"قرقل باغستان".. إرث سوفياتي آخر يعود إلى الواجهة

أحداث قرقل باغستان الأخيرة أو ما كان يعرف قديماً بخوارزم، وما سبقها من أحداث في آسيا الوسطى، سلطت الضوء على ما تعانيه بعض دول الاتحاد السوفياتي السابق من ضعف اقتصادي وبنيوي واجتماعي، قد تستغله القوى الكبرى للرد على التحركات الروسية في شرقي أوروبا.

  • الاشتباكات في "قرقل باغستان" الأوزبكاكستانية أدت إلى مقتل 18 شخصاً

تطورات متسارعة شهدتها جمهورية أوزبكستان في مطلع الشهر الجاري، عقب خروج تظاهرات "مفاجئة" في إقليم "قرقل باغستان"، المتمتع بالحكم الذاتي، تلتها اشتباكات أدّت إلى مقتل نحو 18 شخصاً. هذه التطورات ربما ترتبط بشكل أو بآخر، بحال من عدم الاستقرار شهدتها دول آسيا الوسطى، خصوصاً كازاخستان وطاجيكستان، في الأشهر القليلة الماضية، بالقدر نفسه الذي ترتبط فيه بالمشكلات الداخلية في تلك الدول، والتي تعد من الآثار الممتدة لانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

مسرح التطورات الأنفة الذكر كان جمهورية "قرقل باغستان"، ذات الحكم الذاتي، التي تحتل نحو 40 في المئة من أراضي جمهورية أوزبكستان، وتحديداً في أقصى الشمال الغربي للبلاد، بين جمهوريتي تركمانستان وكازاخستان.

يعود أصل سكان هذه الجمهورية، البالغ عددهم حالياً نحو مليوني شخص، إلى 3 قوميات أساسية هي الأوزبك والقوزاق والقرقل باغ، مع ترجيح طفيف لنسبة القومية الأخيرة في إجمالي عدد سكان هذه الجمهورية، التي تمتلك لغة خاصة بها إلى جانب الأوزبكية.

تاريخ متقلب لجمهورية "قرقل باغستان"

كانت هذه الجمهورية عموماً تحت السيطرة الروسية منذ القرن الثامن عشر، وخضعت لحكم القياصرة الروس، لكن عقب الثورة البلشفية، أعلنت عام 1918 قرقل باغستان جمهورية سوفياتية تتمتع بحكم ذاتي، ومنذ ذلك التوقيت خضع وضعها السيادي لتقلبات عدة، حيث أعلنت عام 1925، جزءاً من جمهورية كازاخستان السوفياتية، ثم ضُمت عام 1930 إلى جمهورية روسيا السوفياتية. بعد عامين أعلنت كياناً مستقلاً يتمتع بالحكم الذاتي، تحت اسم "جمهورية قرقل باغستان الاشتراكية السوفياتية".

في عام 1936 ضمّت إلى جمهورية أوزبكستان السوفياتية، مع احتفاظها بالحكم الذاتي. ظل هذا الوضع قائماً حتى أعلنت الجمهورية استقلالها عن الاتحاد السوفياتي في مطلع عام 1992، واعتمد دستور أوزبكستان بنوداً تؤكّد تمتع هذه الجمهورية بالحكم الذاتي.

في عام 1993، قامت جمهورية قرقل باغستان وجمهورية أوزبكستان، بتوقيع اتفاقية لإعادة الوحدة بينهما، بشرط أن تظل جمهورية قرقل باغستان متمتعة بالحكم الذاتي، ويكون لها الحق في إجراء استفتاء على استقلالها من أوزبكستان بحلول عام 2013.

على المستوى الاقتصادي، كانت هذه الجمهورية تعتمد -حتى وقت قريب- على الزراعة وصيد الأسماك، لكن أدّت الممارسات السوفياتية الخاطئة على المستوى الزراعي، وعلى رأسها القرار الخاص بتحويل مجرى اثنين من الأنهار التي تغذّي بحر آرال، الذي تطل عليه هذه الجمهورية، إلى جفاف هذه البحر تدريجاً منذ سبعينيات القرن الماضي، وانحسرت المياه إلى 10% فقط من مساحته الأصلية عام 2008، وهذا كله أدّى إلى تلاشي نشاط صيد الأسماك، وتراجع مساحات الأراضي الصالحة للزراعة، وارتفعت تالياً نسبة البطالة في هذه الجمهورية خلال السنوات الأخيرة، ليصبح مستوى الفقر بين سكانها هو الأعلى بين قاطني أوزبكستان.

