لماذا لا تزال الرسائل المكتوبة بين الزعماء ورؤساء الدول سارية حتى اليوم؟
رسالة خطية وجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي في آذار/مارس، تفتح نقاشاً حول دور الرسائل المكتوبة في العلاقات الدبلوماسية بين الدول في عصر الاتصالات السريعة.
-
الرسائل الخطية التي يكتبها رؤساء الدول ويوجهونها إلى نظرائهم تتضمن في العادة معنى خاصاً وأهمية كبيرة
احتلّت الرسالة التي أرسلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى قائد الثورة والجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئني أوائل شهر آذار/ مارس الماضي، حيزاً واسعاً من الاهتمام الإعلامي والسياسي نظراً إلى مضمونها وتوقيتها، في ظل الظروف الحساسة والمتفجرة التي تمر فيها المنطقة.
الأسلوب الذي صيغت فيه الرسالة خلّف مجموعة من الأسئلة لم تنحصر بفحوى المضمون، إنما تعدّته إلى الشكل. إذ جاءت الرسالة من خارج التوقعات وبين طرفين تحكمهما حالة من العداء والمواجهة، لكن السؤال الأهم من الناحية الشكلية قد يكون يتمحور حول الرسالة نفسها، بشكلها المادي، فهل هذا النوع من التواصل في العلاقات الدولية يعد أمراً شائعاً؟ ولماذا يلجأ الزعماء وقادة الدول إلى تبادل الرسائل الخطية دونما سائر أنواع التواصل الأخرى المتوفرة؟ وما الذي يجعل الرسائل الخطية بين الزعماء مميزة؟
ربما لم تكن لتثير رسالة ترامب هذا الفضول لولا هوية طرفيها؛ المُرسل والمُتلقي، فمن ناحية يبرز رئيس أميركي يتمحور جزء كبير من عمله السياسي حول الاستعراض وتُرافقه في أدائه الوظيفي سمات إشكالية، ومن ناحية أخرى قائد إسلامي تتخطى شخصيته الكاريزماتية الحدود الإيرانية. ولا يلغي ذلك أن التهديدات التي وردت في الرسالة ونذر الحرب الموسعة في المنطقة وتداعياتها المحتملة كانتا الأساس وراء الاهتمام بتلك الرسالة في الإعلام العالمي. إذ إن تبادل الرسائل بين زعماء الدول يجري بشكل مستمر من دون أن يثير انتباهنا كثيراً، رغم وروده المتكرر في طيات الأخبار التي نطالعها والنشرات التي نتابعها.
على سبيل المثال، زار وزير الخارجية وكبير المفاوضين الإيرانيين في الملف النووي، عباس عراقتشي، موسكو في نيسان/أبريل الفائت، وسلّم رسالة من السيد خامنئي للرئيس الروسي. وفي الأيام الماضية زار وزير الدفاع السعودي، خالد بن سلمان، طهران، وسلّم السيد خامنئي، رسالة من ولي العهد السعودي. لم تثر هاتان الرسالتان الفضول والتساؤلات ولم يجرِ التوقف عندهما سواء في الشكل أم في المضمون.
عدا عن الرسائل المكتوبة، هناك أيضاً رسائل شفوية بين الرؤساء والقادة يحملها عادة موفدون، مثل الرسالة الشفوية التي حملها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا أحمد الشرع، قبل أسابيع.
لكن بخصوص الرسائل الخطية التي يكتبها رؤساء الدول ويوجهونها إلى نظرائهم، يمكن القول إنّها تتضمن في العادة معنى خاصاً وأهمية كبيرة، سواء من الناحية الدبلوماسية أم السياسية أو حتى الرمزية.
تُعد هذه الرسائل وثائق دبلوماسية تُحفَظ في أرشيف الدول، وغالباً ما يُكشف عنها لاحقاً كمصادر تاريخية مهمة تعكس تفاصيل السياسة الدولية والعلاقات بين الدول. في الغالب تُطبع هذه الرسائل ويتم التوقيع عليها من قبل الرئيس، وقلما تكون مكتوبة بخط اليد. لكن حتى وإن كانت مكتوبة بخط اليد، تكون اللغة فيها دقيقة للغاية، حيث تُراجع من قبل مستشاري الرئيس ووزارة الخارجية غالباً قبل إرسالها.
