"الجيش" الإسرائيلي وقانون التجنيد: بين الفجوة البشرية وتمرد الحريديم
أزمة تجنيد الحريديم تعود بقوة في "إسرائيل" مع تصاعد الضغوط الأمنية والسياسية، وسط خلافات حول "العدالة في ضريبة الدم" وقرار "الجيش" بضم المتدينين وسط اعتراضات حادة.
-
اشتباك "الحريديم" مع شرطة الاحتلال رفضا للتجنيد العسكري خارج قاعدة ميتاف العسكرية، 5 آب/أغسطس 2024
تعود أزمة تجنيد المتدينين - الحريديم إلى الواجهة في لحظة بالغة الحساسية سياسياً واجتماعياً وأمنياً، كأحد أكثر الملفات تعقيداً واستعصاء على الحل في "إسرائيل". إذ بعد عقود طِوال من التأجيل تحت مظلة تسويات هشّة، انفجر الملف مجدداً مع تقاطع ثلاثة متغيرات: انعقاد الكنيست في دورتها الصيفية، حاجة "الجيش" الإسرائيلي الملحة لسد عجز غير مسبوق في القوى البشرية، وضغوط المحكمة العليا لإقرار قانون تجنيد "عادل".
وتزامناً مع التحضيرات لتوسيع العمليات البرية في قطاع غزة، وتراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي بالمؤسسة الأمنية والعسكرية، أطلق رئيس هيئة الأركان العامة في "الجيش"، الفريق إيال زمير قراراً صاعقاً بتوسيع نطاق التجنيد ليشمل عشرات الآلاف من المتدينين - الحريديم، ما أثار غضب الأحزاب الحريدية وسارعت إلى التهديد بزعزعة الاستقرار الحكومي. يأتي ذلك فيما يواجه "الجيش" تحدياتٍ حقيقية تتعلق بتجنيد قوات الاحتياط وسط اتهامات متزايدة للجيش بالتلاعب بالبيانات وإخفاء حقيقة نسب الالتحاق الفعلية ما يسمح لاحقاً بالإعلان عن نسب انضمام 100 %، رغم استبعاد غير الراغبين أساساً من الحسابات.
هذا، ولم تعد أزمة تجنيد الحريديم سياسية أو أمنية فحسب، بل تحولت إلى اختبار حقيقي للنسيج الاجتماعي الإسرائيلي. وبين جنود احتياط منهكين ومستنزفين ومجتمع منقسم حول شعار "المساواة في تحمّل العبء" و"العدالة في توزيع ضريبة الدم"، يقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو عند مفترق طرق، بين مطرقة السياسة وسندان الأمن، ويواجه معضلة صعبة: التمسك بائتلافه الحكومي أو تلبية متطلبات المرحلة الأمنية الحاسمة لتحقيق شعارات "النصر المطلق".
عوامل تفاقم الأزمة
تجدَّد الجدل حول تجنيد الحريديم في "الجيش" الإسرائيلي بفعل ثلاثة متغيّرات متزامنة: انطلاق الدورة الصيفية للكنيست الاثنين الماضي؛ الحاجة الملحّة لـ"الجيش" إلى سد النقص في القوى البشرية؛ واقتراب ساعة الحسم التي فرضتها المحكمة العليا لإقرار قانون جديد للتجنيد، يضمن مبدأَي العدالة والمساواة. هذا، وقد شهِدت قضية تجنيد الحريديم تحولات حادة منذ عقود، وأسهمت في تشكيل حكومات وإسقاط أُخرى.
