التضليل المُوجّه في الإعلام الإسرائيلي.. تقليم المبالغات (5-3)

بعيداً من الغلو في افتراضات قد تحيل أي مصادفة إلى عمل مخطط، أو الاستخفاف بأسئلة تبقى صالحة في إطار المراجعة لمختلف جوانب الحرب.

  • ثمة محاولة إسرائيلية تهدف إلى تعويم خطاب إعلامي نفسي انهزامي.
    ثمة محاولة إسرائيلية تهدف إلى تعويم خطاب إعلامي نفسي انهزامي.

تشرف على الرقابة الإعلامية داخل "إسرائيل" وحدة تابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) في "جيش" الاحتلال، وتُمثّل هذه الوحدة إحدى أبرز أدوات السيطرة الإعلامية التي تستخدمها المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، خصوصاً إبان الحروب والأزمات. 

ينحسر الحديث، عند التطرّق بشكل خاص إلى الخداع الاستراتيجي عبر الإعلام أو التضليل الإعلامي ذي البعد الأمني، والذي قد يسبق ويرافق خطوة عسكرية كبيرة مثل العدوان الإسرائيلي على لبنان خلال أيلول/ سبتمبر الماضي، علماً أن هذا النوع من التضليل لا ينحصر بالضرورة في إطار التقارير والمواد الإعلامية، لكنّ للإعلام دوراً حيوياً فيه.

أما إذا أردنا الانتقال إلى دائرة التضليل الإسرائيلي بمفهومه الأوسع فتصبح الشواهد والأدلة حينها أكثر سطوعاً وطوعاً، إذ يبدو من الصعب فصل التلازم القائم بين العمل الإعلامي الإسرائيلي وبين الأهداف القومية الإسرائيلية، وهي أهداف استلزمت منذ إرهاصات المشروع الصهيوني التخصص في الدعاية والبروباغندا والتضليل والتحريف، وغيرها من المصطلحات الأكاديمية الإعلامية.

فحص الفرضية وتقليم المبالغات

تشير دراسة "أيديولوجيا الإعلام الإسرائيلي في تغطية الشأن الفلسطيني" إلى أنه رغم التطور الكبير الذي شهده الإعلام الإسرائيلي في النقاشات اليومية والشؤون السياسية، فإن الجانب الأمني لا يزال متحكماً في انطلاقته، فارضاً نفسه بقوة عليه.

مع ذلك، يجب في إطار هذا الجزء من السلسلة وضع الأمور في نصابها، من دون، لا الغلو في افتراضات غير مسندة قد تحيل أي مصادفة إلى عمل مخطط وعقل موجّه، ولا التقليل من شأن أسئلة لا ضير من طرحها في الحد الأدنى، وتبقى صالحة لمن أراد في إطار المراجعة الشاملة لمختلف جوانب الحرب، لا سيما في شقيها النفسي والإعلامي.

مجموعة من العناصر يستحسن عدم إغفالها في طريق الوصول إلى تلك الغاية:

أولاً، على اعتبار أنه جرى تخصيص آراء إسحاق بريك في جزء معتبر من هذا العرض، تجب الإشارة إلى أن آراء الأخير الناقمة وتقديراته السلبية ليست حديثة، بل إن بعضها يسبق الحرب الأخيرة بسنوات، كما أنه لا يزال حتى اليوم يعارض وينتقد الكثير من قرارات المؤسسة الرسمية، ويحتفظ بتقديرات سلبية حول مستقبل "إسرائيل"، رغم كل ما حدث. الأهم في هذا الإطار، هو أن الكثير من الفجوات والثغرات التي يشير إليها وتعتري أداء "جيش" الاحتلال وتفكير المؤسسة الرسمية، تتقاطع معطيات أخرى على توكيد صحتها.

ثانياً، ينبغي وضع إطار عام أو على الأقل توضيح إشكالية هذا الطرح وإزالة أي التباس قد يعلق بها، فهل المقصود هو التساؤل عمّا إذا كانت المقاومة في لبنان أو أطراف في المحور قد تعرضت إلى خداع استراتيجي إسرائيلي شكّل الإعلام العبري أبرز أدواته، الأمر الذي أدّى إلى تقديرات خاطئة حول نوايا "إسرائيل" نجم عنها ما حصل لاحقاً؟

يمكن الحديث عن مجموعة أسباب، رئيسية وثانوية، أدّت إلى نضوج قرار إسرائيلي بالحرب، وصولاً إلى الموازين والمعادلات التي نجمت عن تلك الحرب. ورغم أن حزب الله لم يفرج بعد عن مطالعة شاملة حول حيثيات ما حصل ونتائج تحقيقات ومراجعات أجراها، باستثناء ما أعلن عنه الشيخ نعيم قاسم وبقي في إطار العموميات، يمكن القول إن السبب الرئيس والمحوري والحاكم في ما حصل هو سلسلة الخروقات الأمنية النوعية التي اخترقت جسم المقاومة في لبنان.

