بعد الانتقادات الأوروبية.. تونس تعيد رسم ملامح العلاقة مع الاتحاد الأوروبي

في خطوة غير مسبوقة، استدعى الرئيس التونسي سفير الاتحاد الأوروبي وأبلغه الاحتجاج على التصريحات الأوروبية التي تتدخل في الشأن الداخلي لتونس، فهل ترغب تونس في إعادة رسم طبيعة العلاقة مع أوروبا؟

  • صورة أرشيفية من عام 2023 تجمع قيس سعيد مع جورجيا ميلوني (رئيس وزراء إيطاليا) وفون ديرلاين (رئيسة المفوضية الأوروبية) ومارك روته (رئيس الوزراء الهولندي)

تمر تونس، الدولة المتوسطية الواقعة بين أوروبا وأفريقيا، حالياً بمرحلة مفصلية في علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، في خضم تشابك معقد بين الاعتبارات الاقتصادية والسياسية وحساسية السيادة الوطنية.

ولم تنشأ التوترات الراهنة من فراغ، بل هي نتاج تراكم تاريخي طويل لشراكة أوروبية-تونسية ارتبطت بمزيج من الدعم المشروط والتدخل في السياسات الداخلية.

وتؤكد التطورات الأخيرة، من استدعاء الرئيس التونسي قيس سعيّد لسفير الاتحاد الأوروبي واحتجاجه العلني، إلى استدعاء وزير الخارجية التونسي لسفيرة هولندا لإبلاغها احتجاجاً شديد اللهجة، ورفض الرئاسة لتصريحات البرلمان الأوروبي المنتقدة للحريات، أن تونس تضع السيادة الوطنية على رأس أولوياتها، معتبرة إياها "خطاً أحمر" لا يمكن تجاوزه، بحسب المراقبين.

"رسالة صارمة"

في خطوة غير مسبوقة، استدعى الرئيس سعيّد سفير الاتحاد الأوروبي إلى مقر الرئاسة وأبلغه "احتجاجاً شديد اللهجة" بسبب ما اعتبره "عدم الالتزام بضوابط العمل الدبلوماسي والتعامل خارج الأطر الرسمية"، على خلفية لقائه بأمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي.

وفي سياق متصل، وتنفيذاً لتعليمات سعيّد، استدعى وزير الخارجية التونسي محمد علي النفطي، سفيرة مملكة هولندا بتونس، جوزفين فرانزن، لإبلاغها احتجاجاً شديد اللهجة على "عدم الالتزام بضوابط العمل الدبلوماسي"، مع دعوة صريحة لاحترام الأعراف الدبلوماسية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لتونس.

وبحسب المراقبين، يحمل هذا الاستدعاء رسالة مزدوجة: داخلياً لتأكيد المرجعية الرئاسية كجهة وحيدة في رسم السياسة الخارجية ومنع أي استقطاب داخلي، وخارجياً لمنع أوروبا من التدخل، مهما كانت الحجج المعلنة.

البرلمان الأوروبي ورفض التدخل الخارجي

ساعات بعد استدعاء الرئيس التونسي لسفير الاتحاد الأوروبي، ناقش البرلمان الأوروبي الوضع السياسي والقضائي في تونس، معبراً عن "قلق" بعض أعضائه بشأن الحريات السياسية وحقوق الإنسان، داعياً إلى متابعة دقيقة من المفوضية الأوروبية. تونس اعتبرت هذا النقاش تدخلاً صارخاً في شؤونها الداخلية.

الرد التونسي على التصريحات الأوروبية يشي بأن تونس تحاول القول: "إن الشراكة الاقتصادية لا تعني التخلي عن السيادة الوطنية، وأن أي تقييم خارجي للملفات الداخلية يعتبر محاولة تدخل غير مقبولة"، وخصوصاً أن الدعم الأوروبي لتونس لطالما رافقه شروط سياسية، ما أعطى انطباعاً بوجود وصاية أوروبية على القرار التونسي.

علاقات تاريخية مع أوروبا

تاريخياً، حافظت تونس على علاقات وثيقة مع فرنسا، الشريك الاقتصادي والسياسي الأول، تليها إيطاليا. هذه الشراكات، رغم أهميتها الاقتصادية، لم تخلُ من أبعاد سياسية وموروثات تاريخية من الوصاية على القرار الوطني.

