البحر الكاريبي: بين ذرائع واشنطن ومعادلة الردع الفنزويلية
إعلان مادورو "حالة الاضطراب الخارجي" بدا بمنزلة أداة لإضفاء طابع مؤسساتي على خيار الدفاع، وليس إشارة على انزلاق نحو المواجهة مع الولايات المتحدة، التي تحاول إلباس تحركاتها في البحر الكاريبي طابع "الحرب على المخدرات".
-
البحر الكاريبي: بين ذرائع واشنطن ومعادلة الردع الفنزويلية
لم يكن توقيع الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، على مرسوم "حالة الاضطراب الخارجي" مجرد إجراء قانوني يندرج في إطار صلاحيات استثنائية، وإنما خطوة محسوبة تستبطن رسالة سياسية ودستورية في آن واحد. فالمرسوم الذي أُعلن منذ أيام جاء تتويجاً لأسابيع من التحرشات الأميركية في البحر الكاريبي، من اعتراض قوارب صيد إلى ضرب سفن مدنية بذريعة "مكافحة المخدرات". وفي خلفية هذا المشهد، كانت واشنطن قد حشدت مدمرات وغواصة نووية وقوات خاصة على مقربة من السواحل الفنزويلية، ما اعتُبر تهديداً مباشراً للأمن الوطني. ولذلك، بدا إعلان "الاضطراب الخارجي" بمنزلة أداة لإضفاء طابع مؤسساتي على خيار الدفاع، وليس إشارة على انزلاق نحو المواجهة.
اللافت في هذه الخطوة أنها لم تُعرض كقرار فوقي منفرد، وإنما جاءت في سياق تعبئة شاملة شاركت فيها مؤسسات الدولة بكاملها. فالدستور الفنزويلي لعام 1999 يتيح إعلان هذه الحالة عندما يتهدد خطر خارجي سلامة الأمة، ويُلزم السلطة التنفيذية بعرض المرسوم أمام الجمعية الوطنية والمحكمة العليا خلال 8 أيام. وبهذا المعنى، أصر مادورو على إظهار أن الدفاع عن الوطن ليس نزوة شخصية ولا استغلالاً للطوارئ، وإنما هو امتداد لنصوص دستورية تتضمن رقابة برلمانية وقضائية. وهي صياغة تحاول أن تعزل فنزويلا عن تهمة "الحكم الفردي"، التي غالباً ما تستخدمها الدعاية الأميركية لتبرير تدخلاتها.
لكن ما يضفي على الإعلان وزنه الفعلي هو اقترانه بتكريس مبدأ "الدفاع الشامل"، أي اعتبار حماية السيادة مسؤولية مشتركة بين الجيش والشرطة والكوميونات والميليشيا الشعبية. أعاد مادورو تأكيد أن فنزويلا تملك اليوم شبكة دفاعية تتوزع على 335 منطقة تكاملية وأكثر من 5 كوميونات، تتكامل فيها الوحدات العسكرية مع القواعد الشعبية. وبهذه الهندسة الأمنية تتحول فكرة "الاضطراب الخارجي" من مجرد نص إلى تجربة ملموسة يتدرب عليها ملايين المتطوعين، ما يجعل من أي عدوان محتمل معركة طويلة الأمد لا يمكن حسمها بعملية خاطفة.
إلى جانب هذا البعد الداخلي، حرصت كراكاس على توسيع مظلة الشرعية الإقليمية والدولية. فقد جاء توقيع المرسوم بعد أيام قليلة من مشاركة وفدها في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث تلقت دعماً من دول "بريكس" و"عدم الانحياز" ومجموعة "سيلاك". في تلك الاجتماعات شدد وزراء خارجية كوبا والمكسيك وإيران وروسيا على رفض عسكرة الكاريبي والتنديد بانتهاك معاهدة "تلاتيلولكو" التي حوّلت القارة إلى منطقة خالية من السلاح النووي. هذا الإجماع النسبي عزز موقف فنزويلا بأنها لا تتحرك في عزلة، وأن مرسومها الدفاعي يجد سنداً في القانون الدولي الرافض لاستخدام القوة خارج مجلس الأمن.
وفي السياق ذاته، برز التنسيق المتنامي مع كولومبيا كأحد أعمدة الاستراتيجية الفنزويلية الجديدة، فقد أعلن مادورو خلال احتفالية الذكرى العشرين للقيادة الاستراتيجية للقوات المسلحة أن "منطقة السلام والسيادة" المشتركة على الحدود تسير بخطى ثابتة. واللقاءات التي جمعت ممثلين عسكريين وحكوميين من الجانبين في الأمازون والحدود الغربية لم تقتصر على الترتيبات الأمنية، وإنما شملت أيضاً مشاريع اقتصادية وتنموية. والرسالة المراد إيصالها واضحة: تحويل الحدود من خاصرة رخوة إلى جسر للتكامل، وإغلاق الطريق أمام محاولات واشنطن استغلال الجغرافيا الكولومبية كمنصة لزعزعة الاستقرار في فنزويلا.
