ما بعد قصف الدوحة جزاء سنمار للأتراك والخليج
محاولة كلّ من ترامب ونتنياهو فرض مصالحهما كأمر واقع عبر الاستخدام غير المحسوب للقوة العسكرية، يؤدّي إلى حالة من التكتّل بين الدول المتقاربة قومياً وعقائدياً في محاولة لمواجهة الأخطار.
-
لا يبدو أنّ سياسات الثنائي ترامب ونتنياهو سوف تتمكّن من فرض شكل جديد في العالم.
لا يبدو أنّ سياسات الثنائي ترامب ونتنياهو سوف تتمكّن من فرض شكل جديد في العالم يخدم مصالحهما، وخاصة في الشرق العربي، بل إنّ هذه السياسات المتعجرفة والتي تتبجّح بالبلطجة الصريحة، بحيث لا يمكن وصفها بالسياسات، ساهمت في عدد من الخسائر بالنسبة للأميركيّين لعلّ أسوأها هو ما صرّح به ترامب ذاته بأنّ أميركا خسرت الهند لمصلحة الصين. ومع أنّ هذه الخسارة التي اعترف بها ترامب كان مبالغ فيها إلى حدّ ما، حيث إنّ الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند لا يمكن التخلّي عنها من قبل البلدين، إلّا أنّ المنحى الاستقلالي للهند في مواجهة الاستعلاء الأميركي يشير إلى امتلاك الهنود لمشروعهم الخاص وحرصهم على عدم السقوط في فخّ التبعية للمصالح الأميركية.
وأخيراً لجأ الكيان الصهيوني لخطيئة جديدة وهي قصف العاصمة القطرية الدوحة بحجة استهداف اجتماع لقيادات حماس، مما أثار فزع وانزعاج العديد من الدول الحليفة، خاصة أنّ قطر تعدّ من حلفاء الولايات المتحدة، وتوجد على أراضيها أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، كما أنّ علاقاتها بالكيان الصهيوني جيدة للغاية، ودائماً كانت تؤدّي دور الوسيط في كلّ الأزمات بين الكيان والمقاومة العربية سواء في لبنان أو فلسطين.
بالنسبة للشرق العربي والعالم الإسلامي، والذي ترتبط العديد من دوله بعلاقات جيدة ووثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، من المؤكّد أنّ هذه الممارسات سوف تؤدّي إلى متغيّرات في شكل العلاقات والتحالفات لن تكون في مصلحة الأميركيين والصهاينة، ومثل هذه التغيّرات سوف تشمل دولاً مهمة في العالم الإسلامي، وخاصة: تركيا، إيران، مصر وباكستان.
بالنسبة للأتراك، فالضربة التي وجّهت للعاصمة القطرية اعتبرت رسالة لهم، فالعلاقات بين تركيا وقطر قوية للغاية، وكانت قطر شريكة للأتراك في مشروعهم لإسقاط النظام في سوريا، كما أنها تضمّ قاعدة عسكرية تركية على أراضيها، وموقع القصف قريب للغاية من سفارات دول عديدة من بينها تركيا. إضافة إلى العلاقة الخاصة بين تركيا وحماس، والتي أشار إليها نتنياهو في تهديداته الصريحة بأنه سيقصف المقاومين حتى لو كانوا في تركيا، وهو تهديد أخذته تركيا على محمل الجدّ.
التهديد الأساسي الذي يخشاه القادة في تركيا، وحذّر منه المحللون الأتراك، هو الضغط الذي يقوم به الكيان الصهيوني على بلادهم، لتقديم تنازلات في سوريا بخصوص عدد من الملفات، كالكيان الكردي في الشمال الشرقي لسوريا، والسعي الصهيوني لتأسيس ممرّ داوود الذي سيصل بين السويداء والمناطق الكردية، بما يعني أنّ الكيان الصهيوني سوف يصبح على حدود تركيا وسيتمكّن من العبث بالأمن القومي التركي.