بعد استقلال تونس عام 1956، بدأت فرنسا بتوجيه الدعم المالي والاستثمارات إلى البلاد، وغالباً ما كان مرتبطاً بتوجيهات سياسية غير معلنة، بما في ذلك التأثير على القرار الداخلي والتوازنات الاقتصادية والاجتماعية.

إيطاليا، من جهتها، اعتبرت تونس نقطة استراتيجية للمصالح البحرية والتجارية، فضلاً عن تأثيرها الثقافي والاقتصادي في شمال البلاد.

على مر العقود، كوّنت تونس تجربة متراكمة من الاعتماد على أوروبا، لكنها حرصت دائماً على الحفاظ على سيادتها. ومع التطورات الأخيرة، تسعى تونس إلى إعادة التوازن التاريخي، بحيث تبقى العلاقات الأوروبية قائمة على الشراكة والندية، بعيداً عن أي منطق تبعية أو وصاية، مع المحافظة على القدرة على اتخاذ القرارات السيادية بحرية.

يشكل الاتحاد الأوروبي نحو 70% من حجم التجارة الخارجية لتونس، بينما تمثل فرنسا وحدها نحو 20% من الصادرات والواردات، تليها إيطاليا بنحو 15%. الاعتماد الكبير على أوروبا جعل تونس عرضة لضغوط اقتصادية، حيث ربط الدعم المالي والشراكات بمؤشرات تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية.

لكن تونس اليوم تعمل على استراتيجية واضحة لتنويع شركائها الاقتصاديين، مع التركيز على الصين والأسواق الآسيوية والأفريقية، وبحسب الخبراء فإن هذا التنويع "ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو قرار سيادي يضمن لتونس أن تصبح أقل تبعية لأي طرف خارجي، ويتيح لها الحرية في اختيار السياسات المالية والاستثمارية بما يخدم مصالحها الوطنية العليا".

التباينات الأوروبية واستراتيجية المناورة

الاتحاد الأوروبي ليس كتلة صماء في ملف تونس، وتونس تدرك هذا الانقسام وتستغله سياسياً. دول جنوب أوروبا، مثل إيطاليا ومالطا، تركز على الاستقرار والتعاون الأمني، متغاضية عن الانتقادات المتعلقة بالحريات، إذ ترى في تونس شريكاً حيوياً في إدارة تدفقات الهجرة والطاقة. بينما تميل دول شمال أوروبا وألمانيا والدول الإسكندنافية إلى إعطاء الأولوية للمعايير القيمية وحقوق الإنسان، وهي التي تقود الأصوات المنتقدة في البرلمان الأوروبي.

هذا التباين يمنح تونس هامشاً من المناورة الدبلوماسية، حيث يمكن تعزيز التعاون مع الدول البراغماتية لتخفيف الضغط السياسي، واستغلال هذا التوازن. إدراك القيادة التونسية لطبيعة الانقسامات الأوروبية أصبح جزءاً من الاستراتيجية السيادية التي تضمن حماية المصالح الوطنية دون الانجرار إلى صدام مفتوح مع الشركاء الأوروبيين.

كما أن تونس لعبت دوراً حيوياً في ضبط تدفقات الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب، ما منحها قيمة استراتيجية خاصة لدى دول الاتحاد الأوروبي، و هذا ما تعيه تونس جيداً وتستثمر فيه.

إعادة تعريف العلاقة مع أوروبا

الأزمة الدبلوماسية الأخيرة تعكس مرحلة إعادة تعريف العلاقة بين تونس وأوروبا. حيث الاتحاد الأوروبي برغم الشراكة مع تونس إلا أنه ينتقد الملفات الخاصة بالحريات وحقوق الإنسان، وتونس تؤكد بالمقابل أن "السيادة الوطنية خط أحمر"، وأن أي تدخل خارجي لن يُقبل، وأن الشراكة المستقبلية يجب أن تقوم على الندية والاحترام المتبادل، بعيداً عن تاريخ الوصاية والتبعية الطويل.

وإن سعي تونس لتنويع الأسواق والشركاء الاقتصاديين يعكس التطبيق العملي للسيادة الوطنية، ويمنحها هامش تفاوض أكبر، ما يؤسس لنموذج جديد من العلاقات بين الطرفين.

اخترنا لك