مؤتمر شرم الشيخ.. بين اتفاق غزة والحرب الباكستانية-الأفغانية
تمكنت المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن، من إجبار العالم على إعادة صياغة مصالحه مرة أخرى بناء على صمودها، واضطراره إلى تهميش وضع الكيان الصهيوني ولو مؤقتاً.
-
لماذا توقفت الحرب في غزة؟
بالرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يستضيف فيها منتجع شرم الشيخ مثل هذه المؤتمرات المعنية بالسلام، حسب التسمية الإعلامية المستخدمة، بين العرب والكيان الصهيوني، فإن العديد من المراقبين أشاروا إلى وجود حالة خاصة لهذه القمة الأخيرة، ترتبط بطبيعة الدول المدعوة، والتي لم يكن من بينها طرفا الحرب: المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، مشيرين إلى أن هذا الحضور لم يرتبط فقط بالحرب العدوانية على غزة وإنما بقضايا وأحداث أخرى مستجدة.
كان الهدف المعلن لهذا المؤتمر الذي عقد في 13 أكتوبر الجاري تحت مسمى "قمة شرم الشيخ للسلام" هو التوصل إلى اتفاق نهائي لوقف الحرب في قطاع غزة، ومناقشة تفاصيل الترتيبات الأمنية والإدارية لفترة ما بعد الحرب، بما في ذلك مسألة إعادة الإعمار وملف تشكيل حكومة انتقالية، إلا أن دعوة بعض الدول مثل الهند وباكستان وأذربيجان وأرمينيا وكندا واليونان، وهي دول لم يكن لها الكثير من الأدوار والمساهمات في تاريخ القضية العربية الأولى (فلسطين)، في الوقت الذي غابت فيه دول معنية بهذه القضية مثل لبنان، ودول مؤثرة على مستوى العالم وكان لها دورها في القضية العربية كالصين وروسيا، لم يكن عادياً على الإطلاق.
إن السؤال الأول الذي يجب طرحه هو: لماذا توقفت الحرب في غزة؟
من المؤكد أن هناك العديد من الأسباب لعل أهمها الأفق غير الواضح للعمليات العسكرية الصهيونية والتي تنتقل من فشل إلى آخر، وتسعى للتغطية على فشلها باستخدام البطش الهستيري وبأسلحة أميركية، وهو ما وضع الرئيس الأميركي والرؤساء الأوروبيين في مواجهة الجماهير التي بدأت تمثل ضغطاً كبيراً على السياسيين وتهاجم الكيان الصهيوني، ما يهدد طبيعة هذه الأنظمة ذاتها، التي تقوم على الارتباط بالرأسمالية المركزية والتي بدورها يمثل التعاطف مع الكيان الصهيوني جانباً كبيراً من رؤيتها لتقسيم سوق العمل في العالم. ولا تقتصر الضغوط الجماهيرية على الدول الأوروبية، فعلى الجانب الصهيوني الداخلي ذاته، هناك ضغوط من قبل الجماهير الصهيونية على الحكومة الصهيونية بضرورة استعادة الرهائن الصهاينة، وهو ما فشلت حكومة بنيامين نتنياهو طوال عامين في تحقيقه. والأهم هو فشل كل من الولايات المتحدة والكيان الصهيوني خلال هذين العامين في القضاء على المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن، رغم الضربات الجوية الوحشية التي لجآ إليها.
من ناحية أخرى، هناك استحقاق الانتخابات النصفية التي سيخوضها دونالد ترامب في نوفمبر القادم وتشمل جميع مقاعد مجلس النواب البالغ عددها 435 مقعدًا، و33 أو 34 مقعدًا من أصل 100 مقعد في مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى قيام 34 ولاية من الولايات الأميركية الخمسين بانتخاب حكامها لمدة أربع سنوات خلال انتخابات التجديد النصفي، بينما تنتخب ولايتا فيرمونت ونيوهامبشاير حكامًا لمدة عامين في كل من الانتخابات النصفية والرئاسية. أي أنه سوف يجري انتخاب 36 محافظًا خلال انتخابات التجديد النصفي. ومن المؤكد أن ترامب يرغب في تحقيق إنجازات تمكنه من تحقيق نتائج إيجابية لحزبه خلال هذه الانتخابات، وهو ما لا يمكن تحقيقه مع المجازر التي يتابعها العالم في غزة، والتي أدت إلى نوع من الانفصال (ما زال محدوداً) بينه وبين حركة MAGA التي تؤيده لدرجة أن مارجوري تايلور جرين، إحدى الشخصيات المهمة في الحركة، وصفت الحرب الصهيونية على غزة بأنها إبادة جماعية، ما دفع موقع صحيفة Newsweek للقول بأن حرب غزة أظهرت صدعاً في الحركة " MAGA’s Gaza Rift". وبالتالي، يسعى ترامب إلى ترميم صورته أمام أنصاره قبل الانتخابات.