إن البعد الإعلامي في هذا السياق، والذي ينطوي على فرض التضليل والخداع، هو عامل مكمّل وثانوي.

ثالثاً، رغم وجود مئات المواد المنشورة في الإعلام الإسرائيلي والتي تتضمن تحليلات وتقارير وتصريحات وآراء حول صعوبة حسم أي حرب مقابل حزب الله وخطورة تبعات مثل هذا التوجّه وكلفته، بما يمكن أن يستنتج منه أن "إسرائيل" ملجومة عن الحرب، إلا أنه يقابل ذلك أيضاً ما يفيد العكس.

رابعاً، ثمة محاولة جرت بموازاة الحرب وما زالت مستمرة بزخم تداعياتها من أجل تعويم خطاب إعلامي نفسي انهزامي حول فكرة المقاومة، وإعادة الاعتبار لمقولة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر" وما يستتبعها من تسويق لفكرة العقل الإسرائيلي المتفوّق. عبّر عن ذلك بوضوح بنيامين نتنياهو عندما حرص قبل أي شيء على تبديد فكرة "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت"، بما يعكس قوة هذه الفكرة وتأثيرها العميق على المستوطنين كما على بيئة المقاومة.. لكن، ما علاقة ذلك بالإشكالية التي نحن بصددها؟

هناك أسباب وعوامل نجم عنها ما حصل، متى تم تشخيصها أصبح المثل القائل "متى عرف السبب بطل العجب" أكثر جلاءً. المغزى من ذلك عدم الانجرار إلى التعميم أو التفخيم، فأن تتفوّق "إسرائيل" في نتيجة هذه الحرب بسبب خروقات أمنية ليس معناه أنها متفوّقة بالمطلق وفي كل شيء، بدليل حضور الأساطيل الأطلسية 3 مرات إلى المنطقة نتيجة عجزها السافر عن الدفاع عن نفسها بقواها الذاتية، ولا يعني ذلك بالتأكيد أن كل ما هو قائم في جانب المقاومة كان خاطئاً.

بالمثل، هناك شيء من هذا القبيل ينطبق على إشكالية التضليل الإعلامي، إذ ليس علمياً في حال ثبت وجود تضليل، أن يجري التشكيك ونزع الواقعية عن كل ما يرد في الإعلام الإسرائيلي.

في النهاية، هناك الكثير من الأمور الصحيحة التي يتعذّر إخفاؤها أو تحريفها مثل الأزمة البنيوية والتناقضات التي يحفل بها المجتمع الإسرائيلي والانقسامات التي عدّها "معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي" في تقريره للعامين 2025/2026 من أكبر التهديدات التي تواجه "إسرائيل" بعد حرب غزة، مشيراً إلى أن استمرار الانقسام قد يهدد وجود "إسرائيل" ذاته.

خلاصة هذه النقطة باختصار أنه يتعيّن مقاربة الإشكالية بدقة علمية بحيث لا يؤدي طرح فرضية إلى نسف كل ما يرد من الإعلام الإسرائيلي واعتباره غير موثوق أو غير قابل للاعتماد، وعدم المبالغة في جعل فرضية التضليل تطغى على كل الحقائق البيّنة التي يعكسها الإعلام الإسرائيلي، وفي المقابل، يتعيّن عدم التردد في طرح الأسئلة النابعة من مراجعة ما جرى ومن ضمنها سؤال التضليل.

السياق السياسي 

في إطار الدفوع المضادة التي يستعرضها هذا الجزء من السلسلة تحضر تجربة المقاومة اللبنانية وتمرّسها في متابعة الإعلام الإسرائيلي. هذه الخبرة، التي استمدتها المقاومة بفعل متابعتها الإعلام العبري عبر عقود، يُفترض نظرياً أن تقيها فخ الوقوع بسهولة ضحية أي تضليل من قبل "إسرائيل".

من الناحية السياسية، أدرك محور المقاومة منذ اليوم التالي لـ "طوفان الأقصى" أنه لا يواجه "إسرائيل" وحدها. في الأساس، لم تكن "إسرائيل" وحدها في يوم من الأيام. لم يكن الأمر يحتاج إلى حضور الأساطيل الأميركية والأطلسية ثلاث مرات إلى المنطقة خلال عام لإثبات ذلك، لكنّه مثّل دليلاً دامغاً وإضافياً. 

أدركت جبهات الإسناد بعد ما يقارب العام على بداية "طوفان الأقصى" أنها أمام إحدى أطول الحروب مع "إسرائيل"، إن لم يكن أطولها. من غير المعلوم بعد، ولم يكن معلوماً عشية العدوان الموسع على لبنان، متى تنتهي هذه الحرب ولا كيف، كما لم يكن معلوماً ما هي المفاجآت المحتملة والمنعطفات الكامنة قبل الوصول إلى خط النهاية. 