هذا التنسيق مع بوغوتا يحمل دلالات أبعد من مجرد تنسيق حدودي. فالرئيس الكولومبي، غوستافو بيترو، كان من أوائل من شككوا في سردية "كارتل دي لوس سوليس" التي تتذرع بها واشنطن لتصوير فنزويلا كدولة مخدرات. اعتبر بيترو أن هذه الرواية لا تقل اصطناعاً عن أكذوبة "أسلحة الدمار الشامل" في العراق. ومع هذا الموقف، يتعزز خط دفاع سياسي يقطع الطريق على محاولات تبرير الحرب بذريعة المخدرات، وهو ما يفسر تكرار الخطاب الرسمي الفنزويلي بأن المعركة الحقيقية ليست مع تجارة السموم، وإنما مع إمبراطورية تسعى للسيطرة على أكبر احتياط نفطي في العالم.
ومن ناحية أخرى، لم يكن إعلان "الاضطراب الخارجي" منفصلاً عن مناورات عسكرية واسعة شملت محاكاة كوارث طبيعية وهجمات معادية. هذه التدريبات التي شارك فيها عشرات الآلاف من عناصر الجيش والشرطة والمتطوعين جسدت عملياً ما يعنيه الاستعداد لمواجهة متغيرات مفاجئة. وبالنظر إلى حوادث الشهر الماضي، من قصف قوارب إلى اعتراض سفينة صيد، فإن الرسالة واضحة: أي تحرك أميركي لن يُقابل بالارتباك، وإنما بمنظومة دفاعية مستعدة لمختلف السيناريوهات. وهذا ما يمنح المرسوم طابعاً وقائياً، إذ يحوّله إلى أداة ردع قبل أن يكون حالة طوارئ معلنة.
وعلى المستوى الإعلامي، حاولت واشنطن إلباس تحركاتها طابع "الحرب على المخدرات"، لكن الوقائع الميدانية لا تدعم هذه الرواية. تقارير الأمم المتحدة نفسها تشير إلى أن أكثر من 80% من الكوكايين المتجه إلى الولايات المتحدة يسلك طرقاً عبر المحيط الهادئ وكولومبيا والإكوادور، فيما لا يمر عبر فنزويلا سوى نسبة ضئيلة. ولذلك فإن تحويل مياه الكاريبي إلى مسرح لأساطيل نووية ومقاتلات "إف-35" لا ينسجم مع مهمة تعقب زوارق صغيرة. وهذه المفارقة هي التي دفعت مادورو إلى القول إن بلاده تدفع ثمن تمسكها بالاستقلال، وإن الحرب الإعلامية والنفسية ليست سوى غطاء لغرض استراتيجي أبعد.
إن ما يزيد الصورة تعقيداً هو تشابك الأزمة مع ملف إقليم إيسيكيبو. فبينما تتمسك كراكاس بحقوقها التاريخية استناداً إلى اتفاق جنيف لعام 1966، تمضي شركات النفط الأميركية الكبرى في الاستثمار في المياه المتنازع عليها مع دولة غويانا المجاورة تحت حماية الأسطول الأميركي. ومن هنا يظهر أن مرسوم "الاضطراب الخارجي" لا يقتصر على ردع محتمل في البحر الكاريبي، وإنما يمتد إلى حماية ثروة طبيعية ترى فنزويلا أنها جزء لا يتجزأ من سيادتها. وإذا كان النزاع الحدودي مع غويانا قديم العهد، فإن انخراط واشنطن المباشر جعله ساحة اختبار للتوازن الدولي برمته.
في قلب هذا المشهد تتضح ملامح ما يمكن وصفه بـ"معادلة الردع المتبادل". الولايات المتحدة تمتلك ترسانة بحرية وجوية هائلة، لكنها تواجه خصماً يمتلك خبرةً في مقاومة الحصار والانقلابات، ويملك قاعدة اجتماعية متماسكة وميليشيا شعبية قوامها ملايين المتطوعين. وكولومبيا، التي لطالما كانت ورقة ضغط بيد واشنطن، تتحول اليوم إلى شريك في بناء "منطقة سلام"، ما يحدّ من قدرة الإمبريالية على عزل فنزويلا. أما داخلياً، فإن إعلان الاكتفاء الغذائي المتزايد وبرامج الإصلاح الاجتماعي يعطي إشارات إلى أن الاقتصاد الوطني يُهيأ للصمود في وجه أي حصار أشد قسوة.
وهكذا يظهر أن "حالة الاضطراب الخارجي" ليست سوى فصل جديد في صراع طويل بين مشروع إمبريالي يسعى لفرض الوصاية على موارد القارة، وتجربة بوليفارية ترفع شعار السيادة في مواجهة العواصف. وقد تراهن واشنطن على "حادث" يبرر ضربةً محدودة، لكن كلفة المغامرة تزداد مع كل يوم. فالمواجهة لن تبقى محصورةً بين بلدين، وإنما ستمتد إلى توازنات إقليمية ودولية تجعل من الكاريبي مسرحاً لصراع أوسع على معنى الاستقلال في القرن الـ21. وفي قلب هذا الصراع، ترفع فنزويلا راية مقاومة قد تحدد لا مستقبلها فقط، وإنما ملامح النظام الدولي المقبل.