الحرب التجارية بين أميركا والصين.. هل تعيد رسم ملامح النظام العالمي؟
بينما تتخبط الولايات المتحدة في أزماتها الداخلية، تمضي الصين بثبات نحو إعادة تشكيل النظام العالمي، مدفوعة بتصاعد الحرب التجارية وسعيها لتكريس نظام أكثر تعددية وتوازناً في موازين القوى الدولية.
-
تبدو الصين أكثر استعداداً للرهان على الزمن، بينما تتصرف واشنطن تحت ضغط قلقها العميق من فقدان موقعها المهيمن
يكابد الاقتصاد العالمي نتائج السياسات الأميركية المنفردة في التجارة والنقد، وتكشف التطورات الراهنة عن تحول عميق في موازين القوى الدولية، في وقت ينهار فيه النظام العالمي ببطء وتظهر الصين كقوة تطمح لإعادة تشكيل ملامح نظام عالمي أكثر تعدداً وأقل تمركزاً، في حين يواجه النظام السياسي والاقتصادي داخل الولايات المتحدة تحديات متراكمة.
يبدو مشهد الولايات المتحدة أكثر اضطراباً من أي وقت مضى، وتنعكس هذه المشاكل الداخلية عالمياً في الحرب التجارية والعودة إلى مسار العسكرة كمحاولة لتصدير الأزمة خارج حدود الإمبراطورية وليس التصدي إليها وحلُّها. وفي حين تعكس السياسة الجمركية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب نهجاً مرتجلاً في إدارة الأزمة الاقتصادية، ترد الصين مع كل جولة تصعيد بالمثل، متمسكةً بموقف واضح قائم على مبادئ المساواة والاحترام المتبادل.
عندما أعلن ترامب عن موجة الرسوم الجمركية المتتالية ضد الصين، كانت الساحة السياسية الداخلية في الولايات المتحدة تعكس أزمة داخلية تتفاقم مع مظاهر الانقسام والعجز السياسي، في حين عكست استجابات الصين ثباتاً في الموقف وإدراكاً كاملاً لواقع الحرب التجارية وصورة مختلفة كلياً عن طريقة إدارة شؤون الدولة. ويعكس هذا الفارق الذي ما زلنا نشاهده ونقرأ عنه ما هو أعمق من مجرد اختلاف استراتيجيات أو نظم سياسية أو مصالح اقتصادية؛ إنّه يكشف التغيرات المتسارعة في موازين الشرعية والكفاءة التي طالما ادّعت واشنطن احتكارها في إدارة الشأنين الداخلي والخارجي.
لقد اندفعت واشنطن نحو تصعيد شامل بإعلان رسوم تصل إلى 145% على الواردات الصينية، مع تهديدات بفرض رسوم إضافية تصل إلى 245%، في حين ردت بكين بفرض 125% على السلع الأميركية، مؤكدةً أنّها لن تتراجع أمام الضغوط. ولم تأتِ استجابات بكين لتعكس ردود فعل انفعالية، وإنّما استراتيجية محسوبة جمعت بين الرد بالمثل وتوسيع دائرة التحالفات التجارية وتقليل الاعتماد على السوق الأميركي وتعزيز البنية الداخلية للاقتصاد. وفي كل خطوة، كانت الصين تراهن على الزمن، وعلى تآكل قدرة واشنطن على إدارة معارك اقتصادية مفتوحة في ظل أزماتها البنيوية المتراكمة.
البيانات الخاصة بالولايات المتحدة نفسها تكشف فشل هذه السياسات في معالجة ما تدّعي معالجته. فقد ارتفعت نسب التشرُّد إلى مستويات قياسية، وتجاوز عدد ضحايا العنف المسلح حاجز 47 ألف قتيل خلال عام 2024، وسط نظام صحي يوصف بالأسوأ بين دول العالم الغني، حيث تستهلك الرعاية الصحية ما بين 15 إلى 18% من الناتج المحلي دون أن تنجح في ضمان خدمات أساسية لملايين المواطنين.
وبالمقابل، من الجَليّ أن الصين نجحت في الحفاظ على استقرارها الاجتماعي والاقتصادي رغم الضغوط الخارجية على مدار العقدين الماضيين، وهو ما يرسّخ تدريجياً صورة نظام قادر على حماية مواطنيه بفاعلية أكبر وضمان الحد الأدنى – على الأقل – من الأمان الاجتماعي.