هناك سبب آخر يتعلق بالصراع الذي بدأ يتطور بشكل خطير بين الكيان الصهيوني والأتراك، سواء حول الأوضاع في سوريا أو لبنان، إذ يصر الأتراك على ضرورة وضع مصالحهم في الاعتبار في البلدين، كما يرفضون فكرة التأسيس لأي كيان كردي في سوريا يهدد أمنهم القومي، ومثل هذا الصدام ربما يفتح مجالاً أكبر للصراع بين حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، وهو ما لا يريده الرئيس الأميركي.
التساؤل الثاني يتعلق بما سبقت الإشارة إليه بشأن الدول التي تمت دعوتها إلى هذه القمة، وبعضها لا علاقة له بالقضية العربية الأولى (فلسطين)، وفي المقابل غياب دول مرتبطة بالقضية أو دول لها تأثيرها في المنطقة العربية والعالم؟! ووجود كل من الهند وباكستان (خصوصاً) في القمة، بالرغم من الصدام العسكري الذي جرى بينهما منذ فترة قريبة، والأهم هو الصدام الذي يجري حالياً بين باكستان وأفغانستان (تحظى بدعم الهند)، يضع علامات استفهام أكبر.
إن الإجابة عن هذا التساؤل تشير إلى أن قمة شرم الشيخ لم يكن الغرض الوحيد منها هو التوصل إلى اتفاق نهائي بخصوص غزة، وإلا لكان من الضروري حضور أطراف الحرب على الأقل، لكن طبيعة الحضور تؤكد أن هذه القمة، مهما كان عنوانها، كانت واجهة سياسية لمشروع الممر التجاري الهندي – الأوروبي (IMEC)، والذي ترغب الولايات المتحدة في أن تجعله منافساً وبديلاً لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية، مع الوضع في الاعتبار المستجدات التي فرضتها المقاومة العربية، وفشل محاولات إسقاط النظام الإسلامي في إيران.
بحسب الخطة التي تم وضعها لمسار هذا الممر، كان من المفترض أن يبدأ المسار من موانئ الهند وحتى الإمارات العربية في الخليج، ثم يتخذ مساراً برياً من الإمارات إلى المملكة العربية السعودية ثم المملكة الأردنية، وينتهي في ميناء حيفا في الكيان الصهيوني ليتخذ مساراً بحرياً مرة أخرى إلى أوروبا.
ويبدو من تصريحات توماس براك السفير الأميركي في تركيا، أنه كان هناك طموح بإيجاد مسار بري في هذا الممر من الهند إلى تركيا عبر آسيا الوسطى، لكن الوجود الصيني القوي في باكستان، واضطراب الوضع الأفغاني، وعداء الجمهورية الإسلامية للمشروعات الأميركية يحول دون تنشيط هذا المسار، أو حتى المسار الجزئي من آسيا الوسطى لتركيا والذي يجب أن يمر من بحر قزوين أو من الأراضي الإيرانية أو الأرمينية، وفي مواجهة هذه العوائق يسعى الرئيس الأميركي للحصول على ممر زانجيزور الأرميني والذي يصل جانبي أذربيجان، ويعدّ وسيلة التواصل البرية الأقصر مع تركيا من دون المرور بإيران أو روسيا.
ثمة مسار آخر بري – بحري كان رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب ورئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو يطمعان في تحقيقه. يبدأ المسار البري من الهند حتى وسط آسيا ومنها إلى أذربيجان ثم عبر ممر زانجيزور إلى إقليم نخجيوان ثم كردستان الإيرانية والعراقية والسورية وعبر ممر داوود (الذي يسعى نتنياهو لتأسيسه) في الصحراء السورية إلى الجولان ومنه إلى حيفا ثم إلى أوروبا. ولهذا السبب، حرص الكيان الصهيوني على إسقاط النظام السوري السابق، وكان يسعى عبر حرب الـ12 يوماً على إيران أن يسقط النظام الإيراني كذلك، لكن فشل الكيان الصهيوني في إسقاط إيران، وفشله في إجبار حزب الله على نزع سلاحه، وصراعه في سوريا مع الأتراك أدى إلى استبعاد هذا المسار البري، إضافة إلى رفض الدول الخليجية كالسعودية والإمارات له كونه يؤدي إلى تهميش دورها.