مؤخراً بدأ الأتراك في إدراك أنّ المطلوب منهم هو العمل، ثم يأتي الأميركيون والصهاينة لحصد الثمار، وهو ما حدث في مشروع ممرّ زانجيزور الذي سعى الأتراك طويلاً لتأسيسه، قبل أن يأتي ترامب ليحصل عليه لمدة 100 عام. وهو السيناريو نفسه الذي يتكرّر في سوريا وحتى لبنان الذي تمتلك تركيا مشروعاً مستقبلياً للسيطرة عليه وإزاحة النفوذين الإيراني والسعودي بهدف تأمين وضعها في سوريا، يسعى الأميركيون لاستغلال هذا الصراع واستثماره، حيث أعلن ترامب عن مشروع يمتدّ من الجولان السوري وجنوب لبنان يهدف لتأسيس منطقة صناعية تعدّ منطقة حدودية فاصلة بين لبنان وسوريا وبين الكيان الصهيوني، وهو مشروع قديم يعود إلى العام 1969 حيث طرحه الأميركيون على الرئيس اللبناني شارل حلو.
لكن في توقيت طرح هذا المشروع نفسه الآن، قام اليمين الصهيوني بالدعوة لتأسيس مستوطنات صهيونية في جنوب لبنان، كما برزت تصريحات بعض الوزراء الصهاينة التي تقول بكلّ صراحة إنّ الحدود الشمالية للكيان الصهيوني تنتهي عند نهر الليطاني. خاصة أنّ التأسيس لهذا المشروع سوف يقترن بعملية ترحيل وإخلاء للجنوب من سكانه ذوي الغالبية الشيعية، وحتى السنة والمسيحيين.
إنّ هذه الممارسات منحت الأتراك مساحة واضحة للفهم بأنّ الغرض الحقيقي للمشروع هو مدّ الحدود الصهيونية تدريجياً حتى نهر الليطاني. ومحاولة السيطرة على مناطق الطاقة في الجولان السوري والمنطقة البحرية المقابلة للجنوب اللبناني والتي تشير الدراسات لكونها واعدة كمصدر لاستخراج الطاقة، بالرغم من أنه تمّ الادّعاء سابقاً، قبل طوفان الأقصى، بأنّ المنطقة لا توجد بها احتياطات للطاقة. وبالتأكيد في حالة تنفيذ هذا المشروع فإنه سيسعى للقضاء على النفوذ التركي وحتى الإيراني والعربي والأوروبي، بعد أن صرّح نتنياهو بأنّ هدفه هو السيطرة على مصادر الطاقة والمياه في الشرق، وهو هدف المشروع العثماني التركي نفسه.
إذاً الرسالة الصهيونية لكلّ من تركيا والدول الخليجية هي سوريا ولبنان، وضرورة التخلّي عن أيّ مشاريع فيهما من قبلهم لمصلحة مشروع صهيوني يسعى بكلّ قوة لتأسيس ممرّ داوود، الذي سيمتدّ من الفرات إلى حيفا وموانئ المشروع الترامبي الاقتصادي في جنوب لبنان، وسيترافق مع عمليات ضرب قوى المقاومة وتفتيت لدول المنطقة بالنسبة لسوريا والعراق وإيران وحتى تركيا. بهدف ربط الممرّ الأوسط المقبل من وسط آسيا بالكيان الصهيوني كوسيط لنقل الطاقة والمعادن الحيوية، ووصول الكيان إلى الفرات، مما يقتضي دعم إقامة كيان كردي في شمال شرق سوريا، يلتقي مع الحكم الذاتي الكردي في شمال العراق، لتأمين مرور هذا الطريق من دون سيطرة من قبل أيّ دولة عربية أو إسلامية قوية.
