بين الظل والنار: العلاقات الإيرانية البريطانية.. تاريخ من التوتّر والعداء

تعود العلاقة المتوتّرة الحذرة بين إيران وبريطانيا إلى زمن الانتداب والاستعمار، وإلى تاريخ ممتد حتى يومنا هذا، من التآمر والمواجهة والحرب على إيران ومصالح الشعب الإيراني وحقوقه.

  • بين الظل والنار: العلاقات الإيرانية البريطانية.. تاريخ من التوتر والعداء
    منذ انتصار الثورة الإسلامية شكّلت العلاقة مع بريطانيا إحدى أكثر ملفات السياسة الخارجية الإيرانية حساسيةً وتعقيداً

رغم الادّعاءات المتكرّرة بعدم الانخراط المباشر في الحرب التي شنّتها "إسرائيل" على إيران، أعلن رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، أنّ بلاده بدأت بتحريك مقاتلات وأصول عسكرية نحو منطقة الشرق الأوسط، في خطوة وصفها بـ"الاستعدادات الاحتياطية" تحسّباً لأيّ مواجهة واسعة النطاق بين إيران و"إسرائيل".

كشفت تصريحات ستارمر، عن انتقال بريطانيا من موقع المراقبة والدعوة إلى "ضبط النفس" إلى خطوات عملانية تنسجم مع مواقف داعمة لـ"إسرائيل" ضمن تحالف غربي أوسع، لطالما عمل على تطويق الجمهورية الإسلامية.

هذه التطوّرات تزامنت مع إعلان القوات البحرية الإيرانية اعتراضها مدمّرة بريطانية في بحر عُمَان، كانت قد دخلت شمال المحيط الهندي، بحسب بيان رسمي صدر عن العلاقات العامّة للمنطقة البحرية الأولى. وأوضح البيان أنّ المدمّرة "كانت تخطّط لإرشاد صواريخ إسرائيلية"، قبل أن يتمّ رصدها ومتابعتها على مدى 24 ساعة، وإجبارها على تغيير مسارها والتراجع عن دخول مياه الخليج.

وينذر السلوك العسكري البريطاني في المياه الإقليمية بإمكانية توسّع نطاق الصراع وامتداده إلى خطوط تماس مباشرة بين الجمهورية الإسلامية والقوى الغربية الداعمة للعدوان الإسرائيلي، وهو ما قد يحوّل المشهد الإقليمي إلى ساحة صدام مفتوحة متعدّدة الأطراف.

العلاقات الأمنية المتوترة بين إيران وبريطانيا قبل اندلاع الحرب

منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شكّلت العلاقة مع بريطانيا إحدى أكثر ملفات السياسة الخارجية الإيرانية حساسيةً وتعقيداً.

إذ لم تكن لندن يوماً مجرّد قوة استعمارية سابقة تركت خلفها أثراً ثقيلاً في الذاكرة الوطنية الإيرانية، بل احتفظت أيضاً بدور متجدّد في مشاريع الهيمنة الغربية على المنطقة، ما جعلها في نظر طهران قوةً منخرطةً دائماً في الصراع معها، وإن اختبأت أحياناً خلف دبلوماسية ناعمة، أو شراكات اقتصادية متقطّعة.

اقرأ أيضاً: الإمام الخميني بعد 32 عاماً على الرحيل.. حضور دائم

كما لم تكن الريبة المتبادلة بين البلدين محصورة يوماً، في الساحة السياسية، بل امتدت لتشمل مستويات أمنية واستخبارية واقتصادية، ما خلق سلسلة من الأزمات المتنقّلة، التي تراكمت ببطء ولكن بثبات، وصولاً إلى اللحظة التي بدأت فيها المنطقة تنزلق نحو حرب مفتوحة.

فعلى الرغم من مشاركة بريطانيا في المفاوضات النووية ضمن مجموعة "5+1"، التي خلصت إلى اتفاق عام 2015، إلّا أنها ساهمت بعد الانسحاب الأميركي منه في الترويج لسردية "الخطر الصاروخي"  الإيراني لتبرير العقوبات الغربية.

وفي تموز/يوليو 2019، احتجزت لندن ناقلة "غريس 1"  الإيرانية في جبل طارق بذريعة انتهاك عقوبات على سوريا، ما حدا بإيران بالردّ  باحتجاز ناقلة بريطانية "ستينا إمبيرو" في مضيق هرمز، في حادثة أعادت أجواء حرب الناقلات، ودشّنت مرحلة استنفار في مياه الخليج.

وعلى مستوى الحرب الأمنية-السيبرانية، تعرّضت منشآت نووية وصناعية إيرانية، بين عامي 2020 و2023، لهجمات سيبرانية منسّقة، أشارت تقارير استخباراتية حينها، إلى تورّط بريطاني فيها بالتعاون مع "الموساد" الإسرائيلي والـ"سي آي إيه"، وفي المقابل، نُسبت إلى إيران هجمات إلكترونية استهدفت مصارف وشركات طاقة بريطانية، بعضها تم التكتّم عليه إعلامياً. 

وفي عام 2022، أعلن حرس الثورة في إيران تفكيك شبكة تجسّس بريطانية تعمل تحت غطاء ثقافي وصحافي، واتُّهمت السفارة البريطانية حينها، بتأدية دور في "إدارة الحرب النفسية" ضد إيران. واعتباراً من 2024، باتت بريطانيا تُذكر رسمياً كأحد "رؤوس محور التآمر الغربي"، وهو ما عبّر عنه بوضوح الأمين السابق لمجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، لصحيفة كيهان الإيرانية بقوله إنّ "بريطانيا خرجت من ظلال واشنطن لتواجهنا بوجهها الاستعماري القديم".

