انتخابات البلدية في فنزويلا: انتصار جديد للثورة البوليفارية
شهدت الانتخابات البلدية في فنزويلا في 27 تموز/يوليو تحولاً سياسياً وشعبياً، حيث اعتُبرت اختباراً لقدرة "الكوميونات" على ممارسة السلطة من القاعدة الشعبية. تمكن التحالف التشافيزي من تحقيق فوز واسع، ما عكس تجذّر المشروع البوليفاري رغم الضغوط الدولية والعقوبات. وأظهرت المشاركة الواسعة أن الديمقراطية الفنزويلية باتت تُبنى من الشارع كفعل مقاومة وسيادة وطنية.
-
انتخابات البلدية في فنزويلا: انتصار جديد للثورة البوليفارية
لم تكن انتخابات التي جَرَت أمس السابع والعشرين من يوليو في فنزويلا مجرد عملية دورية لتجديد السلطات المحلية، وإنما تجسيداً حيّاً لمعادلة السيادة التي تحكم الصراع المفتوح بين مشروع وطني تشافيزي ومخططات إقليمية ودولية تسعى لشلّ الإرادة الشعبية عبر الحصار والعقوبات والتدخّل السياسي. في كل مرة يُستدعى فيها الشعب الفنزويلي إلى صناديق الاقتراع، تتحوّل الممارسة الانتخابية إلى تمرين جماعي على المقاومة، تتكثّف فيه الرموز والمعاني وتتجاوز فيه نتائج التصويت حدود القواعد الشعبية إلى رهانات السياسة الكبرى.
وهذه المرة برزت معركة البلديات كاستفتاء شعبي على فعالية "الكوميونات" كركائز للسلطة الشعبية، وكردّ مباشر على التصعيد الأميركي ومحاولات ضرب استقرار البلاد من بوابة الحكم المحلي، الذي يُعد اليوم ساحة مفصلية في التوازن بين الدولة المركزية والقوى المجتمعية الصاعدة من القاعدة.
في بلد كفنزويلا، حيث يتشابك المحلي بالسيادي، تمثّل البلديات أكثر من مجرد وحدات إدارية. فهي مستويات ميدانية للصراع الطبقي ومنصات للتمكين المجتمعي، وهي نقاط تفاعل يومي بين الدولة والمواطن. من هنا تنبع أهمية هذه الجولة الانتخابية، التي خاضها التشافيزيون وهم يحملون على عاتقهم عبء الدفاع عن تجربة اجتماعية تواجه منذ أكثر من عقد هجمة شرسة متعددة الأوجه.
ولم تكن الحملة مجرد سباق على مقاعد البلديات والمجالس المحلية، وإنما حملة تعبئة واسعة استهدفت إعادة تفعيل "الكوميونات" والنُظُم الاقتصادية المحلية والرقابة الشعبية، بما يُعيد ترسيخ وظيفة البلديات كحلقات وصل بين الخطط والبرامج الاجتماعية القاعدية وتطبيقاتها الملموسة. وبهذا المعنى، شكّلت الانتخابات مناسبة لإعادة ضخ الروح في "ديمقراطية الشارع"، مقابل محاولات اختزالها في أطر تمثيلية محضة تُرضي المعايير الغربية ولا تعبّر عن إرادة القاعدة.
منذ ساعات الصباح الأولى ليوم الاقتراع، بدت المراكز الانتخابية في مختلف أنحاء فنزويلا وكأنها ساحة تعبئة وطنية أكثر منها مجرد محطة بلدية اعتيادية. أكثر من 20 ألف مركز اقتراع خُصّصت للانتخابات البلدية، إلى جانب نحو 16 ألف مركز آخر خصّص للاستشارة الشعبية الوطنية للشباب، في سابقة تُعد الأولى من نوعها ضمن الهيكلية المؤسساتية للثورة البوليفارية. وتجاوز عدد المشاركين في الاستحقاقَين معاً حاجز الأربعة ملايين ناخب، ما شكّل مفاجأة إيجابية بالنظر إلى الطابع المحلي للانتخابات، كما عكس دينامية شعبية حقيقية تستمدّ زخمها من إدراكٍ بأن الدفاع عن الاستقلال الوطني يبدأ من صناديق البلديات. هذا ما شدّد عليه كبار قادة الحكومة، من الرئيس نيكولاس مادورو إلى القيادات الميدانية، باعتبار التصويت "تصويتاً لفنزويلا ذات السيادة"، وبأن "الديمقراطية الحقيقية تُبنى من القاعدة إلى القمّة وليس العكس".
