الغرب يحاصر روسيا في العلن ولا يتخلى عن معادنها في الخفاء.. التيتانيوم نموذجاً

يظهر تحليل بيانات الجمارك الروسية أن موسكو باعت ما لا يقل عن 308 ملايين دولار من التيتانيوم إلى الاتحاد الأوروبي، عبر فرعيها في ألمانيا والمملكة المتحدة، بين شباط 2022، وتموز 2023.

  • الغرب يحاصر روسيا في العلن ولا يتخلى عن معادنها في الخفاء.. التيتانيوم نموذجاً
    الغرب يحاصر روسيا في العلن ولا يتخلى عن معادنها في الخفاء.. التيتانيوم نموذجاً

من يسمع القادة الغربيين وهم يهددون في العلن روسيا بفرض المزيد من العقوبات عليها بسبب الحرب الأوكرانية، ويتوعدون بتشديد الحصار عليها، يظن أن بقاءها يعتمد كلياً على الغرب، ثم ما يلبث بعد التمحيص أن يكتشف حقائق مختلفة كلياً، وإن لم تكن معكوسة جزئياً. 

فالغرب وبعد أكثر من عامين من الحرب الأوكرانية، وبالرغم من فرضه القطيعة الكاملة مع موسكو، لم يستطع الانفصال عنها اقتصادياً. فروسيا تواصل حتى يومنا هذا، تصدير النفط والغاز اللذين يصلان في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة وحلفائها، والأهم أن الشركات الروسية، ما زالت قادرة على بيع كل شيء للدول الغربية، من الماس إلى اليورانيوم، إضافة الى المواد المخصصة للاستخدامات الدفاعية والعسكرية وفي مقدمتها معدن التيتانيوم.

أرباح روسيا من التبادل التجاري مع أوروبا

بين آذار/مارس 2022، وتموز/يوليو 2023، استوردت أوروبا ما قيمته 13.7 مليار يورو من المواد الخام الحيوية الأساسية من روسيا، (بحسب بيانات يوروستات، ومركز الأبحاث المشترك التابع للاتحاد الأوروبي)، كما وصلت أرباح صادرات روسيا من هذه المواد، إلى أكثر من 3.7 مليار يورو، بين كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو 2023، بما في ذلك 1.2 مليار يورو من معدن النيكل. كذلك يقدر "مركز السياسة الأوروبي" أن ما يصل إلى 90% من بعض أنواع النيكل المستخدمة في أوروبا تأتي من شركة "موردين روس".

أهمية التيتانيوم واستخداماته

التيتانيوم معدن قوي مثل الفولاذ ولكنه أخف بنسبة 45%، وأكثر مقاومة للحرارة والتآكل، وتأتي أهميته نتيجة استخداماته في منتجات متعددة: بدءاً من الطلاء، مروراً بالأطراف الاصطناعية والبراغي والألواح الطبية التي تغرس في جسم الإنسان لتدعيم العظام المكسورة أو المتهشمة، وانتهاءً بصناعة الطائرات المدنية والعسكرية، بهدف إنتاجها لتكون أخف وزناً.

تعدّ شركة VSMPO-AVISMA، أكبر منتج للتيتانيوم في العالم، وهي مملوكة جزئياً لشركة Rostec، ( تكتل دفاعي روسي يمتلك مئات الشركات، ويخضع لعقوبات أميركية وأوروبية)، يتولى إدارتها حليف الرئيس بوتين، سيرغي تشيميزوف، كون الرجلان كانا ضابطين KGB في ألمانيا الشرقية في ثمانينيات القرن العشرين.

وكانت موسكو استحوذت في العام 2020، على ما يقرب من 15% من إنتاج الإسفنج العالمي من التيتانيوم، وهي المرحلة الأولى في صنع معدن التيتانيوم.