إذاً تشعر تركيا بالتهديد لأمنها القومي، وبأنها ستلقى جزاء سنمار سواء هي ودول الخليج، بعد أن منح ترامب الضوء الأخضر لنتنياهو كي يتجاوز كلّ المحظورات إلى درجة قصف قطر الحليفة الوثيقة للولايات المتحدة، وأسطول الحرية في موانئ صقلية الإيطالية، بما يعني أنّ تركيا ذاتها ليست بعيدة عن هذا الجزاء، وأنّ مشروعها العثماني الذي يستند على وجودها في سوريا وآذربيجان ويمتد إلى لبنان وليبيا والسودان، معرّض للضياع.
إنّ هذا المصير هو ما دفع تركيا إلى محاولة دفع علاقاتها مع مصر إلى مرحلة إيجابية، توّجت بعودة المناورات البحرية والجوية المشتركة في شرق المتوسط والتي توقّفت منذ 13 عاماً نتيجة الخلافات السياسية بين الدولتين. ويبدو أنّ ثمّة تنسيقاً عسكرياً سيتمّ بين مصر وتركيا خصوصاً في شرق المتوسط وليبيا والسودان. إضافة إلى علاقاتها الوثيقة مع باكستان.
بالنسبة لإيران، فمن المؤكّد أنها أصبحت تدرك تماماً أنّ الأمر لا يتوقّف على القضاء على القوة العسكرية لمحور المقاومة، لكنّه يتجاوز لمرحلة تفتيت وحدتها القومية، وليس فقط من ناحية مناطق الكرد، ولكن بالنسبة لمناطق الآذريين كذلك.
وهو ما دفع إيران للوعي بضرورة تثبيت وضع علاقاتها مع العراق، وتحسين العلاقات مع السعودية إلى حدّ كبير، وكذلك مع مصر التي ربما يكون لها دور مستقبَلاً فيما يتعلّق بالوضع السوري، وهو ما استفزّ الصحافة الصهيونية التي وصفت تطوّر العلاقات الإيجابية بين إيران ومصر بكونه خطراً على الأمن القومي الصهيوني.
والأمر الأهمّ هو حالة التنسيق في المواقف التي بدأت بين إيران وباكستان، بالرغم من برود العلاقات نتيجة مشكلات البلوش على الحدود والتي أدّت إلى ضربات جوية متبادلة داخل أراضي الدولتين، لكنّ القادة في كلّ من إيران وباكستان أدركوا أنّ الاعتداء الأميركوصهيوني على إيران ليس سوى مقدّمة لاعتداء جديد سوف يشمل باكستان، وبالتالي فقد أبدى الباكستانيون دعمهم لإيران أثناء حرب الاثني عشر يوماً.
من ناحية المواقف من المشروع التركي العثماني، خاصة في سوريا، فمن المؤكّد أنّ الإيرانيين ينتظرون اللحظة المناسبة لمحاولة العودة إلى سوريا، والتي تسير فيها الأوضاع من سيّئ إلى أسوأ، ضمن الصراع بين الأتراك والصهاينة للسيطرة على الأوضاع في سوريا، وهو ما سيجبر الأتراك على التراجع حتماً بسبب الاندفاع الأميركي تجاه دعم المشروع الصهيوني للسيطرة على سوريا ولبنان. وبالتالي يتشبّث الإيرانيون بدعم المقاومة في لبنان وإعادة بناء قوتها استعداداً للمواجهات الجديدة مع الكيان، لكنّ الهدف هذه المرّة لن يكون مجرّد الدفاع عن قوة محور المقاومة وإنما الدفاع عن كيان الدولة الإيرانية والدول المجاورة الذي أصبح مهدّداً بصورة علنية.
على الجانب المصري، هناك عدد من المتغيّرات الملحوظة في الفترة الأخيرة، لعلّ أهمها تحسّن العلاقات المصرية الإيرانية، والمصرية التركية، وكلا الموقفين يمثّل ردّاً مصرياً على الاستفزازات الصهيونية منذ معركة طوفان الأقصى، وتصريحات نتنياهو المتجاوزة لطبيعة العلاقات منذ معاهدة كامب ديفيد.