وجاءت النتائج لتعكس انتصاراً آخر للثورة البوليفارية، إذ تمكّن التحالف التشافيزي بقيادة "الحزب الاشتراكي الموحد" من الفوز بـ 23 من أصل 24 ولاية، مكتفياً بخسارة واحدة كانت من نصيب المعارضة. كما حافظ التحالف الحاكم على تفوّقه في غالبية البلديات الـ335، مع استرجاع عدد كبير من المقاطعات التي كانت قد خرجت من تحت سيطرته في الانتخابات السابقة.
لكن الأهم من عدد المقاعد كان طبيعة الكوادر التي خاضت المعركة، إذ شهدت هذه الدورة بروز جيل جديد من القيادات الشابة القادمة من "الكوميونات" ومن لجان العمل القاعدي، إلى جانب انخراط آلاف المشاريع المجتمعية التي اقترحها شباب من أكثر من 5 آلاف كوميونة في الاستشارة الشعبية على المشاريع المجتمعية، ما يعكس تكريساً تدريجياً لسلطة تشاركية موازية تأخذ مكانها ضمن مؤسسات الدولة وتعيد رسم العلاقة بين الدولة والمجتمعات المحلية.
رغم كل الأعباء الاقتصادية والسياسية التي تثقل كاهل المواطن الفنزويلي، خصوصاً في ظل العقوبات الأميركية المتزايدة وتداعياتها على الخدمات والبنى التحتية المحلية، جاءت هذه الانتخابات لتؤكّد أن الشرعية السياسية لا تزال تُصاغ في الشارع، وليس في أروقة السفارات أو مكاتب المانحين الدوليين.
فبينما تواصل المعارضة التقليدية الموالية لواشنطن الرهان على الخارج وتشكيكها الممنهج في شرعية المؤسسات، اختار الملايين من المواطنين خوض معركة الصناديق ليقولوا للعالم إن ديمقراطيتهم ليست مرهونة باعتراف واشنطن أو غيرها من العواصم الأوروبية.
كان مشهد الطوابير أمام المراكز الانتخابية بمثابة تذكير بأن الفنزويليين لا يزالون مستعدين للدفاع عن الثورة البوليفارية وتجربتهم حتى على جبهة الحكم المحلي. وتستعيد هذه النتائج أهميتها حين تُقارن بسابقاتها التي شهدت تراجعاً نسبياً في الأداء الانتخابي للتشافيزيين نتيجة ظروف جائحة كوفيد-19 وضغوط العقوبات والحصار ومحاولات زعزعة الأمن داخلياً من خلال العملاء وبدعم من تيّار المعارضة الموالي لواشنطن.
ولكن العودة القوية للتشافيزيين في هذه الجولة، من حيث الحضور والمخرجات، تشير إلى إعادة ترتيب داخل التيار البوليفاري نفسه وتقدّم بعض قواه المجتمعية.
وفي قلب هذه العملية برزت "الكوميونات" مجدداً، ليس كفكرة نظرية وإنما كواقع ملموس يفرض نفسه في إدارة الشأن المحلي. الكوميونات، التي تمثل الشكل التنظيمي الأعلى للسلطة الشعبية وفق الدستور البوليفاري، لعبت دوراً محورياً في التحضير للانتخابات وفي التعبئة الميدانية، ما جعل البعض يعتبر هذه الدورة بمثابة الاختبار الأهم لقدرات الكوميونات على خوض معارك التمثيل الرسمي.
بدا واضحاً أن منطق العمل الجماعي والتعاونيات والرقابة المجتمعية أضحى جزءاً من النسيج الانتخابي، إذ تحوّلت العديد من الكوميونات إلى مراكز تعبئة شعبية، وأظهرت قدرة على التأثير في القرار المحلي وتقديم بدائل عملية لما تعجز عنه البلديات التقليدية، وخاصة في أوساط الشباب.