أما المسار البحري، فكان يعتمد على قيام الكيان الصهيوني بشق قناة بن غوريون من خليج العقبة إلى شمال قطاع غزة أو عسقلان القريبة من غزة، وبالتالي كان المسار سيمتد من الهند إلى باب المندب ومنه عبر البحر الأحمر إلى ميناء "إيلات" ثم عبر قناة بن غوريون إلى البحر المتوسط، وهذا المسار تعرقل بسبب القوة العسكرية لأنصار الله في اليمن، وعدم قدرة الأميركيين والصهاينة على تحييدها، وفشل الكيان الصهيوني في إسقاط المقاومة العربية، بالإضافة إلى معارضة مصر المتشددة إذ يهدد هذا المسار قناة السويس والأمن القومي المصري، كما عارضته تركيا التي ستجد منافساً لمشروعها في أن تكون المنتهى للممرات التجارية.
يمكننا إذاً أن نفهم أسباب حضور دول مثل الهند وباكستان وأذربيجان وأرمينيا، وهي دول مهمة في طريق التوابل، وأسباب عدم حضور رئيس حكومة الكيان الصهيوني لهذه القمة، كونها تؤسس لمسار جديد يهمش دور كيانه في هذا الصراع على الممرات التجارية، وهو ما عبّر عنه تصريح المتحدث باسم الحكومة الصهيونية بأن حكومته لم تتم استشارتها بشأن جدول أعمال القمة، واعتراف الصحف الصهيونية بتراجع نفوذ الكيان الصهيوني في هندسة ممرات التجارة الإقليمية. كما يمكننا أن نرد على الأصوات التي تدّعي انتصار الكيان الصهيوني في الصراع بعد أن انتهت الأمور بتهميش دوره حتى حين.
إن طبيعة الحضور في قمة شرم الشيخ تشير إلى وجود مسارات بديلة يتم عن طريقها تهميش الكيان الصهيوني مؤقتاً، كما ستسعى لتهميش كل من الصين وروسيا وإيران، ويبدو أن الأطراف التي تنوي الاستثمار في هذا الممر الهندي لم يعد بإمكانها الانتظار لفترات أطول مع استمرار الصين في محاولة تطوير ونشر مبادرتها "الحزام والطريق"، وشعور الأميركيين أن الوقت لم يعد في صالحهم.
إن هذه القمة تؤكد عودة قناة السويس إلى صدارة المشهد مرة أخرى، نتيجة المقاومة اليمنية التي تهاجم السفن المتجهة إلى ميناء "إيلات" الصهيوني، وبالتالي تعود قناة السويس كطريق آمن لن يقوم أنصار الله بمهاجمته، بل من الممكن لهم الاستفادة من سيطرتهم على باب المندب عبر وجود السفن المتجهة إلى مصر على الموانئ اليمنية في مداخل البحر الأحمر.
إذاً، المسار الجديد يبدأ من موانئ الهند على بحر العرب، إلى خليج عدن ثم باب المندب عبر البحر الأحمر إلى قناة السويس ومنها إلى البحر المتوسط. وهذا المسار المطروح هو ما دفع الأتراك إلى إعادة تحسين علاقاتهم بمصر مرة أخرى، ويمكن لهم عبر مبادرة البحر المتوسط عقد اتفاقيات مع مصر بأن تكون هناك استثمارات في الموانئ المصرية على البحرين الأحمر والمتوسط للاستفادة من هذا المسار. كما سيحتفظ الأتراك بالمسار البري عبر آسيا الوسطى إلى إسطنبول. من الناحية البحرية-البرية، هناك مشاريع للربط السككي بين مصر والسعودية والأردن، والتي قد تؤدي إلى تغيير المسار الأصلي لممر التوابل من الانتهاء عند ميناء حيفا الصهيوني إلى الانتهاء في قناة السويس ومنها إلى أوروبا.