الأمر الذي دفع القيادة المصرية إلى السعي لدعم موقف الجيش المصري في سيناء والتعاون العسكري مع الصين، ثم استخدام الرئيس المصري لمصطلح "العدو" في وصف الكيان الصهيوني. وهو ما تلقّاه الصهاينة بمنتهى الجدية، حيث حذرت الصحافة الصهيونية من التطوّر الذي يشهده الجيش المصري، ووجوده المكثّف جداً في سيناء، وتسليحه المتنوّع في الفترة الأخيرة، والذي توّج بمفاوضات عسكرية مصرية لشراء طائرات إنذار مبكر سويدية (ساب جلوبال آيSaab Global Eye)، بالرغم من أنّ الجيش المصري يمتلك طائرات إنذار مبكر أميركية، وهو ما فهم كمحاولة مصرية لاستبدال السلاح الأميركي بأسلحة أخرى من مصادر متنوّعة، بما يهدّد الأمن الصهيوني، كما أشارت هذه الصحف.
إنّ هذه المواقف المصرية الأخيرة، وضعت كتراكم مع مواقف أخرى من بينها رفض القيادة المصرية لمشروع توطين سكان غزة في مصر، بما يعني القضاء على القضية الفلسطينية، معتبرة أنّ هذا خط أحمر، وهو ما أزعج الرئيس الأميركي ونتنياهو معاً، إضافة إلى التعاون العسكري والاقتصادي بين مصر والصين الذي تزايد في الفترة الأخيرة، لكنّ الأكثر استفزازاً للأميركيين والصهاينة كان تحسّن العلاقات المصرية الإيرانية، والتوسّط المصري بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي توّج باتفاق بين الطرفين لم يستقبله الأميركيون بالترحاب، حيث إنّ الدور المصري في المنطقة هذه المرّة كان بمبادرة مستقلة من مصر وليس بطلب من الأميركيين أو لمصلحتهم.
لكنّ الجديد في التحرّكات المصرية عقب القصف الجوي للعاصمة القطرية، كان تطوّر العلاقات بين مصر وباكستان، والذي تمّ على هامش القمة العربية الإسلامية التي عقدت في قطر، والتي تضمّنت مباحثات حول التعاون في التصنيع العسكري، وهو ما دفع العديد من الصحف للتحدّث عن احتمال عقد معاهدة دفاع مشترك وتعاون استراتيجي عسكري مع باكستان، يماثل الاتفاق الذي تمّ بين السعودية وباكستان، بل إنّ بعض التحليلات تحدّثت عن تحالف وتعاون عسكري يضمّ: مصر، إيران، تركيا والسعودية تحت المظلة النووية الباكستانية، وهي الدولة الإسلامية النووية الوحيدة، والتي لا تعترف بالكيان الصهيوني.
وكان ردّ الفعل الصهيوني موجوداً حيث يدّعي الكيان وجود مقابر جماعية لجنوده في سيناء من صنع الجيش المصري، طالباً التحقيق لاستعادة رفات هؤلاء الجنود.
وهو نوع من التمهيد الإعلامي لمواجهة مع الجيش المصري مستقبلاً، وقد استقبلت القاهرة مثل هذه التصريحات بردود يبدو منها الوعي باحتمال اقتراب هذا الصدام.
