من "سندور" إلى "البنيان المرصوص": جولة جديدة بلا منتصر في كشمير
كل ما جرى بين الهند وباكستان في إقليم كشمير لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة متكررة تُستعاد كل مرّة بأدوات أكثر حداثة لكن بنفس المقاربة السياسية العقيمة.
-
من "سندور" إلى "البنيان المرصوص": جولة جديدة بلا منتصر في كشمير
لم تكن الهند وباكستان في حاجة إلى فتيل جديد حتى يتجدّد بينهما الاشتعال، فإقليم كشمير – ذلك الجرح المفتوح منذ أواخر الأربعينيات – ظلّ على الدوام مستودعاً لكل عناصر الانفجار.
لكن ما بدا لحظة مفصلية في نهاية نيسان/أبريل الماضي، حين قُتل 26 سائحاً في الشطر الهندي من كشمير، لم يكن مجرّد حادثة معزولة، وإنما تحوّل سريعاً إلى ذريعة لواحدة من أخطر موجات التصعيد العسكري بين البلدين منذ سنوات.
تعطّلت المعاهدات وطُرد الدبلوماسيون وأُغلقت المعابر في ظرف أيام، وتبادل الطرفان القصف الجوي والبري وصولاً إلى مواجهة جوية ضخمة اشتركت فيها أكثر من 100 طائرة. وعلى نحو بدا مفاجئاً للبعض، توقّف كل ذلك بضغطة زرّ دبلوماسية، وُصفت بأنها أميركية بامتياز، رغم نفي الهند وتأكيد باكستان.
أطلقت نيودلهي عملية عسكرية تحت اسم "سندور"، بذريعة الرد على "الهجوم الإرهابي"، استهدفت خلالها مواقع باكستانية عسكرية ومدنية في آن. ولم يقتصر الرد على ضربات جوية محدودة، وإنما شمل ضربات دقيقة عبر الحدود مع توغّل بالطائرات المسيّرة وتهديدات مباشرة باستخدام القوة على نطاق واسع.
حَملَت عملية "سندور" دلالات رمزية لا يمكن تجاهلها، سواء في اختيار الاسم أو توقيت التنفيذ أو طبيعة الأهداف. فالمقصود لم يكن مجرد استعراض للقوة، وإنما بث رسائل مركّبة: إلى الداخل مفادها أن الحكومة لا تتهاون مع "الإرهاب" وأنها حاضرة إقليمياً بقوّة، وإلى الخارج بإظهار استعداد نيودلهي للرد دون انتظار ضوء أخضر من أحد.
وبالمقابل، ظلَّت إسلام آباد متمسكة بنفي أي علاقة لها بالهجوم وأطلقَت في الوقت ذاته عملية "البنيان المرصوص"، مستهدفةً أكثر من 20 موقعاً داخل الأراضي الهندية، بينها قواعد جوية ومخازن صواريخ. وتباهى الطرفان بـ"الردّ المناسب"، لكن تحت هذا الدخّان هناك خسائر مدنية تجاوزت الستين قتيلاً من الجانبين.
ظهر رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي كمن يراهن على الحسم، أو على الأقل على إرسال رسالة قوّة: منح الجيش "حرية عملياتية كاملة" وتعهد بتعقّب المتورطين في الهجوم إلى "أقاصي الأرض".
لُغة الخطاب بحد ذاتها لم تخرج عن النمط المعتمد في السنوات الأخيرة، والذي يستبطن اتهاماً دائماً لباكستان برعاية "الإرهاب العابر للحدود". لكن التصعيد السريع، في ظل انخراط طائرات الرافال، والرد الباكستاني بإسقاط 3 مقاتلات منها إلى جانب مقاتلتين آخرتين على الأقل – وفق روايتها – جعل الميدان مفتوحاً على سيناريو أسوأ، في وقت بدا فيه أن كشمير عادت لتكون اختباراً إقليمياً بالغ الحساسية لا مجرّد قضية حدودية مزمنة، رغم أن طبيعة الصراعات السابقة في الإقليم تشير إلى قِصَر فترة الاشتباك كما هو الحال حالياً.