وكان لافتاً خلال التصعيد الأخير بين الصين والولايات المتحدة توقف بكين الكامل عن استيراد الغاز الطبيعي المسال من واشنطن لأكثر من شهرين، بالتوازي مع مضاعفة وارداتها من روسيا. لم تكن هذه الخطوة مجرد رد فعل اقتصادي بل جزءاً من خطة استراتيجية أشمل تهدف إلى إعادة توجيه اعتمادات الطاقة بعيداً عن الولايات المتحدة، بما يعزز الاستقلالية ويقلل من التعرض للابتزاز عبر الطاقة، في وقت تزداد فيه التقلبات في أسواق الطاقة العالمية. بكين لم تتوقف عند هذا الحد، وإنما سعت أيضاً إلى تدويل التعامل بالذهب عبر إنشاء مرافق تخزين في الخارج، في خطوة تحمل بوضوح طابع تحدٍ للنظام المالي الدولي القائم على الدولار.
وألقت الحرب التجارية بآثار ثقيلة على حركة التبادل التجاري، مع تسجيل انخفاض حاد في شحنات الحاويات والبضائع من الصين إلى الولايات المتحدة. أظهرت بيانات حديثة أن حجوزات الحاويات المتجهة إلى أميركا تراجعت بنحو 45% مقارنة بالعام الماضي، فيما توقعت موانئ رئيسية مثل لوس أنجلوس انخفاضاً في حركة البضائع بمقدار الثُلُث، مع تصاعد الظاهرة المعروفة بـ "الرحلات الفارغة". هذا التراجع الحاد لا يعكس فقط أثر الرسوم الجمركية، وإنما يعبر عن حالة من الترقب والجمود داخل الأسواق، حيث يتريث التجار بانتظار انفراج أوضح في الأفق السياسي.
وفي المقابل، عززت الصين موقعها كفاعل مرن بإعادة توجيه صادراتها، مستفيدةً من شبكة بديلة من الشركاء التجاريين، بينما يبدو أنّ الاقتصاد الأميركي هو من يتحمل وطأة هذه السياسات عبر تباطؤ واضح في سلاسل التوريد وارتفاع كلفة الاستيراد، وهو ما بدأ ينعكس بالفعل على أسعار المستهلكين الأميركيين.
لم يقتصر الرد الصيني على الجانب الاقتصادي المباشر، إذ تعمل بكين بتأنٍ على بناء شبكات تحالفات أوسع مع بلدان الجنوب العالمي، مستفيدة من حالة الإحباط العميقة التي خلفتها السياسات الأميركية خلال العقدين الماضيين. وقد وجدت الصين في مبادرة الحزام والطريق، ومشاريع التعاون ضمن منظمة شنغهاي ومجموعة البريكس الموسعة، أدوات فعّالة لتعميق هذا التوجه، مستندة إلى خطاب يركز على النديَّة والتعاون لا الإملاء والهيمنة.
وفي الوقت ذاته، تحاول واشنطن تخفيف وقع الرسوم الجمركية داخلياً عبر تصريحات متضاربة: تارة تلمّح إلى إمكانية خفض الرسوم، وتارة أخرى تؤكد الاستعداد لمزيد من التصعيد. وهذا الارتباك يوضِّح أنّ واشنطن لم تستند منذ البداية إلى استراتيجية واضحة بقدر ما كانت تتخبط بين شعارات داخلية للحفاظ على الشرعية وضغوط اقتصادية يصعب التحكُّم بمفاعيلها.
وإذا كان هدف إدارة ترامب المعلن هو إعادة تنشيط الصناعة الأميركية، فإنّ النتيجة الفعلية جاءت على النقيض من ذلك تماماً: ارتفاع أسعار السلع واضطراب سلاسل التوريد وتآكل ثقة الشركاء الدوليين في مصداقية الالتزامات الأميركية.
ومن جهتها، بدت بكين أكثر حذراً في خطابها الرسمي، مؤكدةً أنّ أبواب الحوار مفتوحة شرط أن يقوم التفاوض على أساس النديَّة والاحترام المتبادل، بعيداً عن الضغوط أو التهديدات. وفي الوقت ذاته، لم تتردد بكين في التأكيد على استعدادها لمواصلة المواجهة حتى النهاية إذا فرضت الظروف ذلك. هذا الخطاب المتوازن بين الانفتاح والحزم منح بكين مساحة أوسع لكسب التعاطف الدولي، خصوصاً بين الدول التي سبق أن اختبرت التكلفة الباهظة للهيمنة الأميركية.
تصعيد الحرب التجارية دفع الصين أيضاً إلى تعزيز إنتاجها الداخلي وتقليل اعتمادها على واردات التكنولوجيا العالية من الغرب، رغم التحديات الكبرى في هذا المجال. ومع ذلك، فإنّ المقاربة الصينية القائمة على التخطيط بعيد المدى، وتوجيه الاستثمارات نحو الابتكار، تبدو قادرة على تحقيق نتائج تدريجية، في وقت تظهر فيه المؤسسات الأميركية الكبرى علامات اضطراب حقيقي، مع تزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الداخلية.