من ناحية الدول الخليجية، فإنّ دورها في إسقاط النظام السوري المزعج للأميركيين والكيان الصهيوني، وحتى الأموال التي دفعها الحكّام العرب للرئيس الأميركي، لم يقابل بالتقدير المناسب كما يتوقّعون، ويبدو أنهم سيدفعون ثمن إسقاط الاستقرار السوري الذي كان يعدّ حاجزاً بينهم وبين الكيان الصهيوني، فالمملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، تشعر بقلق واضح من المشاريع الصهيونية بعد سقوط نظام البعث في سوريا، وبالرغم من العلاقات الوثيقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، لكنّ احتمال نجاح المشروع الصهيوني في تأسيس ممرّ داوود، وقصف الكيان الصهيوني للعاصمة القطرية، وتصريحات المبعوث الأميركي في لبنان توم برّاك حول عدم التزام نتنياهو بأيّ خطوط حمر في قصفه لأيّ هدف يهدّد أمنه القومي، دفع السعوديّين إلى إعادة الحسابات حول النهاية المتوقّعة للمشروع الصهيوني الذي قد يصبح على حدودهم مباشرة في حال نجح هذا المشروع في سوريا، والمخاوف من أيّ تغيّرات قد تشهدها الأردن (تعتبر حاجزاً مهماً بين السعودية والكيان الصهيوني)، خاصة مع الأنباء التي تشير إلى احتمال حدوث اضطرابات أو استهداف للأردن من قبل الصهاينة. الأمر الذي دفعهم في المقابل لاستئناف محادثاتهم مع إيران، وتوقيع الاتفاق الدفاعي والتعاون الاستراتيجي مع باكستان، الأمر الذي أزعج بعض المحللين الأميركيين كونه يعني فقدان الثقة في الحماية الأميركية، وتمرير السلاح الصيني إلى السعودية.
إنّ سبب مخاوف المملكة العربية السعودية يتمثّل في دعمها لحلّ الدولتين، وهو مشروع لم يعد مقبولاً لدى كلّ من الصهاينة والأميركيّين على حد سواء، إضافة إلى شعور السعوديين بأنّ نفوذهم في سوريا ولبنان تقلّص إلى حدّ كبير في الفترة الأخيرة لمصلحة النفوذ الصهيوني المباشر والذي يتوسّع تدريجياً عبر الدعم الأميركي، ويخشى السعوديون من الأطماع الصهيونية في الشمال السعودي والذي يسعى لاستخدام دعوات عن وجود يهودي سابق في مناطق كدومة الجندل (أدوماتو قديماً) وتيماء وخيبر وحتى وادي القرى (العلا) وفدك شمال المدينة المنورة (أتريبا قديماً، ويثرب قبل الإسلام).
وبالرغم من أنّ اليهود في هذه المناطق كانوا من العرب الخلّص، من قبائل حمير وعذرة وعبس، لكنّ التصوّرات الصهيونية التي تسعى إلى استخدام التاريخ بشكل مزيّف في الترويج لمشاريعها التوسّعية، لن تتوقّف عند هذا التفصيل، بقدر ما ستسعى إلى استغلال هذه الدعوات لمحاولة الحصول على امتداد واسع في البحر الأحمر، الممرّ الملاحي الأهمّ تاريخياً، كمقدّمة للسيطرة عليه وعلى ما به من ثروات.
وربما كانت هذه الخلفيّات محفّزة للسعوديين لقبول الدعوة التي أطلقها الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم للحوار بين المقاومة في لبنان وبين المملكة السعودية، والتي من المؤكّد أنه لم يتمّ إطلاقها عبثاً من دون أن تكون هناك رسائل متبادلة سابقة.
هناك وعي لدى القادة السعوديين باحتياجهم إلى داعم في مواجهة مقبلة مع منافسين يسعون لإزاحتهم من المشهد، فثمّة منافسة إماراتية في النفوذ على قيادة دول الخليج، وبالتالي فعقب توقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع باكستان، قامت الإمارات بإعادة تفعيل مضادة لاتفاقية سابقة مع الهند والتي تضمّ كذلك كلّاً من الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، بما يعني أنّ الواقع الخليجي منقسم للغاية في هذا الشأن، حيث تشعر الإمارات بقدر من الاطمئنان تجاه علاقاتها مع الكيان الصهيوني.
