"إسرائيل" وتاريخ أزمة (2-3).. التوسعية لم تعد تعمل

عندما وضع سموتريتش خريطة الأردن باعتبارها جزءاً من الكيان، كان يستند إلى منهجية صهيونية كرّسها هيرتزل عندما قال إن حدود "الدولة الصهيونية" غير محددة، وهي تتسع بمقدار زيادة السكان اليهود فيها، وكلما زاد عدد المهاجرين، اتسعت رقعة الأرض.

0:00
  • التوسع..
    التوسع.. "عقيدة" ووسيلة.

"يجب احتلال لبنان". هذا ما اقترحه العميد يوفال بيزك في ورشة عمل مؤخراً لـ106 ضباط إسرائيليين من رتبة مقدم وما فوق؛ فالتوسع، في رأي بيزك، بات ضرورياً لإنتاج واقع يمكّن "إسرائيل" من إعادة مستوطني الشمال. 

تجد "إسرائيل" نفسها بحاجة إلى منطقة عازلة نفسية قبل أن تكون جغرافية، فمستوطنو الشمال لا يجدون العودة ممكنة بعد نهاية الحرب بالشروط السابقة نفسها، حتى تلك التي كانت قائمة قبل السابع من أكتوبر.

وبذلك، تجد "إسرائيل" نفسها محاصرة بمجموعة من عوامل الضغط المتناقضة، فهي تريد التوسع لإعادة المستوطنين من جهة أولى، ولكن تكلفته باهظة وآفاق نجاحه أشبه بالمعدومة من جهة ثانية.

تعاني "إسرائيل" تاريخياً من أزمة العمق الاستراتيجي، فأي مناورة عسكرية إسرائيلية على أراضي فلسطين المحتلة تتحرك في امتداد 14 كم بالحد الأدنى و137 كم بالحد الأقصى.

لذلك، يدفع المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي دائماً باتجاه خوض المعارك على أرض الخصم ودفعها خارج أراضي فلسطين المحتلة. يزداد عبء غياب العمق الاستراتيجي على "إسرائيل" على الجبهة الشمالية، فالحركة التقليدية لقوات الاحتلال تصبح مكبّلة أمام عمل حروب الغوار غير المتوقعة، كما أن المسيّرات تضاعف من مفاعيل أزمة العمق الاستراتيجي. 

أي مواجهة برية مباشرة مع عناصر المقاومة في لبنان يمكن أن تتحول إلى معركة على أرض الجليل، وليس في جغرافيا الجنوب اللبناني فقط، الأمر الذي يتناقض مع مبدأ أساسي في الاستراتيجية الإسرائيلية (الحرب دائماً على أرض الخصم) التي شدّد عليها غادي آيزنكوت سابقاً في التوجيهات الإسرائيلية للأمن القومي الإسرائيلي، والتي نشرها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.

ثمن التوسع باتجاه الضفة

تخوض "إسرائيل" حرباً على مدن الضفة وقراها وبلداتها وترتكب فيها الجرائم، وقطع الطريق على مستشفى ابن سينا بالسواتر الترابية ما هو إلا صدى للحرب على المستشفيات في غزة، وحصار هيئات ومؤسسات مثل الهلال الأحمر و"أصدقاء المريض" هو نسخة أخرى من الهجوم على المنظمات المختلفة في غزة. تتعالى أصوات في المجالس الاستيطانية لتنفيذ جرائم في مخيم نور شمس تشبه تلك التي حدثت في مخيم النصيرات. 

منطق عمل قوات الاحتلال في الضفة هو منطق ضمّ وإعادة احتلال وكسر نهائي لـ"قواعد أ ب ج" التي أنتجتها أوسلو، وليس أدلّ على ذلك من إعلان غالانت في أيار الماضي إلغاء خطة فك الارتباط التي قضت عام 2005م بالانسحاب من عدد من المستوطنات قرب جنين ونابلس. 

 تمتلك الضفة مجموعة من الأوراق الرابحة التي تعوق هذا التوسع الإسرائيلي ميدانياً وتعطّل أهدافه السياسية:

1. التداخل الجغرافي بين نطاق الضفة الغربية وعدد كبير من المستوطنات؛ فأكثر من 700 ألف مستوطن يتوزعون على أكثر من 480 موقعاً عسكرياً واستيطانياً يصبحون هدفاً لنشاط المقاومة في الضفة. وقد تحدّث الإعلام الإسرائيلي عن القلق من عمليات اقتحام للمستوطنات بسبب هذا التداخل. 

2. إعادة ضمّ الضفة الغربية تعني تقريبها أكثر لإنتاج نسخة جديدة مطورة من الانتفاضة الثانية، والمطوّر فيها هو أسلوب عمل فصائل المقاومة التي تعتمد على عدد كبير من المجموعات الصغيرة التي يصعب على قوات الاحتلال ضبطها والتعامل معها، إضافةً إلى الاعتماد على العبوات الناسفة التي أربكت التحركات العسكرية الإسرائيلية.

وإذا كانت الانتفاضة الثانية قد نفّذت على مدار 5 سنوات أكثر من 22 ألف عملية، وكانت الخسائر البشرية الإسرائيلية أكثر من 1500 قتيل و3380 جريحاً، فإن أي نسخة حديثة من الانتفاضة في الضفة الغربية سوف تنتج خسائر أكبر لدى الاحتلال. 