على الرغم من الكثافة السكانية المنخفضة والوضع الجغرافي الحالي لقرقل باغستان، واعتمادها اعتماداً شبه كليّ اقتصادياً على أوزبكستان، إلا أن هذه الجمهورية تمتلك مقومات اقتصادية مهمة، خصوصاً ما يتعلّق منها بالموارد الطبيعية، مثل الذهب واليورانيوم، إلى جانب احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، فضلاً عن عبور أهم خطوط الغاز الأوزبكية عبر أراضيها، لذا كانت طشقند دوماً تحاول الهيمنة على هذه الجمهورية، وهو ما أدى إلى حدوث توترات متكررة بين الجانبين على مدار العقود الماضية.

نزعات استقلالية مبكرة في أوزبكستان

ترجع التوجهات الاستقلالية في قرقل باغستان إلى بداية ظهور الاتحاد السوفياتي في عشرينيات القرن الماضي، على خلفية التباينات الثقافية بين هذه الجمهورية ومحيطها، والتأثيرات الاقتصادية الكبيرة التي نتجت عن القرارات السوفياتية الخاصة بتحويل مجاري الأنهار التي تصب في بحر آرال، الى مناطق أخرى في الاتحاد السوفياتي لزراعة القمح والقطن. هذه القرارات التي أدت إلى تأثيرات اقتصادية كبيرة في الجمهورية، أفضت –إلى جانب تواضع البنى التحتية المتوافرة داخل قرقل باغستان- إلى ظهور حركات استقلال عدة، مثل حزب "النهضة الوطنية الحرة"، وحركة "ألغا"، لكن كان لهذه الحركات تأثير ضئيل على المستوى الفعلي.

التحركات الأخيرة لطشقند، لتوفير مزيد من السيطرة على جمهورية قرقل باغستان، أسهمت في إعادة إحياء مخاوف الأخيرة من محاولة الأولى إنهاء حالة الحكم الذاتي التي تتمتع بها الجمهورية، خصوصاً في ظل عدم إجراء استفتاء الاستقلال الذي كان مقرراً عام 2013، وإعلان اكتشاف احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي في قرقل باغستان عام 2018. بداية هذه التحركات كانت عبر تعديلات دستورية اقترحها الرئيس الأوزبكي، شوكت ميرضيايف، في حزيران/يونيو الماضي، ضمن حملة "أوزبكستان الجديدة" التي دشنها الرئيس قبل سنوات.

بلغ عدد التعديلات المقترحة 170 تعديلاً، رغب ميرضياف -الذي تولى منصبه عام 2016- في طرحها على الاستفتاء الشعبي، وقد تضمنت بنوداً خاصة بمدة الولاية الرئاسية الواحدة، وقد عُدلت لتصبح 7 سنوات بدلاً من خمس، إضافة إلى تعديلات أخرى بعضها يمسّ حالة الحكم الذاتي لجمهورية قرقل باغستان، بما في ذلك إلغاء الحق في الانفصال عن أوزبكستان عبر الاستفتاء.

هذه المقترحات أدت إلى اندلاع احتجاجات كبيرة في مدن عدة في قرقل باغستان في مطلع الشهر الجاري، خصوصاً في عاصمة الجمهورية "نوكوس"، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 18 شخصاً وإصابة 243 آخرين، واعتقال 516 شخصاً، وتلا ذلك إعلان حال الطوارئ في الجمهورية إلى أن رفعت في 20 من الجاري.

اللافت هنا أن الرئيس الأوزبكي بادر في اليوم الثاني للاحتجاجات، إلى إلغاء خططه لتنفيذ الاستفتاء في التعديلات الدستورية، وأكد استمرار تمتّع قرقل باغستان بالحكم الذاتي، وهو ما يمكن وضعه في إطار خشيته من دخول البلاد في حال من الفوضى، في ظل تكرار الاحتجاجات الشعبية في دول مجاورة عدة.