وبالمقابل، بدت إسلام آباد وكأنها تستدرج الدعم الدبلوماسي عبر خطاب مزدوج: رفضت من جهة الخضوع لما سمّته "العدوان الهندي غير المبرر"، وأعلنت عن قدرتها على الرد الحاسم في حال التصعيد، لكنها دعت من جهة أخرى إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية في الهجوم، وطلبت جلسة عاجلة لمجلس الأمن، وناشدت الأمم المتحدة الضغط على الهند.
ومع توالي السجالات، أعلنت عن إسقاط 25 طائرة مسيّرة إسرائيلية الصنع، قالت إن الهند استخدمتها في "رد فعل مذعور"، كما تباهت بـ "انتصار عسكري حاسم"، وبأنها لم تلجأ إلى كل أدوات الردّ بعد.
دخلت واشنطن وسط هذا المشهد على خط الأزمة مباشرة. الرواية الأميركية تقول إن "معلومات استخباراتية مقلقة" دفعت نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو للتحرك العاجل، فجرى الاتصال بمودي وتشجيعه على الانخراط في اتصالات مباشرة مع باكستان.
وتحرّكت القنوات الدبلوماسية طوال الليل لترتيب وقف إطلاق النار، فيما أعلن ترامب، كعادته، عن الاتفاق بنفسه عبر "تروث سوشال"، معتبراً أنه إنجاز شخصي وإقليمي، ووعد بزيادة التجارة مع الطرفين وبالسعي إلى بحث السُبُل الممكنة من أجل حل مسألة كشمير المستمرة منذ " ألف عام". هذا التدخل، وإن أنهى المواجهة مؤقتاً، أعاد أيضاً تثبيت صورة واشنطن كضامن أمني في جنوب آسيا، مقابل دور صيني خافت لم يُعلن عنه بنفس الكثافة رغم أنه كان حاضراً في الكواليس.
لم تكن باكستان وحدها التي رحّبت بالوساطة الأميركية، فيما بدت الهند – خلافاً لذلك – حريصة على تقليل أهمية الوساطة، مكتفية بالقول إن الاتفاق "تمّ بين الطرفين مباشرة".
وتوزعت المواقف بين دعم غير مشروط للهند – كما ظهر في بعض التصريحات الأميركية – ومواقف أكثر توازناً مثل التي عبّرت عنها إيران ومصر والصين.
وبينما دعت الصين إلى "ضبط النفس" و"حل الخلافات عبر الحوار" وأجرَت عدة اتصالات مباشرة مع مستشاري الأمن القومي في البلدين عشية وقف إطلاق النار، اكتفت معظم العواصم الأوروبية بإصدار بيانات عامة تشيد بوقف النار.
ورحَّبَت الأمم المتحدة بالاتفاق، لكنها لم تقدّم أي مبادرة ملموسة، في وقت بدا فيه أن إدارة الأزمة تُدار بين واشنطن والعاصمتين الآسيويتين، مع حضور ثانوي للأطراف الأخرى.
ورغم الاتصالات وعرض بالوساطة بين الدولتين، بدت روسيا غائبة نسبياً عن المشهد، رغم أنها كانت في وقت ما لاعباً فاعلاً في مثل هذه الملفات، وربما يرجع ذلك لانشغالها بأزمات أخرى أو لأنها لا ترى في كشمير ميداناً حيوياً للتوسّع في صراع النفوذ الدولي الراهن.
اللافت في ذلك أن الدور الصيني ظل غير معلن على نطاق واسع، خلافاً للدور الأميركي الذي جرى تسويقه إعلامياً لتعزيز صورة ترامب ولأن واشنطن أرادت الظهور بمظهر الراعي الإقليمي القادر على منع مواجهة نووية في جنوب آسيا.
وعلى كل حال، أثارت الهدنة المفاجئة موجة ترحيب واسعة إقليمياً ودولياً، مع تأكيد أهمية العودة إلى الحوار، لكن المعطيات على الأرض كانت أقلّ تفاؤلاً. فخلال الساعات التالية مباشرة لإعلان وقف إطلاق النار، دوّت انفجارات في كشمير، واتهم كل طرف الآخر بخرق الاتفاق. تحدّثت نيودلهي صراحة عن طائرات مسيّرة، فيما قالت إسلام آباد إنها تلتزم بـ "ضبط النفس" رغم ما وصفته بـ "الانتهاكات المتكررة".