ولطالما شكّلت هذه الأزمة وقودا للصراع الداخلي وتغذية الشعارات الانتخابية، من قبيل "المساواة في تحمّل العبء"، و"العدالة في دفع ضريبة الدم"، رغم تداخل الأبعاد الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية بشأنها. ومع اتساع رقعة الشبان الحريديم ضمن الفئة العمرية المؤهلة للخدمة، تصاعدت الضغوط على الحكومات لفرض التجنيد، خصوصاً بعد اندلاع حرب "سيوف حديدية" على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، التي وسّعت فجوة القوى البشرية، بفعل خروج أكثر من عشرة آلاف جندي إسرائيلي من دائرة الخدمة (ماتوا أو أُصيبوا)، وأيضاً بسبب التحديات الأمنية والعسكرية الجديدة التي أفرزتها الحرب على جبهات متعددة، ما فرض مراجعة شاملة لتصوّر "الجيش النحيف"، أو "الجيش التكنولوجي".
قنبلة زمير
في خطوة غير مسبوقة، أمر رئيس هيئة الأركان الفريق إيال زمير بالاستعداد لإصدار 50 ألف أمر تجنيد إضافي للشبان الحريديم، بعد 20 ألف أمر أُرسل سابقاً، بما في ذلك استدعاء الشبان من سن 16.5 عاماً من دون تمييز بين حريديم وغيرهم (علمانيين). القرار أحدث صدمة في الأحزاب الحريدية، التي هددت بتعطيل قوانين الائتلاف، والانسحاب منه إن لم يُقرّ قانون تجنيد يراعي شروطهم خلال أسابيع.
يأتي ذلك في ظل إعلان "الجيش" عن حاجته الفورية إلى 12 ألف جندي إضافي، بينهم 7 آلاف في المهام القتالية، استعدادا لمناورة برية واسعة في غزة (عملية "عربات غدعون"). وتشير التحركات العسكرية والسياسية إلى إدراك متنام، حتى لدى الحريديم أنفسهم، بأن نموذج الإعفاء الجماعي لطلاب المعاهد الدينية، لم يعد قابلاً للاستمرار، وأن النسيج الاجتماعي الإسرائيلي على شفا أزمة ما لم تحل هذه القضية.
الأزمة وأن يغلب عليها الطابع العسكري، فإنها لا تتوقف عند حدود "الجيش"، بل تلامس بنية المجتمع نفسه، إذ يرى خبراء أن استمرار إعفاء الحريديم يُضاعف العبء على جنود الاحتياط الذين يصعب عليهم استئناف حياة طبيعية في الدراسة والعمل والأسرة.
وفيما تُعد منظومة الاحتياط العمود الفقري للجيش، فإنها تواجه استنزافاً متصاعداً مع التكرار المستمر للاستدعاء إلى عمليات عسكرية، يصفها البعض بأنها "بلا حسم ولا هدف واضح"، الأمر الذي يُضعف الحافزية والجاهزية لدى تشكيل الاحتياط المنهك، وهذا ما ينطبق على الجدل الحالي حول جدوى توسيع المناورة البرية في قطاع غزة.
خريطة الانقسامات السياسية
بات "قانون التجنيد" الملف الأكثر تفجيراً على طاولة الكنيست في دورته الصيفية التي بدأت الأسبوع الماضي. فالصيغة المطروحة، وفقاً للتسريبات، توازنُ بين "التجنيد الرمزي" و"الإعفاء المنهجي"، ما يثير استياء "الجيش" والمعارضة على حدّ سواء، ويضع القانون تحت اختبار المحكمة العليا.
وانطلاقاً من تسليمها بصعوبة (وربما استحالة في الظروف الراهنة) تمرير قانون يضمن اعفاء منهجيا للحريديم، تسعى الأحزاب الحريدية ("شاس" و"يهدوت هتوراه") إلى إفراغ القانون (المرتقب) من مضمونه، مع التركيز على نقطتَين: أولاً، خفض حصص (أهداف) التجنيد السنوية إلى حدها الأدنى، وجعلها تُحَدَّد بقرار من وزير الأمن وليس بنص قانوني – تشريعي، ما يسهل التلاعب بها؛ وثانياً، منع فرض عقوبات جنائية على المتهرّبين من الخدمة.
