"الجيش" الإسرائيلي والنزف البشري: نزف في التشكيل النظامي وإنهاك في الاحتياطي

"الجيش" الإسرائيلي يواجه أزمة بشرية عميقة مع نزفٍ كمي ونوعي في القوات النظامية واستنزاف متواصل للاحتياط، ما يهدّد قدرته على خوض حرب متعدّدة الجبهات وسط عجز بنيوي متصاعد.

  • الجيش الإسرائيلي يعاني تراجع نسب الالتحاق بالاحتياط
    "الجيش" الإسرائيلي يعاني تراجع نسب الالتحاق بالاحتياط

تدلّ المؤشرات الصادرة عن أكثر من جهة رسمية وغير رسمية على دخول "الجيش" الإسرائيلي في واحدة من أعمق أزماته البشرية منذ تأسيسه.

فبينما يتآكل العمود الفقري المتمثّل في الخدمة النظامية بفعل موجة تسرّب غير مسبوقة في صفوف الضباط والرتباء، تتعرّض منظومة الاحتياط لاستنزاف متواصل يجعلها أشبه بقوة قتال دائمة لا احتياطية.

ويتزامن ذلك مع بيئة عملياتية واسعة تمتد على جبهات غزة ولبنان وسوريا والضفة الغربية، ومع تحدّيات مالية وتنظيمية تُعمّق الفجوات البنيوية داخل "الجيش". وفي هذا السياق يتبلور نزفٌ مزدوج: كمّي ونوعي في القوات النظامية من جهة، واعتماد مفرط على الاحتياط بما لا يطيق من جهة أخرى.

أولاً: أزمة الخدمة النظامية – نزف كمّي ونوعي

تتفق العديد من التقارير الإسرائيلية، المدعّمة بشهادات قادة في "الجيش" وخبراء، على أنّ "الجيش" الإسرائيلي يواجه، وفقاً لبعض الأدبيات، أخطر أزمة بشرية في تاريخه على صعيد القوات النظامية. وهذه أزمة تمسّ الركيزة المهنية من ذوي الخبرة التي يُفترض أن يستند إليها "جيش" الاحتلال في إدارة حرب متعدّدة الجبهات.

وقد باتت ملامح الأزمة واضحة في الآونة الأخيرة؛ إذ سُجّل انخفاض حادّ في الاستعداد للاستمرار في الخدمة الدائمة، وتزايدٌ في معدلات التآكل بين الضباط والرتباء، إلى جانب موجات استقالات تصيب تحديداً النواة المهنية التي يُعوَّل عليها لقيادة "الجيش" مستقبلاً.

وتُنسب جذور هذه الأزمة، في جزء كبير منها، إلى سياسات اتُّخذت في عهد رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت، أبرزها: تقليص آلاف الوظائف واعتماد "نموذج الخدمة الدائمة الشابة"، الذي أجبر الكثير من الضباط على التسريح المبكر.

وقد أدّت هذه السياسات، برأي خبراء، إلى هروب الكفاءات وتراجع الرغبة في البقاء في الخدمة لأطول فترة ممكنة، وهو ما ترسّخ بصورة مقلقة في المعطيات الداخلية. فقد انخفض استعداد ضباط رتبة "رائد" للبقاء في الخدمة من 58% إلى 37%، وتراجعت النسبة بين الرتباء من 83% إلى 63%.

واتسعت مظاهر الأزمة بعدما أُبلغت اللجنة المختصة في الكنيست بأنّ نحو 600 من عناصر الخدمة الدائمة تقدّموا بطلبات تسريح مبكر. كما ترتفع نسبة عدم التجنيد بين النساء لتقترب من 50%، فيما يصل معدّل التسرّب خلال الخدمة إلى 15%. وهي مؤشّرات تُظهر عمق الخلل البنيوي في مسار تجنيد القوى البشرية وتثبيتها.

ورغم وجود بعض "النقاط المضيئة"، مثل زيادة الحافزية للخدمة القتالية بين الشبان وقدرة "الجيش" على استدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط عند الحاجة، فإنّ هذه المكاسب، برأي مراقبين، لا تعالج جوهر الأزمة. فالاعتماد المتزايد على الاحتياط لا يشكّل حلاً طويل الأمد في ظلّ غياب كتلة نظامية ثابتة من المقاتلين والضباط والرتباء القادرين على قيادة القوات في المعارك الطويلة والمعقدة.