مخاوف طشقند من أحداث قرقل باغستان

أسباب الاستجابة السريعة من جانب الحكومة المركزية في طشقند للتحركات في قرقل باغستان، يمكن حصرها في سببين أساسيين، الأول هو الجانب الاقتصادي المتعلق برغبة طشقند في التوسع في عمليات استخراج النفط والغاز، ومضاعفة إنتاجها الحالي من النفط 3 مرات على الأقل بحلول عام 2030، خصوصاً بعد أن أعلنت الشهر الماضي أكبر اكتشاف نفطي في تاريخ البلاد، في منطقة "زرافشان"، الواقعة بين مدينتي "سمرقند" و"نافوي"، يحتوي على احتياطيات تقدر بنحو 730 مليون برميل من النفط الثقيل.

هذه الرغبة دفعت طشقند إلى تجنب حدوث أي قلاقل ميدانية، وفي الوقت نفسه، محاولة تطويق غضب قرقل باغستان، على نحو يسمح لاحقاً بالتعاون معها في مجال التنقيب عن الغاز والنفط.

هذه المخاوف ترتبط أيضاً بحقيقة أن أوزبكستان تشهد بعض القلاقل الأمنية، على خلفية ما حدث أوائل هذا الشهر في قرقل باغستان، منها إطلاق 5 صواريخ من الأراضي الأفغانية، نحو مدينة "ترميز" الأوزبكية، علماً أن تنظيم "داعش خراسان"، كان أعلن في نيسان/أبريل الماضي، عن إطلاقه صواريخ على الأراضي الأوزبكية، لكن حينذاك نفت طشقند هذه الأنباء، التي باتت دليلاً على أن الأراضي الأوزبكية أصبحت هدفاً للتنظيم في المرحلة المقبلة.

السبب الثاني لهذه الاستجابة السريعة هو أن طشقند تضع أمام ناظريها ما حدث في العام الجاري في كازاخستان وطاجيكستان، حيث اندلعت في الأولى احتجاجات على ارتفاع أسعار الغاز، صاحبتها اشتباكات مسلحة عمّت المدن الكازاخية، في حين شهدت جمهورية "غورنو باداخشان" المتمتّعة بالحكم الذاتي في طاجيكستان، احتجاجات شعبية رفضاً لتدهور الأوضاع الأمنية.

مع أن الأحداث في الدول الثلاث كانت لها أسباب وخلفيات مختلفة من حيث المبدأ، تتمحور حول المشكلات التنموية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها هذه الدول منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، إلا أن توقيت هذه الأحداث وتسلسلها يثيران تساؤلات مهمة حول إمكان ضلوع أطراف خارجية فيها، وهو ما ألمحت إليه السلطات الأوزبكية.

وبصرف النظر عن احتمالية ضلوع أطراف خارجية في هذه الأحداث، يمكن القول إن دول آسيا الوسطى، بات تستشعر قرب دخولها في آتون صراع إقليمي أو دولي، بين موسكو والغرب، على خلفية الوضع المتفاقم في أوكرانيا، وهي مخاوف دفعت أوزبكستان وطاجيكستان وأذربيجان وكازاخستان، إلى تفعيل التعاون والشراكة فيما بينها، خصوصاً أوزبكستان وأذربيجان، اللتين وقّعتا الشهر الماضي شراكة إستراتيجية بينهما تتضمن 18 اتفاقية تعاون في المجالات الصناعية والتجارية والأمنية والعسكرية.

ويضاف هذا إلى سعي الدول المذكورة للتعاون مع القوى الإقليمية القريبة، مثل تركيا، التي وقعت أوزبكستان معها في تشرين الأول/أكتوبر 2020، اتفاقية تعاون عسكري ومالي.

خلاصة القول أن أحداث قرقل باغستان الأخيرة، وما سبقها من أحداث في آسيا الوسطى، سلّطت الضوء على ما تعانيه دول هذا النطاق الجغرافي من ضعف اقتصادي وبنيوي واجتماعي، قد تستغله القوى الكبرى للرد على التحركات الروسية في شرقي أوروبا، بخاصة أن هذا النطاق يعد خاصرة روسية مهمة، للولايات المتحدة الأميركية فيها وجود مهم.