بينما تُعتبر المملكة السعودية (التي ترهن علاقاتها العلنية مع الكيان الصهيوني بحلّ الدولتين) هي المهدَّدة بشكل مباشر من قبل الكيان الصهيوني من ناحية التجاور الحدودي في حال تمّ تنفيذ ممرّ داوود، وربما يخشى السعوديون أنّ يكون هناك مسعى أميركي وصهيوني لتهميش دورهم في المنطقة والعالم الإسلامي لمصلحة الإمارات مستقبلاً في الخليج وأفريقيا، ولمصلحة الكيان الصهيوني في سوريا ولبنان. وربما يدعم هذا التصوّر أنّ الإمارات إضافة إلى قطر كانتا فقط المعترضتين (من العرب) على مقترح الرئيس المصري بإنشاء آلية عسكرية للدول العربية والإسلامية لمواجهة العدو الصهيونيّ.
أما باقي الدول الخليجية، فإنّ تقديرها للخطر الصهيونيّ متفاوت، فمن الواضح أنّ القطريين ما زالوا يعوّلون على الحماية الأميركية، أما الكويت وسلطنة عمان، وكلاهما لا تربطهما بالكيان الصهيوني علاقات (علنية على الأقل) فمن المؤكّد أنهما ينظران بعين القلق لهذه الأحداث. العمانيون يراهنون على علاقاتهم الجيدة بإيران واليمن، لكنّ المراهنات الكويتية سوف تكون مضطربة، فمع احتمال نجاح الصهاينة في التأسيس لممرّ داوود سوف يكونون على مقربة جغرافية أكثر من الكويت، فلن يفصل بينهما سوى مناطق صحراوية في العراق، الذي سيكون استقراره ووحدته مهدّدين بالتبعيّة في حالة توجّه الأوضاع السورية نحو التقسيم.
إنّ الكويت تعدّ الدولة التالية بعد السعودية التي يجب عليها الشعور بالقلق من هذه التطوّرات الجديدة، فالكويت تعدّ الأكثر تطوّراً من الناحية السياسية بين دول الخليج، ومواقفها من التطبيع مع الكيان الصهيوني أكثر تشدّداً نتيجة الحركة القومية واليسارية النشطة فيها، مما قد يعرّضها لقدر أكبر من الضغوط والاعتداءات الصهيونية.
هل هناك نقاط ضعف في هذا التحالف المتوقّع؟
إنّ نقطة الضعف الأساسية في هذا التحالف ترتبط بالموقف التركي، الذي قد يتغيّر تماماً في حال قدّم ترامب للأتراك أيّ مكاسب مؤقتة تمنحهم تصوّراً بأنّ الأميركيين يتساهلون مع مشروعهم العثماني، واستقرار وضع الحكم في تركيا لمصلحة إردوغان، وهو ما قد يفهم من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مقابلته مع إردوغان حول الديمقراطية في تركيا.
لكن من الضروري التأكيد أنّ المشروع الأميركوصهيوني لن يسمح كنتيجة نهائية لهذا المشروع التركي بالاستمرار، حتى لو قدّم له تنازلات تكتيكية، فستظلّ فكرة عودة السيطرة التركية مرفوضةً كنتيجة نهائية، فالمطلوب الآن هو ضرب إيران ككيان موحّد، ومحاولة فصل مناطق الآذريين والكرد عن إيران، ويبدو أنّ الأتراك يتعاطفون مع هذه المحاولة (فصل مناطق الآذريين المتحدّثين بالتركية) وإن كانوا لن يشاركوا فيها فعلياً، لكن سيسعون لاستثمارها من منطلق قومي تركي، لكن هذا الانفصال والتفتيت لوحدة إيران سوف يؤدّي في النهاية إلى ضربة لاحقة للأتراك الذين يعانون من مشكلات داخلية عرقية وطائفية سوف تبرز بوضوح على السطح في حال شاركوا بهذا المخطّط.
