جائزة نوبل تُبيِّض الحرب: ماريا كورينا ماتشادو بين "السلام" المزعوم وحملة تطويق فنزويلا

تبدو جائزة نوبل التي فازت بها زعيمة قوى أقصى اليمين الفنزويلي، ماريا كورينا ماتشاد ، في هذا التوقيت بالتحديد، أي ضمن سياق التصعيد العسكري الأميركي ضد فنزويلا في البحر الكاريبي، مكافأةً على برنامجٍ اقتصادي ليبرالي جديد يُعاد تدويره بلسان "الحداثة" و"الديمقراطية".

  • المنصة التي أعلن من خلالها عن الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2025 في معهد نوبل النرويجي في أوسلو، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025
    المنصة التي أعلن من خلالها عن الفائز بجائزة نوبل للسلام لعام 2025 في معهد نوبل النرويجي في أوسلو، في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025

لم يأتِ خبر تتويج زعيمة قوى أقصى اليمين الفنزويلي، ماريا كورينا ماتشادو، بجائزة نوبل للسلام، اليوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2025، سوى كحلقةٍ جديدة في سرديةٍ مُحكَمة تُعيد رسم العدوّ والصديق في البحر الكاريبي.

وبين أساطيلٍ أميركية تقترب من الساحل الفنزويلي بذريعة "مكافحة المخدرات"، وضغوطٍ دبلوماسية وإعلامية تُشيطن كاراكاس، تبدو الجائزة كأنها صكّ "شرعية رمزية" لسياسيّةٍ بَنَت رصيدها على الدعوة إلى فرض العقوبات والتدخل العسكري، وليس على بناء السلم الأهلي.

ولا يتعلق الأمر بجدلٍ أخلاقي حول جائزةٍ تعرضت مراراً للانتقاد والفضح، وإنما بمنظومةٍ تُدير المعنى: تُكافئ من تروّج لوصفة الخصخصة والتحرير الاقتصادي وتطالب بعدوانٍ على بلدها، بينما تُدين من يتمسك بحقه في السيادة.

من لا يعرف ماتشادو قد يخاله اسماً قادماً من "مجتمع مدني" معارض، لكن سيرتها السياسية تقول العكس. فمنذ انخراطها في محاولة انقلاب عام 2002 وتوقيعها "إعلان كارمونا" الذي حاول اجتثاث الدستور والمؤسسات، مروراً بتبنّيها حملات "لا ساليدا" التصعيدية في عام 2014، وصولاً إلى تحريضها المفتوح على "تدخل دولي" وطلبها العون ضد مادورو من بنيامين نتنياهو في عام 2018، تتخذ ماتشادو مساراً واحداً: إسقاط الدولة بأي تكلفة.

ولم تكن العقوبات بالنسبة إليها "أداة ضغط" بل غاية بذاتها؛ روّجت لها كبديلٍ عن السياسة، رغم آثارها الفادحة على الدواء والغذاء والطاقة. إن ما يسمّيه بعضهم "حزماً أخلاقياً" هو في جوهره سياسة تجويعٍ لإخضاع بلدٍ متمرّد على الوصاية.

ما طرحته ماتشادو في "مجلس الأميركتين" (تجمع لقطاع الأعمال وشركات كبرى) خلال يونيو/حزيران الماضي يكشف جوهر المشروع: "فرصة التريليون دولار" المُفصّلة على قياس خصخصة النفط والغاز والمناجم والمياه، وفتح ملايين الهكتارات لرساميل عابرة للحدود، عبر جذب شركات أميركية وأوروبية لتبني سلاسل قيمة داخل فنزويلا (لتكون على مقربة من الولايات المتحدة على عكس آسيا البعيدة) باستخدام النفط والغاز والمعادن واليد العاملة المحلية الرخيصة.

ووعد ماتشادو بتنفيذ خطة "المئة يوم" هذه يعني فتح النفط والغاز سريعاً لامتيازات أجنبية وخصخصة الأصول، وتمرير تشريعات تُعيد رسم الملكية والضرائب والعملة والعمل النقابي، وتفكيك الحماية القانونية للموارد لصالح بيعٍ وترخيصٍ مُعجَّل، مع تغييرات إدارية وقضائية تُقصي الضوابط الاجتماعية.

خطة ماتشادو واليمين الفنزويلي المدعومة غربياً هذه تستهدف في المقام الأول هدم المنظومة الدستورية والقانونية التي كانت ثمرة الثورة البوليفارية، وهذا لا يمكن أن يحدث دون سلطة قمعية في الداخل تطيح بالحواجز الاجتماعية والقانونية وتستدعي بالضرورة مظلةً أمنية من الخارج على حساب السيادة الوطنية.

لذلك تبدو الجائزة، في هذا التوقيت بالتحديد، أي ضمن سياق التصعيد العسكري الأميركي ضد فنزويلا في البحر الكاريبي، مكافأةً على برنامجٍ اقتصادي ليبرالي جديد يُعاد تدويره بلسان "الحداثة" و"الديمقراطية".

وهذا المسار لا يعكس في الداخل الفنزويلي قاعدةً اجتماعية صلبة. فمنذ احتجاجات ما بعد الانتخابات الرئاسية في يوليو/تموز العام الماضي وما تلاها من عنفٍ منظم وحرقٍ وتخريبٍ واستهدافٍ لمؤسسات عامة، ظهر أن مشروع "الحسم في الشارع"، الذي كانت تتبنّاه آنذاك قوى اليمين الفنزويلي، يفتقر إلى سندٍ شعبي متماسك.

وحين دُعيَت المنصّات المعارِضة إلى الاعتراف بنتائج المجلس الوطني للانتخابات، استجابت بالرفض ثم لجأت إلى سردية "الرئيس الموازي" (التي سقطت مع عدول كبير عن الاعتراف برئيس من المعارضة عكس ما حدث في عام 2018 مع خوان غوايدو) قبل أن تتفكك أوراقها بين لجوءٍ دبلوماسي وملفاتٍ جنائية مفتوحة.

وحتى استطلاعات الرأي التي تتداولها المعارضة نفسها أظهرت تآكلاً ملحوظاً في قبول ماتشادو قياديةً بديلة مع رفضٍ واسع لخطاب القطيعة والعقوبات.

لم تكتفِ ماتشادو بالدعوة إلى فرض العقوبات على بلدها، وإنما صاغت "لغة تهديد" عابرة للحدود. إذ قامت في يونيو/حزيران الماضي بالترويج لفكرة أن فنزويلا "تهديدٌ حقيقي" يملك قدرات تصنيع طائرات مسيّرة قتالية "بالتعاون مع إيران"، في استدعاء مباشر لخرائط استهدافٍ جاهزة.

ومثل هذا الخطاب لا يهدف إلى النقاش العام، وإنما إلى صناعة "واقعةٍ مبرِّرة" تتيح لواشنطن تمرير عملياتٍ "جراحية" في الداخل الفنزويلي بذريعة الأمن.

وهنا تتلاقى دعوة ماتشادو مع شبكة تحالفاتٍ يمينية أميركية وأوروبية وإسرائيلية تُبيِّض الاستعمار وتعيد تعريف "الحضارة" ضدّ شعوب الجنوب. وليس صدفةً أن يتزامن خطاب "الخطر القادم من الجنوب" هذا الذي روّجت له ماتشادو مع عسكرة البحر الكاريبي وتقديم نزاع إقليم "غويانا إيسيكيبا" باعتباره اختباراً لإملاءات شركات النفط وضغوط العسكرة.

وفي البحر الكاريبي، لا تُخطئ العين انقلاب المعنى: أساطيلٌ عسكرية ومقاتلاتٌ متقدمة وغواصة نووية تُسوَّق حرباً على قوارب صغيرة.

فمن اعتراض مركب صيد واحتجاز بحّارة في المنطقة الاقتصادية الفنزويلية إلى ضرب قوارب بدعوى "الدفاع عن النفس" أو "مكافحة المخدرات"، تتشكل وقائع إهانةٍ يومية لحقوق دولةٍ ساحلية.

ويعلو شعار "المخدرات" بينما تتجاهل السلطات ذاتها المروّجة لهذا الخطاب أن أغلب تدفقات المخدرات يتخذ مساراتٍ أخرى خارج فنزويلا أصلاً. وأمام هذا المشهد، جاء مرسوم "الاضطراب الخارجي" (ما يشبه حالة الطوارئ) الذي أعلنته كاراكاس بمثابة فعل سيادة دستوري لتنظيم الدفاع الشامل وتكثيف الجهوزية المدنية-العسكرية، وليس أبداً انزلاقاً نحو المغامرة. ومن يفتّش عن منطقٍ للسلم سيجده في مؤسسية الردع وغطائه الشعبي، وليس في استعراضات بحرية تحرس امتيازات الطاقة.

وفوق ذلك، تبني فنزويلا "سلمها الوقائي" بالسياسة أيضاً: شراكات مع دولٍ ترى في عسكرة الكاريبي خطراً على "منطقة السلام"، وتثبيت تنسيقٍ حدودي مع كولومبيا يقطع الطريق على استخدام الجوار منصةً للفوضى.