وبينما كانت الحملات التشافيزية تؤكد على تعزيز السلطة الشعبية، انقسمت المعارضة بين تيّار غير موالي لواشنطن دعا للمشاركة في الانتخابات بقوّة، وتيّار آخر موالي لواشنطن والغرب لجأ إلى المقاطعة ومهاجمة الانتخابات ووصفها بـ "غير الشرعية" رغم وجود ما يزيد على 1,400 مراقب بين فنزويليين وآخرون من دول عديدة. يعكس هذا الانقسام في صفوف المعارضة تناقضاً واضحاً يكشف بدوره أزمتها البنيوية. وهذا التناقض لم يغب عن الناخب الفنزويلي الذي أصبح يدرك أن معركة البلديات ليست حول خدمات الماء والكهرباء والنظافة وغيرها فحسب، وإنما بالأساس حول من يملك القرار المحلي في المشاريع ومن يُشكّل النموذج الذي ستُدار به الأحياء والمجتمعات المحلية.
ولهذا جاءت نسبة التأييد للتحالف البوليفاري مرتفعة في البلديات التي تشهد أعلى نسب التشاركية المجتمعية، ما يؤكّد ارتباط الأداء الانتخابي بمستوى تمكين الناس من أدوات القرار والتنظيم الذي توفره الكوميونات بالدرجة الأولى.
ولم تغب الجغرافيا السياسية عن هذه الجولة. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط الدولية بشأن إقليم إيسيكيبو المتنازع عليه مع دولة غويانا المجاورة، وتلوّح واشنطن بزيادة العقوبات على كراكاس، بدت العملية الانتخابية أشبه بتثبيت للسيادة من الأسفل، عبر منح الشرعية الشعبية لمنظومة الحكم المحلي التي تشكِّل أساس المشروع الوطني.
ولم تكن مصادفة أن يؤكّد كبار المسؤولين الفنزويليين أن الانتخابات "جزء من الدفاع عن وحدة التراب الفنزويلي" وأن البلديات الواقعة في المناطق الحدودية – ولاسيما ولاية غويانا إيسيكيبا – هي "خط الدفاع الأول" في مواجهة محاولات التسلل والتخريب. وبهذا المعنى، شكّلت صناديق الاقتراع جبهة موازية لجبهات الجيش والدبلوماسية، وأظهرت مرة أخرى أن الشرعية تُبنى بأصوات الناس، وليس ببيانات الخارجية الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي.
لم تنته الانتخابات بخطاب نصر تقليدي، وإنما استُتبعت بسلسلة لقاءات ومبادرات أعلنها القادة التشافيزيون لتعزيز الحوكمة المحلية والتكامل بين الكوميونات والمجالس البلدية. فقد أُعلن عن إطلاق آلية مشتركة لرقابة شعبية على البلديات المنتخبة، وعن خطط لتوسيع برامج الإنتاج المحلي والغذاء المجتمعي، بما يربط بين التمثيل والوظيفة الاقتصادية.
هذا الربط بين السياسة والإنتاج ليس غريباً على التجربة البوليفارية في فنزويلا، لكنه يجد في الانتخابات البلدية إطاراً ملموساً لاختباره وتجديده. فإذا كانت الشرعية قد انتُزعت من صناديق الاقتراع، فإن استدامتها مرهونة بالقدرة على تقديم إجابات حقيقية عن الحاجات اليومية للمواطن، وليس مجرد الشعارات.
وفي المحصّلة، لم تكن انتخابات البلدية هذا العام مجرد دورة ديمقراطية، وإنما فصلاً جديداً في تجربة التأسيس الشعبي المستمر الذي تخوضه فنزويلا منذ ربع قرن. ولم تَحسِم الانتخابات كل التحديات، لكنها منحت المشروع البوليفاري دفعة سياسية وأخلاقية ضرورية في لحظة تتكثّف فيها الضغوط والمؤامرات.
وفي زمن تتراجع فيه شرعية الانتخابات في الغرب ذاته تحت وطأة المال والتلاعب، تأتي التجربة الفنزويلية لتقدّم نموذجاً مغايراً في تعريف الديمقراطية، حيث يصبح الاقتراع جزءاً من الكفاح، وليس مناسبة موسمية للتفويض. هكذا تمضي الثورة البوليفارية في تجذير ذاتها، من الكوميونات إلى البلديات، ومن القواعد الشعبية إلى رأس الدولة.