وتؤكّد تقارير أخرى أنّ آلاف الجنود في الخدمة الدائمة، من بينهم مئات الضباط، يطلبون اليوم التسريح المبكر بفعل الإنهاك وانعدام الاستقرار والمسّ بالحقوق والمعاشات والشعور بتراجع التقدير الاجتماعي. وتشير شعبة القوى البشرية إلى وجود عجز فوري يُقدَّر بنحو 12 ألف جندي نظامي يحتاجهم "الجيش" لتغطية الجبهات الممتدة في غزة ولبنان وسوريا والضفة الغربية.

ونُقل مؤخّراً عن رئيس الأركان إيال زامير تحذيره من أنّ عدم كبح الإرهاب اليهودي في الضفة يهدّد تركيز "الجيش" على بقية الجبهات، وأنّ مجموعات المستوطنين قادرة على إشعال الميدان ودفع "الجيش" إلى تحويل قواته من حدود غزة ولبنان نحو الضفة. وعليه، تتشكّل أزمة مزدوجة الأبعاد:

- نزف كمّي يتمثّل في نقص آلاف الجنود والضباط.

- نزف نوعي يتمثّل في مغادرة أصحاب الخبرة والكفاءة.

وهذه المركّبات تجعل من الصعب على "الجيش"، برأي الخبراء، الحفاظ على قاعدة نظامية مهنية قادرة على قيادة الاحتياط والصمود في حرب طويلة أو متعدّدة الجبهات من دون رأس مال بشري مستقر وذي جودة.

 ثانياً: أزمة تشكيل الاحتياط.. إنهاك متواصل

على الطرف الآخر، يواجه تشكيل الاحتياط عبئاً متفاقماً يكاد يتحوّل إلى حالة استنزاف طويلة الأمد. فبعد حرب غزة وتوسّع الانتشار على الحدود الشمالية والسورية والضفة، تكشف مناقشات ميزانية الأمن أنّ "الجيش" يستعدّ لسنة 2026 بوجود 60 ألف جندي احتياط يخدمون في كلّ لحظة أيّ عشرة أضعاف ما كان قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 (6 آلاف فقط). وذلك بناءً على السيناريو الأهدأ الذي لا يتضمّن تصعيداً أو عمليات برية في لبنان أو غزة.

ومع بقاء الجبهات شبه مفتوحة وغياب قانون يُلزم المتديّنين "الحريديم" بالخدمة الإلزامية، لن يتمكّن "الجيش" من تخفيف العبء على الاحتياط، رغم أنّ أوامر الاستدعاء ستعود مطلع 2026 إلى وضعها الطبيعي (شهرين ونصف الشهر)، بدلاً من "الأمر رقم 8".

وينعكس ذلك في تضخّم هائل في التكلفة المالية (1100 شيكل، أي نحو 335 دولاراً يومياً لكلّ جندي)، ومليارات تُهدر بسبب الاستخدام المفرط والفوضوي لتشكيل الاحتياط، إضافة إلى ظواهر خلل واستغلال دفعت وزارة المالية للمطالبة بتحقيقات داخلية.

وتُسجّل أيضاً شكاوى من الغبن لدى بعض دفعات الاحتياط، كما في قضية تقصير خدمة دفعة تشرين الثاني/نوفمبر 2022 إلى أقلّ من 120 يوماً لمنع حصولها على الهبات والمزايا.

ويقرّ "الجيش" بأنّ نحو 17 ألف جندي احتياط لم يخلعوا بزّاتهم منذ 7 أكتوبر، ومع تعدّد الجبهات واحتمال عملية واسعة في الشمال قد يُطلب منهم في 2026 خدمة تصل إلى 70 يوماً سنوياً.

وبينما صُمّم الاحتياط، وفق خبراء، لدعم "الجيش" في الحروب القصيرة، تحوّل اليوم إلى القوة المقاتلة الأساسية في واقع ممتد، ما يهدّد تماسكه الاجتماعي والمعنوي، ويجعل أزمة الاحتياط جزءاً بنيوياً من أزمة القوة البشرية العامّة، وخطراً استراتيجياً على قدرة "الجيش" على الصمود في حرب متعدّدة الجبهات أو طويلة المدى.

اقرأ أيضاً: "الجيش" الإسرائيلي وقانون التجنيد: بين الفجوة البشرية وتمرد الحريديم

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك