خلفيات حديث الرئيس التونسي عن ضرورة تطوير قدرات القوات المسلحة

الرئيس التونسي يتحدث عن ضرورة تطوير قدرات القوات المسلحة لبلاده، فهل هو مجرد كلام خطابي، أم أن هناك خططاً جدية وظروفاً ضاغطة تدفعها لذلك؟

  • خلفيات حديث الرئيس التونسي عن ضرورة تطوير قدرات القوات المسلحة
    خلفيات حديث الرئيس التونسي عن ضرورة تطوير قدرات القوات المسلحة

كلام لافت للرئيس التونسي قيس سعيّد بمناسبة الاحتفال بعيد الجيش، عندما أعلن عن نيته تطوير قدرات القوات المسلحة من بنية تحتية و تسليح.

في حقيقة الأمر يبدو الكلام للوهلة الأولى مألوفاً، ويمكن أن يصدر عن أغلب قادة الدول وفي أي مناسبة تتعلق بالجيش، فعصرنة الجيوش وتطوير إمكاناتها التقنية والعسكرية واللوجستية هي أمور يقولها القادة في خطاباتهم دون أن يكون هناك بالضرورة خطوات ملموسة. ولكن عدة مؤشرات تجعل من كلام الرئيس التونسي هذه المرة كلاماً جدياً ونابعاً من قرار سيادي تونسي بتحسين تسليح الجيش، بل ربما يتعلق الأمر بنقلة نوعية في الجيش ونوعية تسليحه.

أولى المؤشرات على جدية كلام سعيّد هو قوله إن تونس لا نية لها بالدخول في سباق تسلح مع أي أحد، ولكن"لا بد اليوم مما ليس منه بد". ودعا سعيّد المجموعة الوطنية (في إشارة إلى كل مكونات الدولة من مواطنين ومؤسسات وشركات ومكونات اقتصادية ومالية) إلى الانخراط والمشاركة في توفير الاعتمادات اللازمة لتطوير قدرات القوات المسلحة من بنية تحتية وتسليح.

تاريخياً.. الإنفاق العسكري التونسي بقي ضعيفاً

لم يدخل الجيش التونسي على مدى تاريخه في أي سباق للتسلح ولم يعقد أي صفقات تسليح ضخمة تذكر، وقد اختارت تونس منذ الاستقالال لأسباب اقتصادية ومالية وأيضاً نتيجة قرار سياسي من الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة أن يكون إنفاقها العسكري متواضعاً وضعيفاً، وفي المقابل كانت تتلقى مساعدات عسكرية أميركية وفرنسية، بل إن عشرات المسؤولين السياسيين والعسكريين البارزين في عهدي الرئيسين بورقيبة وزين العابدين بن علي أكدوا في شهاداتهم التاريخية على أن بلادهم كانت تعتمد على فرنسا وعلى الأسطول السادس الأميركي في البحر المتوسط، خاصة في فترات التوتر مع جيرانها وبالتحديد الاحتكاكات المتكررة مع ليبيا-القذافي في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.

تتحدث وثيقة أميركية جرى الإفراج عن سريتها منذ أشهر عن لقاء جمع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بالوزير الأول التونسي الهادي نويرة سنة 1975 بواشنطن. يومها قال كيسنجر للوزير التونسي حسب الوثيقة إنه "يعلم قلق تونس بشأن أمنها وعلى الرغم من التخفيضات في المساعدات العسكرية التي أقرها الكونغرس فإن بلاده ستبذل جهدها من خلال المبيعات والتدريب والمعدات". هنا جاء رد الوزير التونسي في شكل تلخيص لنظرة تونس للجيش فقال نويرة: "لم تكن تونس يوماً مولعة بالسلاح نحن نحاول رفع مستوى المعيشة"، ثم واصل الوزير التونسي الحديث عن موقف تونس من سباق جيرانها للتسلح في إشارة إلى الجزائر وليبيا: "لكن آخرين يتسلحون أكثر من اللازم ونحن نتساءل لماذا؟ موقفنا واضح؛ الجيش يبقى في ثكناته لكن الآخرين لا يفعلون ذلك وهذا يهمنا.. نفضل أن نستخدم مساعدتك لرفع مستوى التنمية لكن نود أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا أثناء تطورنا".

كان هذا خلال فترة التوتر مع ليبيا في عهد القذافي، والتي ارتبطت بفترة حكم الرئيس الراحل بورقيبة، ولكن منذ وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة أصبحت العلاقات بين تونس وليبيا هادئة بل وثيقة، بسبب التفاهمات بين الرجلين، وتخلي القذافي عن تحرشه بتونس لعدة اسباب أهمها العقوبات الدولية ويقينه بأنه لا فائدة من مواصلة خلق المشاكل مع جارته. وبالتالي لم تشهد هذه الفترة أي تغيير في سياسة تونس العسكرية وظل إنفاقها العسكري محدوداً للغاية.

تغيرت هذه السياسة نوعاً ما بعد ثورة 2010..فقد لعب الجيش خلال الثورة والأشهر التي تلتها دوراً مهماً في حفظ الأمن ومنع البلاد من الانهيار، حيث غادر رجال الأمن مقراتهم ونفذوا إضراباً لعدة أيام. حينها اكتشف التونسيون أن جيشهم يعاني من عدة نقائص لوجستية وبشرية وبالتالي كان لا بد من بعض التحديثات، أهمها رفع عدد المجندين، قبل أن ترفع الحكومات المتعاقبة من ميزانية وزارة الدفاع لتصل إلى أكثر من الضعف.

كما تحصلت تونس على تجهيزات عسكرية جديدة من تركيا والولايات المتحدة بشكل خاص، الهدف منها التصدي لموجة الإرهاب التي ضربت البلاد خلال العشرية الماضية. ولكن كل هذه التحديثات والزيادات في ميزانية الجيش لم ترق لوصفها بـ "التغيير الجوهري أو الاستراتيجي" في السياسة العسكرية للبلاد.

لماذا الآن؟

منذ قرارات الخامس والعشرين من تموز/يوليو 2021 وإمساك الرئيس قيس سعيّد بزمام الأمور في البلاد لاحظ المتابعون توتراً في العلاقات بين تونس والغرب، حيث ازدادت حدة الانتقادات الأوروبية والأميركية للمسار السياسي الجديد وخفضت واشنطن من حجم مساعداتها العسكرية لتونس، لكن الأشهر الأخيرة الفائتة شهدت إقداماً تونسياً على إبراز تقاربها مع المعسكر الشرقي وبخاصة روسيا والصين وإيران في رسالة واضحة للغرب مفادها أن تونس تبحث عن مصالحها مع كل دول العالم ولن تبقى رهينة علاقاتها التقليدية مع الغرب.

وقدر مسؤولون رفيعو المستوى في الاتحاد الأوروربي منذ أيام هذه المخاوف عندما تحدثوا بشكل علني في بروكسل عن قلقهم من التقارب التونسي مع روسيا وإيران، وهو ما أجبر سفارة تونس لدى الاتحاد الأوروبي على الرد والقول إن "تونس حرة في ربط علاقات مع الجميع بما يخدم مصالحها".

بكل تأكيد لا يمكن ربط تصريحات الرئيس التونسي حول تسليح جيش بلاده بهذا التقارب، رغم أن ذلك يبقى ممكناً وقد يتوضح في الفترة المقبلة، ولكن يمكن أن نتحدث عن أسباب أكثر وضوحاً. فالأعين تتجه إلى الوضع في ليبيا وهنا لا نتحدث بشكل مباشر عن أطماعٍ ليبية في تونس، ولكن الأمر يتعلق بالصراع الدولي في هذا البلد. حيث أصبح الصراع التركي الأميركي الروسي على ليبيا مكشوفاً وعلنياً.

تمسك تركيا بالغرب الليبي وبخاصة قاعدة الوطية العسكرية القريبة من تونس في حين تتحدث مصادر متطابقة عن بداية تحرك أميركي لإيجاد موطئ قدم في مدينة الخمس غرب البلاد، وبخاصة على مينائها، بينما يربط خليفة حفتر علاقات قوية مع روسيا.

هذه الصراع في ليبيا قد ينفجر في أية لحظة سواء بشكل غير مباشر، أي بين الميليشيات المرتبطة بهذه الدول، أو بشكل مباشر، خاصة إذا ما ربطنا ذلك بالتوتر الدولي بين موسكو وواشنطن في أكثر من مكان حول العالم، وهو ما يجعل الساحة الليبية مرتبطة بصراع النفوذ ورغبة روسيا بإنهاء الأحادية الدولية والاستكبار الأميركي.

فالعالم إذاً مقبل على تطورات قد تصل إلى أقصى مداها في أية لحظة ولا يمكن لتونس أن تكتفي بدور المتفرج وهي التي بدأت بالخروج تدريجياً من شكل الدولة المرتبطة اقتصادياً وعسكرياً بالغرب.

أشكال التطوير العسكري المحتمل ومصادره

لا توجد معلومات حول شكل التطوير العسكري المطلوب في تونس ومن أين ستكون مصادره. ولكن هناك احتمالات، فالجيش التونسي بكل الأحوال لن يتحول إلى جيش هجومي بين ليلة وضحاها، وبكل تأكيد لم يكن الرئيس سعيد يقصد ذلك عند إطلاقه للتصريحات.

الجيش التونسي يحتاج إلى تطوير قدراته الدفاعية وتطوير قدراته التكنولوجية، وهنا نتحدث عن ضرورة توفير نظام دفاع جوي فعال، إضافة إلى تجديد الأسطول الجوي الذي تسيطر عليه طائرات (F5) الأميركية القديمة وبعض الطائرات الفرنسية. وهنا يمكن إضافة عنصر الطائرات المسيرة الذي قد يكون القادة العسكريون في تونس يفكرون بتزويد الجيش بها. كما تحتاج مختلف القطاعات العسكرية البرية والبحرية إلى تحديثات متنوعة.

في ظل التوتر بين تونس والغرب والتقارب التونسي مع روسيا والصين وإيران فالمنطقي هو أنّ أيّ تسليح للجيش التونسي سوف لن يمر عبر المعسكر الغربي، بل سيكون عبر تعاون، لم يكشف عنه حتى الآن ولكنه قد يكون محل نقاشات وتفاوض الآن، مع دول المعسكر الشرقي، فالاتصالات بين تونس والصين متطورة وكذلك الحال مع روسيا، ولا يمكننا استثناء إيران أيضاً.

اقرأ أيضاً: تونس تبحث تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الصين

أما بخصوص التمويلات الضرورية للقيام بهذه التحديثات العسكرية فقد أجاب الرئيس التونسي عن هذا التساؤل بالقول إن المجموعة الوطنية لن تبخل في توفير الاعتمادات اللازمة من أجل الجيش الذي يحمي البلاد، وهو ما يعني دعوة واضحة لاقتطاع أموال من موازنة بعض القطاعات الأخرى وتحويلها للقطاع العسكري.

بكل تأكيد سوف تكشف الأيام والأشهر المقبلة عن إجابات وتوضيحات لكل هذه الاسئلة والاحتمالات، فتونس خلال رحلة تخليها التدريجي عن الارتباط بالغرب يجب عليها أن تواكب ذلك بتطوير قدراتها العسكرية، كما قال الرئيس التونسي: "لا بد اليوم مما ليس منه بد".