3. إشعال الضفة الغربية يعني إمكانية أكبر لفتح قناة تتسلل منها خطوات مماثلة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.

4. إذا كانت "إسرائيل" وعدد من دول الإقليم قد جهدت خلال السنوات الماضية لجعل منطق المقاومة "معزولاً" في غزة، بالتزامن مع خطط "الترويض الاقتصادي" للضفة، فإن منطق التفاوض هو الذي بات معزولاً في اللامكان اليوم في فلسطين.

ومن المرجّح أن يرتفع منسوب التوتر والاحتقان داخل الدول التي حاولت تبرير نكوصها عن نصرة غزة، بانتظارها خطوات تنسّق مع الضفة. 

ثمن البقاء العسكري في غزة 

إذا كان التحدي الأكبر أمام "إسرائيل" في اجتياح جنوب لبنان يكمن في عملية الدخول نفسها، فإن التحدي التوسعي في قطاع غزة يكمن في إمكانية البقاء على الأرض.

قبل طوفان الأقصى، لم تستنزف المقاومة الفلسطينية إمكاناتها في البحث عن صدّ الاجتياح البري الإسرائيلي للقطاع على الأطراف فقط، إنما ركّزتها في جعل البقاء داخل القطاع مكلفاً.

ومع ذلك، أصرّت "إسرائيل" في جولات المفاوضات على استمرار القتال وعزله عن أي صفقة للتبادل، وعلى البقاء العسكري في محاور حساسة (نيتساريم وفيلادلفيا). 

تنطوي التكلفة الإسرائيلية في التوسع الدائم باتجاه القطاع على مجموعة من العناصر، منها:

1. البقاء على الأرض يعني الحاجة إلى تحشدات عسكرية دائمة في أماكن ثابتة لفترة طويلة، الأمر الذي يسهّل استهدافها ويزيد نزيف العامل البشري الإسرائيلي، وتبقى المظلة العامة لكل ذلك هي استمرار المقاومة في العمل من خلال شبكة الأنفاق واستهداف القوات عبر الأسلحة المحمولة المؤثرة، وما أمكن من القوة الصاروخية.

2. منذ "غزة- أريحا أولاً"، اعتمدت "إسرائيل" على جعل الظروف والمعطيات والشروط التي يعيشها الفلسطينيون مختلفة (بين الضفة وغزة مثلاً) بهدف خلق استجابات مختلفة، متباينة في حدة ردود الأفعال، ولكنّ توحيدها للشروط اليوم بين الضفة وغزة سيساهم في توحيد نمط رد الفعل وتعزيز مبدأ وحدة الساحات أكثر. 

أزمة "إسرائيل" في التوسع وإعادة الاحتلال لا تكمن فقط أنها تفعل ذلك بشكل متزامن نسبياً، إنما أيضاً أنها مضطرة إلى التعامل مع شروط ميدانية مختلفة تتطلب استجابات متنوعة، "إسرائيل" ليست قادرة اليوم على إدارتها في إطار زمني ضيّق (الضفّة: المجموعات الصغيرة الكثيرة والتداخل الجغرافي، غزة: شبكة الأنفاق، جنوب لبنان: تحدي المسيّرات والإمكانات التقنية العالية). 

التوسع.. "عقيدة" ووسيلة

تتّسم "إسرائيل" بأنها الكيان الاستيطاني الوحيد الذي لم يتوقف عن التوسع الجغرافي الملموس، حتى النماذج المشابهة نسبياً (جنوب أفريقيا مثلاً) لم تحاول ضمّ أراضي جيرانها.

عندما وضع سموتريتش خريطة الأردن باعتبارها جزءاً من الكيان، كان يستند إلى منهجية صهيونية ثابتة كرّسها هيرتزل عندما قال إن حدود "الدولة الصهيونية" غير محددة، وهي تتسع بمقدار زيادة السكان اليهود فيها، وكلما زاد عدد المهاجرين، اتسعت رقعة الأرض.

منذ بداية عمل المستوطنات الزراعية عام 1882م إلى نشأة الكيان 1948 وحرب 1967 واحتلال الضفة الغربية والجولان وشبه جزيرة سيناء، كان التوسع هو الأساسي لعمل "إسرائيل"، وحقّقت فيه نجاحات واضحة، ولكن إذا كان التوسع الإسرائيلي "عقيدة"، فما الذي يعنيه تحرير جنوب لبنان عام 2000 والانسحاب من غزة عام 2005؟

انسحاب "إسرائيل" من أي أرض احتلّتها كان بسبب المقاومة القوية التي آلمتها، وكانت هي صاحبة الوزن النسبي الأعلى في قرار خروج قوات الاحتلال، ولكن، إلى جانب ذلك، وفي نهاية التسعينيات، سادت فيها فرضية مفادها أن الخروج من المناطق الأكثر مقاومة سوف يشعر أهلها بالارتخاء، ما يؤدي بعد سنوات إلى تراجع قدرات المقاومة فيها وتراجع استنفارها لاستحداث الأسلحة وتقنيات القتال.

اليوم، وبعدما ثبت فشل هذه الفرضية، تريد "إسرائيل" إعادة الاحتلال أو الضمّ، فتجد الطريق مغلقاً بسبب فشل فرضيتها السابقة وتراكم المقاومة!

اقرأ أيضاً: "إسرائيل" وتاريخ أزمة (1-3).. العمل والأرض