"مجدل شمس".. صرخة مدوية للتذكير بجريمة احتلال الجولان السوري

أوجاع الاحتلال التي امتدت عشرات السنوات استحضرها الجولانيون وهم يشيعون أطفالهم، رافضين استثماراً إسرائيلياً رخيصاً بدمائهم هذه المرة بعد استثمار ممنهج لأراضيهم وثرواتهم ومياههم على مدى أكثر من 57 عاماً.

  • أهالي مجدل شمس يواسي بعضهم البعض في موقع المجزرة التي طالت أطفالهم (أرشيف)

نكأت دماء أطفال مجدل شمس جراحاً عميقة لدى أكثر من 25 ألف سوري يعيشون في 5 قرى محتلة في الجولان السوري، هي مجدل شمس وبقعاتا ومسعدة وعين قنية والغجر. وأعادت الأضواء إلى التضييق المنظم، الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي عليهم منذ الـ5 من حزيران/يونيو 1967 حتى اليوم، وفي العمق جريمة لا تقل خطورة عبر تهجير أكثر من 131 ألف سوري من أكثر من 230 بلدة وقرية ومزرعة في الجولان، بات عددهم اليوم يتجاوز 600 ألف نسمة يعيشون في دمشق ومحيطها.

لم تكن صرخات الجولانيين في وجوه بنيامين نتنياهو ووزيري المال بتسئيل سموتريتش والاقتصاد نير بركات ونواب إسرائيليين آخرين في الكنيست في تشييع أطفالهم يوم الـ28 من تموز/يوليو الماضي، غضباً من المجزرة الإسرائيلية بحق أطفالهم، أو حتى منعاً لاستثمار تلك الدماء لأهداف سياسية داخلية، على الرغم من أهمية هذه الأسباب، بقدر ما كانوا يطلقون صرخات غضب عميقة على عنصرية وتضييق اقتصادي يتعرضون لهما عقاباً لهم بسبب رفضهم "الأسرلة" وتمسكهم بأرضهم وهويتهم السوريتين.

تذكّر تلك المشاهد المؤثرة لمئات الشبان المولودين في ظل هيمنة إسرائيلية كاملة على الجولان، بما فيها فرض القوانين والمجالس المحلية ومصادرة الأراضي وافتتاح مؤسسات تعليمية، بما بدأه آباؤهم في الإضراب المفتوح عام 1982، وإحراق الهوية الإسرائيلية، حتى ضرب رئيس حكومة الاحتلال حينها شمعون بيريز وتحطيم سيارته في مجدل شمس.

مرت أحداث كبيرة على المنطقة، وضمنها الجولان المحتل، من مفاوضات تسوية في مدريد 1991 وأوسلو 1993، وحروب إقليمية وتحرير الجنوب اللبناني في أيار/مايو عام 2000، وتغوّل سياسات ابتلاع الأراضي وتوسع الاستيطان في الجولان المحتل، حتى الحرب التي ضربت سوريا منذ عام 2011، وتأثيرها العميق في القنيطرة.

لكن اللافت بعد كل تلك الأحداث أن جذوة رفض الاحتلال بقيت عميقة ومتأصلة في وجدان المجتمع السوري داخل الجولان، وهو ما عبّر عنه جلياً الجيل الجديد في تلك القرى، على رغم وطأة الضغوط الإسرائيلية في مجتمع محاط بعشرات المستوطنات والقواعد العسكرية ومحطات الإنذار المبكر، وحجم التزييف الذي يمارسه الإعلام الإسرائيلي والإعلام الدائر في الفلك الإسرائيلي.

لا يتعلق الأمر بمصاعب اقتصادية تقليدية في تلك القرى بقدر ما هو مواجهة محاولات جرّ مجتمع بأكمله إلى الاندماج في مؤسسات الاحتلال للحصول على الوظائف أو الانخراط في العملية الاقتصادية والوظائف الحكومية التي حبكتها سلطات الاحتلال، عبر التضييق على الزراعة ومصادر المياه وكل تفاصيل العملية الإنتاجية، عبر مشاريع منظَّمة بدأت منذ عام 1968.

دمرت سلطات الاحتلال عشرات القرى والبلدات والمزارع السورية في الجولان تزيد مساحتها على 1260 كم مربعاً. وفرضت تهجيراً على أبنائه ومعظمهم قرويون ومزارعون، بينما بقي 7 آلاف سوري في القرى الخمس شمالي الجولان تضاعف عددهم، إلى أن تجاوز 25 ألفاً بحسب التقديرات حالياً.

تدمير تلك القرى وفّر للاحتلال مساحات هائلة أقام في 60 في المئة منها معسكرات وقواعد عسكرية، بينما سيطر 23 ألف مستوطن يقيمون بـ 33 مستوطنة على 500 ألف دونم من أفضل الأراضي الزراعية في العالم بأسره. ووفرت تلك المساحات مزارع خصبة ومراعيَ وفرت أكثر من 50 في المئة من استهلاك "إسرائيل" من اللحوم، ومصادر مياه تشكل أكثر من 40 في المئة من احتياطيات مياه الشرب للإسرائيليين، ومجمعات سياحية فارهة تدرّ عشرات ملايين الدولارات سنوياً.

لم يجد أهالي القرى الخمس وسيلة للمحافظة على هويتهم وسط هذا التغول الإسرائيلي أفضل من خلق استقلالية اقتصادية تُبعدهم عن الاندماج في اقتصاد الاحتلال. طوروا زراعة التفاح والكرز والكرمة بعد إقامة مشاريع ري بأموالهم تضمنت إقامة نحو 600 خزان لتجميع مياه الأمطار وإنشاء أنظمة لتخزين وحفظ المحاصيل، الأمر الذي مكّنهم من إنتاج نحو 45 ألف طن من التفاح سنوياً، استجرت الحكومة السورية جزءاً كبيراً منها قبل عام 2012 عندما سيطر مسلحو النصرة على معبر القنيطرة، وتوجهوا في الأعوام اللاحقة بإنتاجهم إلى البلدات والمدن في الجليل، وحتى في الضفة الغربية.

نجحت تلك الاستقلالية الجزئية في توفير مجال للتحرك في رفض مشاريع كبيرة، بينها انتخابات "المجالس المحلية" الإسرائيلية والتصدي لمشروع التوربينات الهوائية لإنتاج الكهرباء، الذي توقف أكثر من مرة من جرّاء تصدي أبناء الجولان المحتل له، مع أنه استمر لاحقاً بالقوة وابتلع فعلياً أكثر من 3500 دونم من الأراضي الزراعية الخصبة.

كل تلك الأوجاع استحضرها الجولانيون، وهم يشيّعون أطفالهم، رافضين استثماراً إسرائيلياً رخيصاً بدمائهم هذه المرة، بعد استثمار ممنهج لأراضيهم وثرواتهم ومياههم، على مدى أكثر من 57 عاماً، هي عمر الاحتلال.