وفي الأمم المتحدة ومنصات الإقليم، تتقدم حجة القانون الدولي على "العمليات خارج التفويض"، وتُستدعى معاهدة "تلاتيلولكو" لتعرية الازدواجية المصاحبة لوجود غواصة نووية أميركية على الساحل الفنزويلي.

ووسط ذلك، تُحوّل كاراكاس مفهوم "الدفاع الشامل" إلى ممارسة: شبكات أحياء وكوميونات وميليشيا وطنية بالملايين تتقاطع مع الجيش والشرطة في خرائط حماية الموانئ والطرق والسدود ومحطات الكهرباء بما يجعل أي عدوانٍ "سريع" وصفةً لحربٍ طويلة.

وفي هذا السياق تصبح جائزة نوبل جزءاً من "حرب الروايات". فحين تُمنح لمن روّجت لعملية "إنقاذٍ سينمائي" من سفارةٍ أجنبية بينما حقائق التفاوض الهادئ تتكشف؛ وحين تُكافأ من هنّأت تشديد الخنق على قطاع الطاقة وهاجمت عملياتٍ تحمي تدفق الخام الثقيل بواسطة شركة "شيفرون" إلى مصافي خليج المكسيك، فإن "السلام" المزعوم ليس سوى إعادة تسمية للعقاب الاقتصادي.

والشرعية هنا، في تعريفها المبسّط، هي الأهلية الاجتماعية والقدرة على خفض منسوب المعاناة العامة. بينما الشرعية التي تُفوّضها الجائزة هنا، فهي أداة ضغط تُجمّل مشروع القوّة وتعيد تغليفه ببلاغةٍ أخلاقية.

وهذا لا يعني أن التجربة البوليفارية تخلو من التحديات؛ اقتصادٌ ينزف تحت وطأة العقوبات والحصار، وتضخمٌ عانت منه فئات واسعة، ونظام إدارة ما زال يُعيد ترتيب أولوياته بين الإنتاج وتوسيع الحماية الاجتماعية.

بيد أن الفرق شاسع بين نقدٍ داخلي يريد تحسين شروط العيش، وبين مشروعٍ يطرح البلد "فرصة استثمار" ويستدعي تدخّل الخارج في سبيل "تصحيح التاريخ".

إن دعم فنزويلا هنا، في هذه اللحظة التصعيدية بالتحديد، هو دفاع عقلاني عن حق شعبٍ في تقرير مصيره وثرواته، وعن تدشين بديلٍ يُجرب التوازن بين السيادة والانفتاح وفق شروطه الخاصة ودون بيعٍ للدولة ولا تفكيكٍ للقاعدة الاجتماعية.

ومن هذه الزاوية يغدو موقفٌ ناقد من الجائزة ضرورةً لا نزوة. ولا يمكن تسمية من يدفع باتجاه حصارٍ يعمّق الفقر بأنه "صانع سلام"، ولا من يوحّد صفوف اليمين المتطرف الأميركي والأوروبي والإسرائيلي بدعوى "الدفاع عن الحضارة" بأنه "جسرٌ للحوار".

إن السلام الذي يستحق اسمه يبدأ من وقف عسكرة البحر الكاريبي ورفع القيود القسرية عن الاقتصاد وإعادة الأصول المنهوبة وفتح مسارات تفاوضٍ متكافئة، وليس من تكريس "رئيسة ظلّ" تقترح وصفات الصدمة وتنتظر "حادثاً مبرراً" لتسقط الدولة. ومن يريد اختبار النيّات فعلاً، فليزن أثر السياسات على حياة الناس وليس على علاقات المستثمرين!

ليست فنزويلا مطالبةً بأن تستأذن لإعلان حقها في الدفاع عن نفسها ضد التصعيد الأميركي الخطير الجاري حالياً في البحر الكاريبي، ولا بأن تُخفي ما شيّدته من منظومات ردع مدني-عسكري لتُطمئن خصومها.

وهي، في الوقت ذاته، مدعوةٌ إلى المزيد من الانفتاح على نقد الداخل وإزالة العوائق البيروقراطية أمام المبادرات الشعبية وإطلاق طاقات الإنتاج المحلي. لكن المعركة الفعلية اليوم على معنى "السلام": أهو اسمٌ جديد للحصار والابتزاز والشروط السياسية، أم عقدٌ اجتماعي-إقليمي يضمن السيادة والتنمية؟

إن جائزة نوبل التي مُنحت لماتشادو قدمت إجابة القوى الرجعية العالمية بلا لبس. بيد أن شواطئ الكاريبي، بذاكرة الانقلابات والغزوات، تعرف أن "السلام" لا يُستورد مع البوارج العسكرية، وأن الشرعية لا تُمنَح وإنما تنتزعها الشعوب حين تدافع عن حقها في وطنٍ بلا وصاية.

اخترنا لك