اللافت أن VSMPO-AVISMA مع أنها مملوكة جزئياً لشركة Rostec، لم تخضع للعقوبات من قبل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، باستثناء أوكرانيا وكندا. والمفارقة أن وزارة التجارة الأميركية فرضت في أيلول/سبتمبر الماضي، ضوابط على صادرات شركة VSMPO، بذريعة "مشاركتها بشكل مباشر في إنتاج وتصنيع منتجات التيتانيوم والمعادن للجيش الروسي وأجهزة الأمن"، لكن هذه الضوابط اقتصرت فقط، على حظر تصدير السلع إلى الشركة في روسيا، وليس تصدير التيتانيوم إلى الولايات المتحدة.

وتعقيباً على قضية العقوبات، قال غيوم فوري، الرئيس التنفيذي لشركة "إيرباص"، للصحافيين في حزيران/يونيو 2022: "نعتقد أن فرض عقوبات على التيتانيوم من روسيا سيكون بمنزلة عقوبات على أنفسنا".

الشركات الغربية المستوردة للتيتانيوم الروسي 

بعيداً من التعهدات الأوروبية بالانفصال التام عن روسيا على الصعد كافة، فإن الأرقام تكشف نفاق الأوروبيين، وعدم استغناء الشركات الأوروبية عن التيتانيوم الروسي.

وتبعاً لذلك، يظهر تحليل بيانات الجمارك الروسية أن شركة Vsmpo-Avisma، باعت ما لا يقل عن 308 ملايين دولار من التيتانيوم إلى الاتحاد الأوروبي، عبر فرعيها في ألمانيا والمملكة المتحدة، بين شباط 2022، وتموز 2023. 

وبالمثل، تكشف بيانات التجارة الأميركية لعام 2023، أن المشتريات الأميركية من التيتانيوم الروسي، بلغت قيمتها نحو 47 مليون دولار، أي أقل بنسبة 80% تقريباً من ذروة استيرادها للتيتانيوم عام 2019.

علاوة على ذلك، صدّرت شركة VSMPO في العام 2022 ما يقرب من 15 ألف طن من التيتانيوم، بقيمة 370 مليون دولار. أما الغالبية العظمى منها، فقد جرى إرسالها إلى الدول الغربية التي دعمت أوكرانيا، وفقاً لقاعدة بيانات التصدير الروسية، مع تصدّر ألمانيا وفرنسا وأميركا وبريطانيا القائمة.

كما قامت شركة VSMPO بتصدير ما لا يقل عن 345 مليون دولار من التيتانيوم عام 2023، إلى جهات لم تحددها البيانات الروسية. 

التيتانيوم الروسي وصناعة الطائرات

تشير التقديرات أن شركة Vsmpo-Avisma الروسية توفر ما يقرب من ثلث التيتانيوم عالي الجودة الذي يستخدمه قطاع الطيران على مستوى العالم. وعليه، فمن بين أكبر العملاء الأوروبيين للشركة هي شركة "إيرباص"، عملاق الطيران المملوك جزئياً من قبل فرنسا وألمانيا وإسبانيا.

من هنا، ووفقاً لقاعدة بيانات روسية، ارتفع مردود التيتانيوم الروسي الذي تم وضع علامة عليه للتسليم إلى "إيرباص"، إلى 24 مليون دولار على الأقل في عام 2022، أي بزيادة بلغت نسبتها 940% من مشتريات "إيرباص" في العام السابق، من أي شركة أوروبية أو أميركية.

ومنذ بداية الحرب الأوكرانية، وحتى آذار/مارس 2023، استوردت شركة "إيرباص" ما لا يقل عن 22.8 مليون دولار من التيتانيوم من روسيا، أي بزيادة بمقدار أربعة أضعاف في القيمة والأطنان، مقارنة بالأشهر الـ 13 السابقة. والكلام على ذمة مجلة "investigate Europe".

واعتباراً من 14 آذار/مارس 2023، توقفت Vsmpo-Avisma عن تحديد المشترين في الإقرارات الجمركية، لكن المثير أن لا شيء يشير إلى تغيير كبير في الاتجاهات التصديرية. 