ولم يكن مفاجئاً أن تشهد الأسواق المالية الأميركية اضطرابات واسعة، انعكست في تراجع حاد لقيمة الدولار مقابل العملات الرئيسية، وانخفاض حاد في مؤشرات الأسهم. هذه المؤشرات تعكس قلقاً عميقاً في الأوساط الاقتصادية العالمية حيال اتجاهات السياسة الأميركية، ليس فقط بسبب الرسوم الجمركية، وإنّما أيضاً بسبب تآكل مبدأ استقلالية المؤسسات الاقتصادية، في ظل تهديدات ترامب الصريحة بإقالة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، بسبب خلافات على السياسات النقدية، وهو ما لم يتحقق.
وفي الخلفية الأعمق للصراع، يلوح تحول أوسع في النظام العالمي. تحاول الولايات المتحدة التمسك بموقعها المهيمن عبر إجراءات أحادية، في حين تبدو الصين ومعها كتلة من دول الجنوب العالمي عازمة على المضي في بناء نظام أكثر توازناً وتعددية.
ويتجلى ذلك في تصاعد استخدام العملات المحلية في التبادل التجاري، وإطلاق مبادرات لربط الأسواق دون المرور عبر النظام المالي الأميركي، بما يؤشر إلى اتجاه تاريخي ناشئ يصعب عكسه أو كبحه بمجرد فرض رسوم جمركية أو حتى توقيع اتفاقيات قسرية بين أطراف غير متكافئة.
ورغم الإشارات المتناقضة التي تطلقها إدارة ترامب بين الحين والآخر، فإنّ جوهر استراتيجيتها يبدو واضحاً: الضغط حتى أقصى الحدود لإجبار الصين على تقديم تنازلات جوهرية. لكن بكين، مدفوعة بوعيها العميق بتوازنات القوى العالمية الجديدة، تدرك أن التنازل في هذه المرحلة قد يُكلفها مستقبلها الاستراتيجي، ولذلك تتصرف وفق حسابات طويلة الأمد تتجاوز اللحظة الآنية وجوانب الصراع القائمة حالياً.
ورغم الضجيج الإعلامي الكبير الذي يرافق كل جولة تصعيد أميركية، فإنّ قراءة متمعنة لحركة الأسواق الدولية واتجاهات التحالفات الجديدة توضح أنّ الصين نجحت إلى حد بعيد في تحييد جزء مهم من تأثير الضغوط الأميركية. إذ إنّ الدول المتضررة من تصاعد التوترات التجارية، لاسيما في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، تجد في بكين شريكاً أكثر اتزاناً وقدرة على تقديم بدائل بعيداً عن منطق الإملاءات الذي أرهق الكثير من بلدان الجنوب العالمي على مدار عقود طويلة. وتدرك هذه الدول أنّ الرهان على الانخراط الكامل في المنظومة الأميركية لم يعد مأمون العواقب، وأن تنويع العلاقات أصبح ضرورة وجودية لمواجهة التقلبات العنيفة في السياسات الأميركية.
قد تكون الحرب التجارية في ظاهرها معركة حول نسب الرسوم الجمركية، لكنها في جوهرها صراع أوسع على تحديد ملامح النظام العالمي القادم يتلخَّص في صراع بين رؤيتين للعالم: رؤية تسعى إلى الحفاظ على امتيازات تاريخية مهما كان الثمن، وأخرى تحاول إعادة توزيع الفُرص ضمن توازن أكثر عدلاً.
وفي هذا الصراع الجاري، تبدو الصين أكثر استعداداً للرهان على الزمن، بينما تتصرف واشنطن تحت ضغط قلقها العميق من فقدان موقعها المهيمن. وبين هذين المسارين، تواصل المعركة تشكيل معادلات جديدة سيكون من الصعب العودة بعدها إلى قواعد اللعبة القديمة، فيما ينقسم العالم، تدريجياً، بين من يميل إلى الشرق ومن لا يزال يؤمن بالمظلة الأميركية والغرب الأوروبي.
وفي حين تبدو المعركة طويلة الأمد، فإنّ مسار الأحداث يشير بوضوح إلى أنّ العالم يتغير، وأنّ مراكز القوة الاقتصادية والسياسية تتحرك تدريجياً نحو خارطة جديدة تتجاوز الثنائية القطبية التقليدية، دون أن تكرر بالضرورة مآزقها القديمة.