هل يبقى لعيد العمال معنى في عصر الذكاء الاصطناعي؟
عيد العمال بين ماضٍ نضالي ومستقبل غامض في عصر الذكاء الاصطناعي، حيث تهدّد الأتمتة بإعادة إنتاج الفوارق الاجتماعية وتغيير مفهوم العمل جذرياً.
-
الروبوتات الشبيهة بالبشر تعمل جنباً إلى جنب مع الموظفين في خط التجميع في مصنع شركة جلوري المحدودة في اليابان
تجمع كلّ المصادر على أنّ منشأ عيد العمال هو الولايات المتحدة الأميركية. لكن، قبل أن يتبادر أيّ انطباع حول هذه المعلومة، ربما من الجدير التوقّف عند تباين السرديات حول هذا العيد، الذي تعتمد أكثر من 100 دولة حول العالم الأول من أيار/مايو مناسبةً للاحتفال به، لكن ليس الولايات المتحدة. ما القصة؟ وكيف سيُغيّر الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب طبيعة العمل والعمال؟
نشأ عيد العمال على خلفيّة الاستغلال الناجم عن بداية الثورة الصناعية، وما رافق النظام الرأسمالي من عقود عمل مُجحفة وأجور متدنيّة بحقّ العمال. وعلى أثر ذلك، بدأت قوى عاملة ذات ميول يسارية تتحرّك للمطالبة بحقوقها داخل الولايات المتحدة.
اتحاد نقابات العمال في الولايات المتحدة – وكان معظم قادته من المهاجرين الأوروبيين – دعا آنذاك إلى إضراب عامّ في الأول من أيار/مايو عام 1886، للمطالبة بثماني ساعات عمل يومياً. بعد ذلك، بدأت سلسلة أحداث دموية طبعت الأيام الأولى من أيار/مايو.
تشير وزارة العمل الأميركية على موقعها الرسمي إلى أنّ عيد العمال (الأميركي) يُحتفل به في أول يوم اثنين من شهر أيلول/سبتمبر، وهو تكريم سنوي للمساهمات الاجتماعية والاقتصادية للعمال الأميركيين. ووفق الموقع، تمّ الاحتفال بعيد العمال للمرّة الأولى في مدينة نيويورك يوم 5 أيلول/سبتمبر 1882.
في سردية وزارة العمل الأميركية عبارات مُلطّفة عند استدعاء تاريخ الأحداث، إذ تعزو خلفيّة الحركة العمالية المتنامية في ذلك الوقت إلى محاولتها "تحسين ظروف العمل والاعتراف بحقوق العمال"، بينما تستخدم السرديات المقابلة مصطلح "استغلال". علماً أنّ موقع الوزارة يشير، في سياق تأريخه لهذا اليوم، إلى وجود جدل حول هوية المؤسس الحقيقي لعيد العمال في الولايات المتحدة.
نحن إذاً أمام تاريخين مختلفين للاحتفال بالعيد، وتاريخين لنشأته، وسرديّتين مختلفتين حول الأسباب والجذور؛ نسخة تعبّر عن عيد عمال عالمي مرتبط بنضال وتاريخ ثوري، ونسخة أخرى تعبّر عن عيد معتدل الطابع تحتفل به أميركا وكندا وبعض دول الكاريبي، لكن من دون خلفيّة احتجاجيّة.
وليس ما سبق مجرّد مقدّمة تاريخية، بقدر ما هو توطئة للسؤال حول المستقبل غير البعيد، حيث تُبيّن المؤشرات أنّ هذا المستقبل سيشهد ثورة جديدة شبيهة بالثورة الصناعية التي أفضت إلى ظهور عيد العمال العالمي. فهل سيبقى لأيّ معنى من معاني هذا العيد وهويته أثر بعد جيلين من الآن؟
ثمّة أسباب وجيهة لطرح هذا السؤال. فكما شهدت الثورة الصناعية خلال القرن الثامن عشر تحوّلات تقنية هائلة أدّت إلى نشوء النظام الرأسمالي الحديث وظهور طبقة تسيطر على وسائل الإنتاج مقابل طبقة عاملة لا تملك سوى قوة عملها، يشهد العالم اليوم بداية ثورة تقنية جديدة يقودها الذكاء الاصطناعي، تعيد من جديد طرح أسئلة العدالة والحقوق في عصر الأتمتة فائقة الذكاء.