مكاسب الأتراك
يمكن اعتبار الأتراك الفائز الأكبر من انعقاد هذه القمة، خاصة مع المشروعات التي يسعون من خلالها لخدمة هذا الممر، والتي ستعزز نفوذهم في العالم العربي والقوقاز وآسيا الوسطى كمواجه للنفوذ الإيراني والروسي والصيني، إذ يسعى الأتراك لإتمام طريق الرفاهية بين الفاو في العراق وحتى إسطنبول، الأمر الذي سيسمح لهم بترسيخ وضعهم في العراق وكردستان العراقية والخليج، حيث سيكون هذا المسار الخليجي خاضعاً لإشراف الأتراك.
كما يسعون كذلك لإعادة طريق سكك حديد الحجاز ليربط بينهم وبين دمشق ومنها إلى الحجاز، ناهيك بمشروع قناة إسطنبول والذي سيمنحهم القدرة على التملص من اتفاقية مونترو 1936 والتي تقيّد سيطرتهم على مضيقَي البوسفور والدردنيل، ومثل هذه القناة التي ستربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة يمكنها أن تقوّي النفوذ التركي في القوقاز في مواجهة النفوذ الروسي.
الموقف الأوروبي
يسعى الاتحاد الأوروبي إلى المشاركة في ممر التوابل والربط بينه وبين مبادرة البوابة العالمية التي يتبنّاها كمحاولة لتحجيم التمدد الصيني ومحاصرة الاندفاع الروسي تجاه أوروبا، ولهذا فإن حضور دولة مثل النرويج والتي تعتمد عليها أوروبا في تعويض إمدادات الطاقة بعد انقطاع الطاقة الروسية، وبالرغم من عدم وجود فاعلية حقيقية لها في القضية العربية (فلسطين)، سوى انعقاد مؤتمر أوسلو على أراضيها، قد يكون محاولة لطرحها كبديل أمام الهند عن استيراد الطاقة الروسية، لقطع الطريق أمام أي محاولة روسية للتأثير في تطور مشروع هذا الممر.
وربما كان هذا هو السبب الأساسي الذي من أجله تمت دعوة اليونان، والتي تتصل بدول بحر البلطيق عبر طريق Via Carpathia الذي يمتد من ميناء سالونيك اليوناني إلى ميناء كاليبيدا في ليتوانيا على بحر البلطيق، ويمكن أن تسهم عبر هذا الطريق في إيصال سلاسل التوريد إلى دول بحر البلطيق. الأمر نفسه ينطبق على المجر التي تعدّ مركزاً للربط بين وسط وشرق أوروبا عبر الممر الأوروبي الرابع (Pan-European Corridor IV) الذي يمتد من ألمانيا إلى تركيا. وبهذا الأسلوب يتم حصار الروس عبر تطويقهم من الجنوب الآسيوي والجنوب والشمال والشرق الأوروبي.
الموقف المصري
حققت مصر العديد من المكاسب كنتيجة للفشل الصهيوني في حربه على غزة ولبنان واليمن وحتى الفشل في حربه على إيران، ولعل أهمها استبعاد فكرة قناة بن غوريون، حتى ولو كان مؤقتاً، وعودة قناة السويس إلى صدارة المشهد كأحد أهم ممرات الربط بين آسيا وأوروبا، وربما لهذا السبب كان هناك تباعد بين الرؤيتين المصرية والإماراتية بخصوص سلاح المقاومة، إذ يمثل هذا السلاح العامل الضامن لعدم قدرة الكيان الصهيوني على تمرير مشروعاته الهادفة إلى تهميش دور مصر والإضرار بأمنها القومي.
وبالرغم من أن مصر من أولى الدول الأفريقية التي وقّعت على مبادرة "الحزام والطريق" الصينية سنة 2014، لكن القيادة المصرية لا ترغب في الانخراط بصراع ممرات التجارة، وبالتالي فليس لديها مشكلة في الاستفادة من الممر الهندي كذلك، وربما كانت هذه السياسة الحيادية من الأسباب التي دفعت الأميركيين إلى محاولة إعادة الاعتبار إلى قناة السويس خشية اصطفاف مصر مع محور المواجهة للهيمنة الأميركية.