يبدو أن الهدنة ما تزال هشّة وأن العوامل الجوهرية للصراع لم تمسّ حتى الآن وجرى تأجيل المواجهة لا أكثر.
المثير أن التصعيد الأخير ترافق مع قرارات اقتصادية وديبلوماسية حادة. علّقت نيودلهي العمل بمعاهدة نهر السند، وهي واحدة من أقدم الاتفاقات المائية بين الدولتين النوويتين، وهو ما اعتبرته إسلام آباد "إعلان حرب مائي"؛ الجدير ذكره هنا، أن ذلك يمكن أن يتحول إلى أزمة وجودية في باكستان التي تعتمد بشدة على تدفقات المياه من الشمال.
وبالمقابل، أغلقت باكستان مجالها الجوي وعلّقت التجارة والتأشيرات وطردت مستشارين أمنيين هنود. ولأيام متتالية، تبادل الطرفان الطائرات المسيّرة والضربات، وطلبت باكستان مشاورات مغلقة في مجلس الأمن، بينما أعلنت عن تجارب صاروخية "تؤكّد الجاهزية"، في رسالة لا لبس فيها حول احتمالات الانزلاق إلى حرب مفتوحة.
وفيما كانت العمليات الميدانية تجري على الأرض والسماء، كانت الجبهة الإعلامية تعج بخطابات منتشية من الطرفين، تعلن "الانتصار" وتُفاخر بالردّ "الحاسم"، في مشهد لا يخلو من تكرار سرديات الحرب النفسية التي عادة ما تصاحب جولات التصعيد الهندي - الباكستاني.
لكن وراء هذه البلاغة الوطنية ثمّة دلالات تستحق التوقّف. خاضت الهند هذا التصعيد ضمن مناخ داخلي شديد الحساسية، يتّسم بعودة التوترات المجتمعية وتصاعد قوى اليمين الديني وزيادة الاعتماد على الشعبوية القومية في الخطاب السياسي، في لحظة يبحث فيها مودي عن تثبيت شرعيته بصفته "الرجل القوي" القادر على مواجهة التحديات الأمنية دون تردّد.
وبالمقابل، خاضت باكستان هذه الجولة ضمن سياق داخلي يعم بأزمات سياسية واقتصادية متفاقمة، من تراجع العملة إلى صراع بين بعض مؤسسات الدولة، ومن ثم بدا الخطاب التعبوي حول "العدوان الهندي" بمثابة إعادة إنتاج سردية موحِّدة في لحظة انقسام داخلي.
لكن إذا كانت الجولة الأخيرة قد انتهت على وقع وعود بالحوار وأصوات دبلوماسية عالية النبرة، فإن ما بقي منها هو صورة نظام إقليمي مأزوم، وعقدة كشميرية لم يطرأ عليها سوى مزيد من التكلّس. إذ إن كل ما جرى لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة متكررة تُستعاد كل مرّة بأدوات أكثر حداثة لكن بنفس المقاربة السياسية العقيمة.
وفي ظل غياب إرادة حقيقية لمعالجة جذور النزاع، ووسط سباق تسلّح غير معلَن تتداخل فيه حسابات المياه والحدود والديموغرافيا والدين، تظلّ الهدنة الحالية أقرب إلى وقوف على الحافة منها إلى انفراج حقيقي.
ربما لن تندلع حرب واسعة، وربما تُعاد خطوط الاتصال تحت ضغط الخسائر مع استمرار نفوذ خارجي قادر على تأجيل الحرب لا إنهائها، لكن ما لم يُفتح الباب أمام تسوية شاملة تتضمّن سكان كشمير أنفسهم، ستبقى كل "تهدئة" مُهلة مؤقّتة في صراع طويل النَفَس، تتغيّر فيه الوجوه وتبقى الأسئلة بلا إجابة.