الموقف السعودي بدوره غير موثوق به، وسيظلّ مرتبطاً بالقرار الأميركي في النهاية، بالرغم من أنّ لقاء الرئيس الأميركي ترامب مع القادة المسلمين في الولايات المتحدة، يشير إلى مساعٍ لاستبعاد السعودية من المشهد بالفعل، ومنح الأتراك زعامة (صورية) للمنطقة، وبالتالي فإنّ محاولة السعودية تحصين نفسها لن تستمرّ كثيراً في حال تعرّضت لضغوط أميركية كبيرة، لكن هذه الضغوط لن تبدأ إلا في حال نجح الأميركيون والصهاينة في القضاء على إيران في حرب مقبلة.
إضافة إلى أنّ الاتفاقية التي قامت السعودية بتوقيعها مع باكستان، ربما لا يمكن تنفيذها على أرض الواقع، إلّا لو تمّ وضعها في إطار تحالف أكبر يشمل إيران وتركيا ومصر، فالوضع الباكستاني الداخلي والخارجي لن يمكّن الأخيرة من تقديم دعم واقعي للسعودية. الأمر الذي دفع الصحف الصهيونية للاستهانة بهذه الاتفاقية معتبرة إياها مجرّد استعراض قوة لا أكثر، خاصة أنّ الولايات المتحدة قادرة على تحجيمها نتيجة علاقاتها بالسعودية في حال تمّ اتخاذ خطوات جدّية لتمرير سلاح صيني للسعوديين.
وبالتالي فإنّ التحالفات الجديدة ما زالت تحتاج إلى وقت حتى تختمر وتتكشّف طبيعتها واحتمالية صمودها بالفعل، لكنّ المؤكّد منه حالياً، هو التحالف بين إيران وباكستان في مواجهة الكيان الصهيوني، والتحالف بين باكستان وتركيا، وهو تحالف قديم انضمّت إليه أذربيجان مؤخّراً، والتحالف بين باكستان والسعودية، وبمستوى أدنى قليلاً من التحالف توجد العلاقات المتطوّرة بين مصر وإيران، ثم العلاقات المتحسّنة مؤخّراً بين إيران والسعودية، وأخيراً العلاقات المتطوّرة جداً بين مصر وتركيا. وسوف تؤدّي التطورات اللاحقة والحماقات الأكثر اندفاعاً لنتنياهو إلى إبراز مدى قدرة هذه التحالفات والعلاقات المتطوّرة على التقارب إلى درجة التحالف الأكبر أو تشكيل آلية عربية إسلامية لردع العدو كما طالب الرئيس المصري.
إنّ محاولة كلّ من ترامب ونتنياهو فرض مصالحهما كأمر واقع عبر الاستخدام غير المحسوب للقوة العسكرية، التي وصلت إلى مرحلة قصف أسطول مدني في موانئ دولة أوروبية كإيطاليا، يؤدّي إلى حالة من التكتّل بين الدول المتقاربة قومياً وعقائدياً في محاولة لمواجهة الأخطار التي قد تشملها جميعاً، سواء كأنظمة حاكمة أو كوحدات سياسية معرّضة للتفكّك وإعادة التشكّل مرة أخرى ككيانات أصغر.
هذا التقارب سوف يتعاظم تدريجياً في مواجهة العبث الأميركوصهيوني في المنطقة والعالم، وبالتالي فبالرغم من أنّ المواقف التركية والسعودية قد تتبدّل مع الضغوط والمحفّزات الأميركية، فإنها في النهاية سوف تكون مجبرة على اتخاذ مواقف معادية للكيان الصهيوني والولايات المتحدة عندما تشعر بأنّ التهديدات صارت قريبة، وهو ما سيحدث حتماً كما صرّح به نتنياهو.