لكن، من بين الأسباب الأخرى، هو القلق من التوجّه المصري النشط نحو العلاقات مع الدول الأفريقية، وخاصة مشروع الربط السككي بين مصر وجنوب أفريقيا عبر طرق وسكك حديدية تربط بين شمال وجنوب أفريقيا، وهذا المشروع رغم عدم تبعيته المباشرة لمبادرة "الحزام والطريق" الصينية، فإن الصين تسيطر على معظم مشروعات الربط السككي في شمال وشرق وجنوب القارة الأفريقية، ومن بينها دول موقعة على مبادرة "الحزام والطريق"، الأمر الذي يشير إلى أن هذا الطريق السككي المهم قد يستخدم ضمن المسارات التي تخدم مبادرة "الحزام والطريق" الصينية ويؤدي إلى مزيد من النفوذ الصيني في القارة الأفريقية .
من ناحية أخرى، إن التعاون المصري -التركي، وحتى المصري -الإيراني، الذي برز مؤخراً ربما يقلل من احتمالات انفراد الكيان الصهيوني بالسيطرة على الأوضاع في سوريا وامتدادها إلى لبنان، وهو ما يزعج القيادة المصرية التي تدرك مخاطر تصاعد الهيمنة الصهيونية في المنطقة العربية على أمنها القومي، خاصة مع نية التوسع الصريحة التي يبديها رئيس حكومة العدو الصهيوني على حساب الدول العربية (ومن بينها مصر) وتأسيس ما سمّاه "إسرائيل الكبرى" .
ما علاقة الحرب الأفغانية-الباكستانية بهذا الممر؟
النتيجة السابقة تنقلنا إلى بدايات هذا الممر البحري والبري، إذ سيحتاج هذا الممر إلى التواصل مع آسيا الوسطى لنقل الطاقة والمعادن الحيوية من آسيا الوسطى إلى أوروبا والولايات المتحدة، خاصة أن الصين كانت سباقة في هذا المجال وسعت للاستثمار في ميناء جودار الباكستاني في محاولة للوصول إلى بحر العرب بعيداً عن مراقبة الأميركيين في خليج ملقا عبر مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC).
في الفترة الأخيرة، برزت محاولات أميركية للاستثمار في ميناء باسني الباكستاني كذلك، وكانت هناك خلافات كبيرة نتيجة المخاوف الصينية والإيرانية لقيام الأميركيين باستخدام هذا الميناء كمجال في مواجهة الدولتين، فهو يقع في منطقة تسيطر عليها عرقية البلوش التي تعاني الدولتان من مشاكل معها، كما أن الهجمات التي تقوم بها المجموعات البلوشية الانفصالية في باكستان ضد المصالح الصينية دفع البعض إلى الربط بين رغبة الولايات المتحدة في إزاحة النفوذ الصيني من باكستان عبر دعم المجموعات الانفصالية البلوشية ومحاولة التأسيس لهذا الميناء الجديد.
الواقع أن هناك صراعاً واضحاً بين تيارين في باكستان، التيار الأول: يتمثل في المؤسسة العسكرية والاستخبارات الباكستانية (ISI) وهما أكثر ميلاً للتعاون مع الصين، وينظر إلى الهند نظرة أمنية ترى أنها عدو يهدد وجود باكستان. التيار الثاني: يتمثل في المؤسسات والأحزاب المدنية برئاسة شهباز شريف وآصف زرداري وكلاهما يرغب في تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب والمرونة في التعامل مع الهند.
من هذا المنطلق، يمكن أن نفسر أسباب مسارعة الأميركيين إلى إيقاف الحرب بين الهند وباكستان والتي شهدت تفوقاً كبيراً للباكستانيين الذين استخدموا سلاحاً صينياً، ولو حقق الجيش الباكستاني انتصاراً صريحاً في هذه الحرب لما كان هناك مجال لإزاحة النفوذ الصيني والمؤسسة العسكرية، وبالتالي يسعى الأميركيون والهنود إلى محاولة تقوية وضع المؤسسات المدنية بحيث يتم فتح مسار بري من آسيا الوسطى إلى بحر العرب.
