من الملك شابور إلى الحاضر.. الحضارة جزء من الأمن القومي الإيراني

شهدت طهران مؤخراً فعالية وطنية، تخللتها إزاحة الستار عن تمثال الإمبراطور الروماني فاليريان وهو يركع أمام الملك شابور. ما دلالة هذه الفعالية؟

  • من الملك شابور إلى الحاضر.. الحضارة جزء من الأمن القومي
    تمثال يظهر الإمبراطور الروماني فاليريان راكعاً أمام الملك الساساني شابور

في ليلة استثنائية عانق فيها الحاضر أمجاد الماضي، شهدت طهران مؤخراً فعالية وطنية واسعة حملت عنوان "ليلة إيران، ستركعون مرة أخرى أمامنا"، تخللتها مراسم إزاحة الستار عن تمثال الإمبراطور الروماني فاليريان وهو يركع أمام الملك الساساني شابور، في استعادة رمزية للحظة تاريخية تعبر عن عمق الهوية الحضارية الإيرانية وصلابة الإيرانيين في مواجهة القوى الخارجية عبر العصور.

هذا الحدث الذي جرى برعاية رسمية وحضور شعبي كبير لا يمكن فصله عن المناخ السياسي والثقافي الذي تعيشه إيران منذ تصاعد العدوان الأميركي الإسرائيلي، إذ تتجه الدولة نحو إبراز التكامل بين قوة الهوية الوطنية ورسالة الثورة الإسلامية في إطار واحد متماسك.

منذ انتصار الثورة الإسلامية، حافظت الجمهورية على رؤية واضحة تعتبر أن الإسلام هو الإطار القيمي للدولة، فيما يشكل التاريخ الإيراني والحضارة الفارسية جذورها العميقة. ونجحت القيادة الإيرانية على مدى العقود الماضية في تثبيت مفهوم القومية الحضارية القائم على الثقافة والتراث، وليس على التعصب أو العرقية، بما ينسجم مع قيم الثورة ويسهم في بناء وحدة وطنية واسعة. 

هذا التوجه لم يكن طارئاً، بل اتخذ مساراً أكثر وضوحاً بعد السنوات الأخيرة التي شهدت ضغوطاً خارجية مكثفة، ما دفع طهران إلى تعزيز كلّ عناصر الهوية الوطنية والإسلامية على السواء.

وقد اختار قائد الثورة والجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي خلال مراسم عاشوراء الماضية أن يطلب من الحضور إنشاد أغنية "يا إيران"، في خطوة فسرها كثيرون باعتبارها تأكيداً رسمياً على أن الوطنية ليست بديلاً من الهوية الإسلامية، بل هي جزء ثابت من مكونات القوة الداخلية. إذاً، هي مقاربة ثلاثية الأبعاد؛ إيران الإسلامية الوطنية والقومية.

ضمن هذا السياق، جاءت فعالية ليلة إيران التي امتلأت شوارع طهران بحشودها الواسعة. وقدمت الأوركسترا السيمفونية مقطوعات وطنية بارزة، فيما ردّد الحضور مقاطع من أشعار الفردوسي؛ أحد أبرز رموز الأدب القومي، وسط مشاركة شخصيات رسمية وفنية، في دلالة واضحة على تبني الدولة لهذه الرموز باعتبارها جزءاً من خطابها الثقافي.

أما التمثال الذي أزيح عنه الستار، وهو عمل نحتي ضخم يصل ارتفاعه إلى 7 أمتار، فقد تم تصميمه ليجسد لحظة تاريخية لركوع فاليريان أمام شابور الثاني، لكن دلالاته تتجاوز البعد التاريخي، إذ يرسل رسالة معاصرة تعكس ثقة إيران بتاريخها وقدرتها على تحويل الرموز الحضارية إلى لغة سياسية هادئة ومباشرة مناسبة لمرحلة تصاعد التحديات الخارجية. 

وسينقل التمثال لاحقاً إلى مدخل مطار مهرآباد ليكون أول مشهد يراه زوار طهران، في إشارة رمزية إلى المكانة التي تحتلها هذه اللحظة التاريخية في الوعي الإيراني المعاصر.

ورغم محاولات بعض وسائل الإعلام تفسير هذه الفعاليات باعتبارها مؤشراً على قومية متصاعدة في مواجهة الهوية الإسلامية تكشف طبيعة الحدث والجهات المنظمة له أن تعزيز الرموز الحضارية يأتي ضمن السياسة الرسمية للدولة لا خارجها، فإيران تعمل على بناء سردية وطنية موحدة تتضمن الإسلام باعتباره أساساً معنوياً، والتاريخ باعتباره الجذر العميق للهوية. 

ويهدف هذا المسار إلى تحصين الجبهة الداخلية في ظل التوترات الإقليمية المتزايدة وخلق قاعدة ثقافية اجتماعية عريضة تستوعب كل مكونات المجتمع وفق رؤية تعتبر أن قوة الدولة تنشأ من تماسك هذه العناصر لا من تناقضها.

اخترنا لك