بالمقابل، وفي حين ادعت شركة الطيران الأميركية "بوينغ"، المنافس الرئيسي لشركة "إيرباص"، أنها اتبعت مساراً مختلفاً تماماً في عام 2022، بإعلانها التوقف عن شراء التيتانيوم الروسي، وإلغاء مشروع مشترك بملايين الدولارات بين شركة Ural Boeing Manufacturing ونظيرتها VSMPO، في عام 2022، فإن المستوردين الأميركيين، قاموا بعمليات شراء كبيرة بعد ذلك التاريخ بفترة طويلة. وتأكيداً على ذلك، رفض ممثل للشركة الإفصاح عن أسماء مورديها.

ليس هذا فحسب، فقد شهدت مجموعة "سافران"، وهي شركة الطيران الفرنسية التي تصنع المحركات ومعدات الهبوط لشركات الطيران، بما في ذلك "بوينغ"، شهدت ارتفاعاً بوارداتها من الشركة الروسية في عام 2022، لتصل إلى أكثر من 20 مليون دولار مقارنة بـ 8.6 مليون دولار في العام 2021.

وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، ذكرت وثائق تجارية روسية، أن صادرات التيتانيوم إلى فرنسا، كانت تذهب إلى محركات LEAP 1B المصنوعة في شركة "سافران"، والمستخدمة في إنتاج طائرة بوينغ طراز 737 ماكس. إشارة إلى أن "إيرباص" تستعمل أيضاً نظام LEAP في بعض الطائرات الخاصة. ومع أن واردات التيتانيوم إلى فرنسا، انخفضت بشكل طفيف، غير أن "إيرباص" كانت حتى تموز/يوليو 2023، ما زالت تدرج شركة Vsmpo-Avisma's كمورد أساسي لها.

لم يختلف نهج الشركات البريطانية في تضليل الرأي العام بشأن علاقاتها التجارية بروسيا، لا سيما بعدما ادعى مسؤولون تنفيذيون في شركة "رولز رويس"، الشركة البريطانية التي تنتج محركات لكل من إيرباص وبوينغ، في ربيع عام 2022، أنهم سيتوقفون عن شراء التيتانيوم الروسي. لكن البيانات التجارية البريطانية، كذّبت هذه المزاعم، إذ أشارت إلى أن الواردات من VSMPO استمرت طوال عام 2022، بل زادت من 5 ملايين دولار في عام 2021، إلى 6.7 مليون دولار في عام 2022، زد على ذلك تسليم VSMPO منتجاتها لشركة Rolls-Royce في نيسان 2023.

التيتانيوم الروسي والمخاوف الأمنية الأميركية

استعمال التيتانيوم الروسي في الصناعات العسكرية المهمة خلق شعوراً بالقلق العميق داخل البنتاغون الأميركي، خصوصاً وأن العديد من الشركات التجارية الكبرى، بما في ذلك "إيرباص" و"سافران"، تقومان بتزويد الجيوش الأميركية والأوروبية بالقطع المصنوعة من التيتانيوم الروسي الأصل.

المفاجأة أن هناك شركات أخرى مدرجة في قاعدة البيانات الروسية، عملت على برامج تصنيع الطائرات الحربية من طراز F-35 بما في ذلك Rolls-Royce، التي تنتج نظام رفع يستخدم أجزاء التيتانيوم لأشكال مختلفة من هذه الطائرة.

في المحصلة، أثبتت روسيا بما لا يقبل الشك أن العقوبات عليها لم تفشل فقط، بل إن موسكو تملك أيضاً القدرة على جعل صناعة الطائرات الأوروبية تعاني من مصاعب كبيرة في حال امتنعت عن تصدير التيتانيوم لشركة "إيرباص" مثلاً. لذا، ولغاية الآن، لم يسدّ أي بديل للتيتانيوم الروسي سواء كان أميركياً أو يابانياً الفجوة في السوق، وهذا له تأثيرات على الأمن القومي الأميركي استناداً لبوب ويذربي، رئيس شركة ATI ومقرها دالاس، وهي واحدة من الشركات الثلاث الكبرى المنتجة لمعدن التيتانيوم الأميركي.

 

علي دربج - أستاذ جامعي.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.