في عصر التكنولوجيا والاتصالات الفورية، يمكن القول إن الرسائل الخطية بين الزعماء والقادة لا تزال تلعب دوراً حيوياً وتحتفظ بمكانة خاصة كوسيلة رسمية ودبلوماسية للتواصل بين الدول. فهي ليست مجرد وسيلة إرسال معلومات، بل تحمل في طياتها دلالات سياسية وتاريخية.
يجري اللجوء إليها في بعض الحالات من أجل الأمان وسرية المحتوى، وقد يكون هذا أحد أسباب رسالة ترامب إلى السيد خامنئي، بحيث جرى الكشف عن جانب منها وبقي الجانب الآخر مستوراً. ففي بعض الأحيان، تحتاج القضايا الحساسة إلى اتصال مباشر وآمن، والرسائل الخطية توفر طبقة إضافية من السرية مقارنةً بالاتصالات الرقمية.
من مزايا الرسائل الخطية أنها تحمل الطابع الرسمي والاحترافي، إذ تُكتب بلغة دقيقة ومهنية، وتعكس التقدير المتبادل بين الدول، وتُستخدم في المناسبات الرسمية مثل التهنئة بمناسبات وطنية، أو التعازي في الكوارث، أو حتى لطرح مبادرات سياسية.
وعندما يتبادل الزعماء رسائل خطية، فإنها تصبح وثيقة تاريخية تُسجل مواقف الدول تجاه قضايا معينة، كما تسهم الرسائل الشخصية بين القادة في بناء جسور الثقة، خاصة في فترات التوتر، فخطاب مكتوب أو مُعد بعناية قد يُحدث فرقًا أكبر من رسالة إلكترونية عابرة.
يمكن العثور على عدة نماذج للدور المحوري الذي أدته الرسائل المكتوبة في تاريخ الدبلوماسية وحل النزاعات. في ذروة التوتر النووي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، تبادل الرئيسان الأميركي والسوفياتي عام 1962 رسائل مباشرة أسهمت في تجنب حرب نووية، بما يُظهر أهمية التواصل الشخصي بين القادة في إدارة الأزمات.
ومن الأمثلة على تلك الرسائل، رسالة بعث يها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما إلى رئيس كوبا السابق راؤول كاسترو عام 2015، في خطوة تاريخية سبقت إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين إثر قطيعة دامت أكثر من 50 عاماً، بما يعكس التحولات السياسية الكبرى. أما في العالم العربي، فربما تكون أشهر تلك الرسائل هي مراسلات الشريف حسين بن علي مع السير هنري مكماهون بين عامي 1915 و1916، والتي تُعد من أبرز الوثائق التي أثرت في تشكيل الشرق الأوسط الحديث، حيث وعدت بريطانيا بدعم استقلال العرب مقابل ثورتهم ضد العثمانيين.
في كتابه المعنون "رسائل محمد أحمد المجرن الرومي" للسفير الكويتي، مدير إدارة آسيا في وزارة الخارجية الكويتية السابق، يورد الرومي إحدى أغرب تلك الرسائل التي عاينها خلال زيارته لمركز الوثائق الأميركي في واشنطن، حيث شاهد رسالة بعثها طفل كوبي، لا يتجاوز عمره الثانية عشرة، إلى الرئيس الأميركي الأسبق روزفلت عام 1940، يطلب فيها هذا الطفل مبلغ 10 دولارات، من أجل شراء هدية لعيد الميلاد.
تسلم الطفل رسالة جوابية من الرئيس الأميركي، ولكن ليس بداخلها 10 دولارات كما طلب، وقد أُصيب بخيبة أمل. لم يكن هذا الطفل سوى فيدل كاسترو الذي قاد مع رفاقه لاحقاً ثورة ضد الإمبريالية أدت إلى قطع العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا واستمر ذلك نحو 54 عاماً.