وهكذا تشكّلت عبر السنوات بنية صراع ناعمة، معتمدة على التجسس والهجمات السيبرانية والمواجهات البحرية والإعلامية، ومع كلّ أزمة، كانت بريطانيا تتحوّل أكثر فأكثر من وسيط مفترض إلى طرف مباشر.

حين اندلعت الحرب، بدت لندن كأنها كانت على موعد مع الحقيقة، لتظهر لا كمراقب، بل كطرف رسم خرائط الاشتباك منذ زمن بعيد.

بريطانيا: تاريخ من الريبة والمطامع في إيران

شكّلت إيران، منذ أواخر القرن التاسع عشر، محوراً بالغ الأهمية في خريطة الإمبراطورية البريطانية، سواء كممر إلى الهند، أو كخط دفاع أول في وجه التمدّد الروسي جنوباً. 

إذ لم تكن بريطانيا تنظر إلى إيران كدولة ذات سيادة، بل كمنطقة نفوذ يجب إخضاعها بوسائل مباشرة أو غير مباشرة، وتُعتبر اتفاقية 1907 مع روسيا، التي قسمت إيران فعلياً إلى مناطق نفوذ بين القوتين، وفتحت الباب لتدخّلات سياسية واقتصادية واستخبارية مكثّفة، ذروة هذا النهج.

ولعلّ أهم محطات العلاقة الاستعمارية التاريخية البريطانية الإيرانية هي امتياز النفط الذي حصلت عليه شركة النفط الأنجلو-إيرانية عام 1901، والذي منح البريطانيين السيطرة شبه المطلقة على الموارد النفطية الإيرانية لعقود. شكّلت هذه الشركة، التي تحوّلت لاحقاً إلى "بريتيش بتروليوم"، العصب الحيوي للبحرية الملكية البريطانية، ورافعة اقتصادية ضخمة لإمبراطوريتها، فيما لم ينل الشعب الإيراني من عائدات نفطه سوى الفتات.

وفي مطلع الخمسينيات، قاد رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق مشروعاً وطنياً لتأميم النفط، مثّل تحدّياً مباشراً للهيمنة البريطانية على ثروات إيران، فما كان من بريطانيا إلا أن لجأت، بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، لتنفيذ انقلاب عام 1953 المعروف بعملية "أجاكس"، والذي أطاح بالحكومة المنتخبة وأعاد الشاه محمد رضا بهلوي إلى سدّة الحكم، بعد أن كان قد فرّ هارباً إلى خارج البلاد.

اقرأ أيضاً: "الغارديان": على بريطانيا الاعتراف بدورها في انقلاب عام 1953 في إيران

ولم يكن هذا الانقلاب مجرّد انتصار استخباراتي، بل لحظة تأسيسية في الذاكرة السياسية الإيرانية، كرّست صورة بريطانيا كقوة متآمرة، وعدوّ مباشر لإرادة الشعب.

ومع اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، كانت مشاعر العداء تجاه بريطانيا متجذّرة في وجدان الحركات الثورية والشارع الإيراني. ورأى قادة الثورة، وفي مقدمتهم الإمام الخميني، أن لندن ليست فقط من مهندسي الاستبداد الملكي، بل ضلع أساسي في منظومة النهب الغربي التي حكمت إيران لعقود.

ومنذ اللحظة الأولى، شرعت طهران الجديدة في تفكيك إرث النفوذ البريطاني داخل مؤسسات الدولة والثقافة والإعلام. إلّا أنّ العلاقة لم تنقطع بالكامل، بل ظلت تتأرجح بين القطيعة والتواصل الحذر، في ظل مصالح متداخلة، وتوازنات دولية معقّدة، وملف نووي شديد الحساسية.

ومنذ الثورة وحتى اليوم، ظل الموقف البريطاني من إيران قائماً على معادلة ثلاثية: احتواء البرنامج النووي، كبح النفوذ الإيراني الإقليمي، وتسهيل عودة الشركات البريطانية إلى السوق الإيرانية.

وفي الجغرافيا السياسية، ترى بريطانيا في إيران قوة مقلقة، تقف على مفترق طرق بين آسيا الوسطى والخليج، وتتحكّم بمضيق هرمز، وتمتلك نفوذاً وتحالفات عابرة للحدود من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان. وعليه، فإنّ استراتيجية لندن تميل إلى محاولة إضعاف الدور الإيراني عبر العقوبات، وعمليات التجسس، والتنسيق الأمني مع "إسرائيل"، والضغط على حلفاء إيران، وهو ما برز في الدعم البريطاني للعدوان الإسرائيلي على لبنان أواخر العام المنصرم، والمشاركة مع الولايات المتحدة في الاعتداءات التي طالت اليمن.

ومن الواضح أنّ بريطانيا، رسمت دورها في الموضوع الإيراني، في معظم الأزمات، كلاعب في الظل: دعمت الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، لكنها أبقت على خطابها الدبلوماسي، شاركت في حرب الناقلات، لكنها لم تعلن صراحة عن دورها. دعمت هجمات سيبرانية على منشآت إيرانية، لكنها لم تتحمّل مسؤوليتها علناً.

فهل تخرج المملكة المتحدة، اليوم، وفي ظلّ الانزلاق المتسارع نحو الحرب، من الظلّ لتدخل في نار الحرب المشتعلة؟ 

اقرأ ايضاً: إيران: ندعو بريطانيا إلى الاهتمام بمواطنيها بدلاً من حملتها العدائية ضدنا

"إسرائيل" تشن عدواناً على الجمهورية الإسلامية في إيران فجر الجمعة 13 حزيران/يونيو يستهدف منشآت نووية وقادة عسكريين، إيران ترد بإطلاق مئات المسيرات والصواريخ التي تستهدف مطارات الاحتلال ومنشآته العسكرية.

اخترنا لك