وعلى الرغم من إدراكهم أن الحكومة الحالية برئاسة نتنياهو هي الأفضل لهم، إلا أن تهديداتهم بإسقاطها تضعهم أمام مفارقة سياسية صعبة، قد تنقلب عليهم في حال جرت انتخابات جديدة، لا سيّما في ظل تراجع شعبية نتنياهو وتحالفه بحسب استطلاعات الرأي.
وفي هذا السياق السياسي المعقد، تتباين المواقف داخل حزب "الليكود"، ويظهر انقسام واضح بين مَن يفضّل الحفاظ على استقرار الحكومة، ومَن يدفع نحو قانون أكثر عدالة. ويحاول نتنياهو، الذي يمسك العصا من وسطها، التوفيق بين الطرفَين لتفادي أزمة ائتلافية قد تُفكك الائتلاف.
أما أحزاب الصهيونية الدينية، فترى أن التجنيد الشامل ضرورة وطنية، لكن ضمن تفاهمات تُراعي خصوصية الحريديم، وتجنب "إسرائيل" أزمة اجتماعية؛ أما المعارضة، فتقف على الضفة المقابلة، ما بين توجّهات صهيونية تُطالب بتجنيد شامل، ورفض مبدئي من الأحزاب العربية لأي توسعة في نطاق الخدمة العسكرية، بما يطال الشبان الفلسطينيين في أراضي الـ48.
تجنيد الاحتياط: أرقام مضلِّلة واستنزاف متصاعد
يواجه "الجيش" الإسرائيلي تحديات حقيقية تتعلق بتجنيد قوات الاحتياط تحضيرا لعملية "عربات غدعون"، وسط اتهامات متزايدة لـ"الجيش" بالتلاعب بالبيانات وإخفاء حقيقة نسب الالتحاق الفعلية.
وعلى الرغم من المطالبات المتكررة بالشفافية، يرفض الجيش، وفقا لصحيفة هآرتس، الإفصاح عن نسبة الالتحاق في تشكيلات الاحتياط، في وقت تشير فيه تسريبات من قادة ومجندين إلى أن البيانات الرسمية لا تعكس الواقع. إذ أن هناك تعمدا في عدم إرسال أوامر التجنيد إلا لمن أكد مسبقاً استعداده للالتحاق، ما يسمح لاحقاً بالإعلان عن نسب انضمام 100%، رغم استبعاد غير الراغبين أساسا من الحسابات.
وبحسب شهادات جنود من وحدات خاصة، استُخدمت مجموعات "واتسآب" للتواصل مع عناصر الاحتياط قبل إصدار أوامر التجنيد، وتم استبعاد من أبدوا رفضهم. وهو ما أثار تساؤلات عن مصداقية نسبة الـ"100%" التي تروج لها المؤسسة الأمنية والعسكرية.
وتؤكد مصادر عسكرية، وفقاً لتقارير إعلامية، أنّ نسبة من أبدوا استعدادهم للمشاركة، في بعض الوحدات، تبلغ نحو 80%، لكن تلك الأرقام لا تعبر عن صورة دقيقة، خاصة في ظل تباين أنماط الخدمة. فبعض الجنود يحضرون لبضعة أيام في الأسبوع فقط، فيما يلتزم آخرون في عطلات نهاية الأسبوع، ويُحسب الجميع ضمن "الملتحقين". في بعض الكتائب، مثل واحدة متمركزة خارج غزة، يتناوب الجنود أسبوعاً بأسبوع لتقليل الضغط، ما يؤدي إلى تقليص القدرة القتالية بنسبة النصف عملياً.
وعلى الرغم من أنّ القيادة العسكرية تحاول طمأنة الرأي العام الإسرائيلي بالقول إنّ "الناس يلبون النداء"، إلا أنّ الواقع يعكس أزمة متصاعدة، لا تُختزل في نسب التحاق أو بيانات منقحة، بل في شعور متنامٍ داخل صفوف الاحتياط بأنهم يدفعون ثمناً باهظاً، في معركة لا يبدو أن لها نهاية قريبة.