وكما عمّق التطوّر التقني وقتها الفوارق الطبقية التي أدت إلى ظروف عمل قاسية، يُطرح التساؤل اليوم: إلى أيّ مدى ستتكرّر أنماط تهميش العمالة قريباً لكن بأشكال جديدة؟ وهل سيؤدّي ذلك إلى تعميق الفوارق الاجتماعية ويمثّل مرحلة متقدّمة من اللاعدالة؟
في هذا الإطار، يكشف تقرير صادر عن منظّمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) الشهر الماضي أنّ السوق العالمية لتقنيات الذكاء الاصطناعي مرشّحة لتحقيق قيمة تتجاوز 4.8 تريليونات دولار بحلول عام 2033، وذلك نتيجة التوسّع السريع في استخدام هذه التكنولوجيا على الصعيد العالمي.
وحذّرت "أونكتاد" في تقريرها من تركّز القوة التكنولوجية في يد عدد محدود من الدول والشركات، ما قد يؤدّي إلى اتساع الفجوات الرقمية وتهميش العديد من البلدان النامية.
وبحسب التقرير، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كعنصر فاعل في رفع كفاءة الإنتاج ودفع عجلة التحوّل الرقمي، غير أنّ استخدامه المتزايد يثير مخاوف متفاقمة تتعلّق بالأتمتة وفقدان الوظائف، إذ يُتوقّع أن تؤثّر هذه التقنيات على ما يقارب 40% من الوظائف عالمياً خلال السنوات المقبلة.
وفي هذا السياق، نبّه صندوق النقد الدولي في تقرير صدر في كانون الثاني/يناير 2024 إلى أنّ اعتماد الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة وتفاقم الفوارق الاجتماعية، فيما أشار تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي، نُشر في مطلع هذا العام، إلى أنّ نحو 41% من الشركات حول العالم تفكّر في خفض عدد الموظفين في المهام التي يمكن أتمتتها باستخدام هذه التكنولوجيا.
وأشارت مديرة صندوق النقد، كريستالينا جورجييفا، إلى أنّ احتمال أن تصل نسبة تأثير الذكاء الاصطناعي إلى نحو 60% من الوظائف في الاقتصادات المتقدّمة، داعيةً إلى ضرورة إنشاء شبكات أمان اجتماعي وبرامج لإعادة تأهيل وتدريب العمال، بهدف التخفيف من الآثار السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي على سوق العمل.
وتتفاوت التقديرات حول بعض أنواع الوظائف الأكثر عرضة للاختفاء مقابل تلك الأكثر أماناً. لكن بشكل عامّ، فإنّ الوظائف التي يُتوقّع أن تظلّ غير قابلة للاستبدال هي تلك التي تعتمد على مهارات بشرية فريدة يصعب على الذكاء الاصطناعي القيام بها على أكمل وجه، مثل: الإبداع، والحكم البشري، والذكاء العاطفي، والتفاعل الجسدي المباشر.
وتشمل هذه الوظائف، على سبيل المثال، رجال الإطفاء والمسعفين والشرطة، الذين يتطلّب عملهم أن يكونوا موجودين جسدياً لاتخاذ قرارات فورية في مواقف معقّدة. كما تشمل بعض أوجه القطاع الصحي، الذي يتطلّب رعاية إنسانية، إضافة إلى مجالات الابتكار والأصالة التي تتطلّب تفكيراً نقدياً، فضلاً عن المهن اليدوية الماهرة، مثل: الكهربائيين والسباكين والبنّائين، والفنيين الذين يقومون بأعمال تتطلّب مهارات جسدية دقيقة وحلّ مشكلات ميدانية.