سباق المسافات الطويلة هذا، اقتضى بطبيعة الحال إدارة المعركة بحكمة ورؤية تأخذ بعين الاعتبار موازين القوى في إطار بيئة دولية متحوّلة وبيئة إقليمية متغيّرة، إضافة إلى نقاط القوة والضعف في معسكر الإسناد كما في معسكر الأعداء. 

يفترض أن المقاومة لم تكن بعيدة من هذا المنطق، في ظل واقع شديد التعقيد وجدت جبهات الإسناد نفسها تحت وطأته، لكن المفاجأة التي لم تكن في الحسبان تمثلت بالخرق الأمني.

مؤشرات إلى نية الحرب

من جملة الأمور التي قد تعاند فرضية وجود تضليل أدى إلى خداع المقاومة في لبنان وجعلها تعتقد أن "إسرائيل" مردوعة، ورود إشارات صريحة في الإعلام العبري حول حافزية "إسرائيل" للحرب. ذلك لا يلغي بطبيعة الحال فرضية التضليل، على اعتبار أن أي كلام سوف يرد لاحقاً يجوز تصنيفه أيضاً، وقد يُنظر إليه حينها، في إطار التهويل والحرب النفسية، لكن هنا تحديداً يظهر الكمين وتتعقد الحسابات ويصبح التمييز بين التضليل والخداع والتهويل أكثر صعوبة.

مجموعة تحليلات صادرة من داخل "إسرائيل" ركّزت في وقت مبكر على سعي نتنياهو إلى جرّ الولايات المتحدة نحو حرب إقليمية، عدا أن ظروف السابع من أكتوبر، هي اعتبارات دفعت مجموعة من المستويين السياسي والعسكري، إلى مشاركة نتنياهو في التوجّه إلى قرار توسيع الحرب.

خارج الإعلام الإسرائيلي، لفتت مجلة "بوليتيكو" في شهر شباط/فبراير إلى قلق بايدن حول نية نتنياهو جرّ واشنطن إلى حرب شاملة. وفي أواخر شهر حزيران/يونيو الماضي، قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إن "إسرائيل" يبدو أنَّ أنظارها تتجه الآن إلى لبنان، والقوى الغربية تدعمها في الكواليس.

حادثة مجدل شمس شكّلت منعطفاً في التحذير من أخطار فتح جبهة حرب جديدة مع لبنان، وقد عبّر عن ذلك كل من مصر والأردن وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها.

أما في الإعلام العبري فقد تعدّدت الإشارات حول ذلك. في 8 أيلول/ سبتمبر، نقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن مسؤول أمني كبير قوله إن الحملة العسكرية في لبنان تقترب، لكن "توقيتها الدقيق لم يحدد بعد".

ورأى الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي يعقوب عميدرور أنه "في مرحلة ما سيتعيّن علينا أن نشن حرباً ضد حزب الله في لبنان"، على الرغم من كل التبعات.

استطلاعات الرأي الإسرائيلية أظهرت دعماً لمثل هذا التوجه، ومن بينها استطلاع لـ"دايركت فولز" نشر في أيلول/ سبتمبر الفائت بيّن أن 71% من الإسرائيليين يعتقدون أن على "إسرائيل" أن تبدأ فوراً حرباً على لبنان.

خلال شهر كانون الثاني/ يناير، ذكرت هيئة البث الإسرائيلية أن حكومة نتنياهو حذرت واشنطن من أنها ستقوم بعمل عسكري في لبنان إذا لم يتم إبعاد "قوة الرضوان" عن الحدود. نتنياهو أوضح نيته في حوار مع مجلة "تايم"، في آب/أغسطس، حينما رأى أن خوض حرب إقليمية يمثّل مخاطرة لكنه مستعد لها.

وزير الأمن السابق يوآف غالانت أشار في منتصف تموز/يونيو خلال تفقده للقوات على الجبهة الشمالية إلى إمكانية الانتقال إلى حرب مع حزب الله بشكل "سريع ومفاجئ وحاد جداً".

وكان مسؤولون أميركيون كشفوا لصحيفة "نيويورك تايمز" أواخر يونيو/تموز، أن غالانت، "غيّر موقفه" بشأن فتح جبهة جديدة للحرب مع حزب الله. السبب في هذا الكشف أن غالانت كان أكد في وقت سابق خلال مراجعة أمنية لأعضاء لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست بتاريخ 12 آب/أغسطس أن "الظروف القائمة اليوم للحرب في لبنان هي عكس ما كانت عليه في بداية الحرب. هذه الحرب ستكون مغامرة".

أما في 10 أيلول/سبتمبر فقد هدّد غالانت بحرب وشيكة على لبنان. وقال في تصريحات بعد زيارته المنطقة الحدودية مع لبنان: "أتحدّث بعلانية عن حرب وشيكة مع لبنان. المهمة في قطاع غزة تقترب من نهايتها، وسيتم نقل الثقل إلى الجبهة الشمالية"، مضيفاً أن جيشه "ينقل ثقله العسكري إلى الشمال استعداداً لمواجهات أوسع مع حزب الله اللبناني".