لقد كان تدهور العلاقات بين إسلام أباد وكابول ثم زيارة وزير الخارجية الأفغاني المولوي أمير خان متقي إلى الهند والتي تلتها رفع الهند تمثيلها الدبلوماسي في كابول والتقارب القوي مع طالبان عبر الإمارات العربية المتحدة التي شهدت اللقاء الأول بين الطرفين، كلها مقدمات لانفجار الوضع على الحدود الباكستانية-الأفغانية، وهو ما مثل إنذاراً للمؤسسة العسكرية، وفي المقابل، وفي التوقيت نفسه، يأتي رئيس وزراء باكستان مع رئيس وزراء الهند معاً في هذه القمة. بما يؤكد أن الرئيس الأميركي يسعى لتقارب بين الهند وباكستان وأفغانستان بحيث يتم فتح مسار من آسيا الوسطى إلى ميناء باسني الباكستاني وموانئ الهند ومنها إلى بحر العرب، وهو ما يستلزم إقصاء النفوذ الصيني من باكستان وتقوية المؤسسات المدنية على حساب المؤسسة العسكرية.
هذا التصور الجديد لصراع الممرات الذي يتبناه ترامب، هل يمكن أن يستمر بالفعل؟!
من المؤكد أن رئيس حكومة الكيان الصهيوني لن يقبل بهذا التهميش بأي حال، بعد كل هذه الخسائر التي تعرض لها كيانه في حرب امتدت لعامين مع سقوط صورة المظلومية المزيفة التي طالما سعى قادة الكيان لنشرها على مستوى العالم، إلا أن موقفه الحالي في الداخل الصهيوني والخارج الدولي أصبح سيئاً للغاية، الأمر الذي لن يسمح له بمحاولة الصدام مع حماس في غزة مرة أخرى. وفي المقابل، لا يمكنه السماح بإيقاف الحرب حتى لا تنفجر تناقضات الداخل الصهيوني في مواجهته، وبالتالي لا يوجد أمامه سوى مواصلة الحرب بطريقة أو بأخرى.
من ناحية أخرى، لن يكون من السهل تقليص الدور والنفوذ الصيني والروسي في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وتجاوز كل من الصين وإيران وروسيا معاً عبر الطريق الهندي سواء البري أو البحري، الأمر الذي قد يؤدي إلى سعي هذه الدول لاستخدام نفوذها في عرقلته. وقد يؤدي هذا التناقض بين مصالح الممرين إلى صراع في باكستان بين التيارين المتنازعين، كما قد يؤدي إلى إحياء النزاع الهندي-الصيني مرة أخرى، أو إلى توترات في العلاقات بين الهند وروسيا والهند وإيران، بالرغم من أن الهند استثمرت في تطوير ميناء تشابهار الإيراني ضمن مسار طريق الشمال-الجنوب والذي يربط الهند بسان بيترسبورغ الروسية عبر إيران وأذربيجان، ومن الممكن أن تقوم الهند، في محاولة للتخفيف من معارضة روسيا وإيران، باعتبار هذا المسار من ضمن ممرها المقترح.
لكن المشكلة بالنسبة إلى إيران والمؤسسة العسكرية في باكستان لا تقتصر على تهميش الدور الاقتصادي، وإنما هناك مشكلة أمنية كذلك، فميناء باسني يقع في منطقة بلوشستان، حيث توجد مجموعات انفصالية بلوشية قومية ودينية تسعى لتحقيق الانفصال عن الدولة المركزية في باكستان وإيران، كما يتحالف بعضها مع جماعة طالبان باكستان (TTP)، والأخيرة بدورها لديها ميول انفصالية وعرقية، وبالتالي يخشى الإيرانيون والعسكريون الباكستانيون من أن يستغل الأميركيون وجودهم في هذا الميناء للقيام بعمليات تهدد الأمن القومي لكل من الإيرانيين والصينيين وحتى الباكستانيين.
إذاً، فقد تمكنت المقاومة العربية في فلسطين ولبنان واليمن، من إجبار العالم على إعادة صياغة مصالحه مرة أخرى بناء على صمودها، واضطراره إلى تهميش وضع الكيان الصهيوني ولو مؤقتاً، عبر تغيير مسارات ممر التوابل الهندي، وبغض النظر عن مدى نجاح هذا المشروع والذي لا يعني بأي حال استبعاد الصين من الصدارة الاقتصادية، فإن الكيان الصهيوني خرج من حرب غزة التي استمرت لعامين هزيلاً للغاية بالرغم من امتلاكه قوة عسكرية هائلة، ولم يعد أمامه سوى انتظار حدوث أي متغيرات كاحتمال تسليم حزب الله سلاحه، رغم صعوبة هذا المتغير، أو اللجوء إلى افتعال حرب يائسة قد تمكنه من تغيير هذا الواقع أو على الأقل إعادة تحريكه.