار الفعلية لهذه الشراكات على التنمية المحلية ما تزال ضئيلة، إن لم تكن منعدمة، في ظل غياب سياسات موجهة لإعادة التوزيع وإشراك المجتمعات المحلية في ثمار النمو.
تأتي هذه المعطيات في ظل ضغوط خارجية متزايدة، وخصوصاً من الولايات المتحدة التي ترى في نوبوا حليفاً موثوقاً في معركتها الإقليمية ضد العودة القوية لقوى اليسار في أميركا اللاتينية منذ العقد الماضي. وقد رحّبت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعادة انتخاب نوبوا، وأكدت على تعزيز التعاون الثنائي في مجالات الأمن ومحاربة المخدرات والاستثمار. غير أن هذا التقارب يعزز الانطباع بأن نوبوا ليس فقط مرشحاً لليمين المحلي، وإنما أيضاً امتداد لمشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة، وهو ما أشار إليه العديد من المراقبين بوصفهم للرئيس الإكوادوري بأنه "صوت واشنطن في كيتو". وفي هذا السياق، يصبح التساؤل مشروعاً حول مدى استقلالية القرار السياسي في البلاد، وقدرة الحكومة الجديدة على بلورة سياسات وطنية تُعلي من مصالح المواطنين لا مصالح الحلفاء الخارجيين.
وفي الوقت الذي يحاول فيه نوبوا تثبيت أركان سلطته عبر إعادة تشكيل المشهد السياسي والمؤسساتي، تظهر مؤشرات إلى بروز مقاومة اجتماعية واسعة، تتشكل من التيار اليساري ونقابات العمال والمجتمع المدني وبعض مكونات السكان الأصليين الذين يشعرون بالتهميش. ومن المرجح أن يشهد العام الأول من الولاية الثانية للرئيس موجة من الاحتجاجات والاعتصامات، خاصة إذا ما استمر التدهور في الظروف المعيشية أو جرى تمرير تشريعات تقشفية جديدة. كما أن استمرار غونزاليس في العمل السياسي كزعيمة معارضة امتداداً لخط كوريا اليساري قد يسهم في تنظيم قوى التغيير مجدداً حول برنامج اجتماعي بديل، خاصة أن نتائج الانتخابات أثبتت أن هناك ما يقرب من نصف الإكوادوريين لم يصوّتوا لصالح نوبوا، وأن شرعيته السياسية لا تزال موضع جدل حقيقي.
في الواقع إذاً، تدخل الإكوادور مرحلة جديدة من عدم اليقين، تتسم باستمرارية اليمين في الحفاظ على السلطة رغم التآكل الفعلي في شعبية نوبوا وقوى اليمين التي مازالت تحوذ مواقع مهمة في اقتصاد البلاد. يواجه الرئيس الذي أقنع شطراً من الشعب بأنه قادر على ضبط الأمن والاستثمار تحدياً أكبر الآن: كيف يقنعهم بأنه قادر على خلق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي؟ الإجابة عن هذا السؤال ستُحدِّد ليس فقط مصير ولايته الثانية، وإنما أيضاً مستقبل البلاد ككل. وفي ظل مؤشرات تؤكد أن بنية الأزمة أعمق من أن تُحل بالمسكّنات، وأن الروشتة الاقتصادية لنوبوا فاقمت مشكلات الطبقات الشعبية في وقت سهَّلت فيه الإجراءات لرجال الأعمال والمستثمرين الأجانب، تبدو الإكوادور رهينة توازنات يمينية معقدة، حيث تظل قوى اليمين تسيطر على مفاصل الاقتصاد بينما تبقى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية قائمة.