"إسرائيل" إلى أين؟ المشروعية الأخلاقية (1 / 3)

قطاع ليس بالقليل من مثقفي أوروبا وأميركا وشعوبهما كان قد تعاطف مع مشروع الكيان الإسرائيلي من منظور تعويض الاضطهاد والتنكيل اللذين تعرض لهما القطاع البائس والفقير من اليهود في أوروبا وبعض مناطق روسيا.

  • "إسرائيل" إلى أين؟ المشروعية الأخلاقية (1 / 3)

لسنوات طويلة تعامل العقل العربي مع الظاهرة الصهيونية في فلسطين المحتلة، لا سيما بعد حرب عام 1948، من زاويتين حادتين:

الأولى: تلك التي مالت إلى المبالغة في قوة "إسرائيل" (باعتبارها كياناً حقيقياً قوياً، سواء بسبب الدعم الأميركي والغربي غير المحدود لها، أو بسبب قوتها ومناعتها الذاتية، وكانت هذه النظرة هي المسيطرة تماماً على معظم أنظمة الحكم العربية، خصوصاً تلك المحيطة بفلسطين المحتلة).

الثانية: هي تلك النظرة التي جنحت إلى التهوين والتقليل من قوة هذا الكيان؛ فأسقط فيها العقل العربي لدى كثير من النخب الوطنية العربية أمنياته وأحلامه على معطيات الواقع وحقائقه، وظلّ يردد مقولة: "إسرائيل ستنتهي إلى زوال".

وقد استمرت هذه النظرة سائدة لدى هذه القطاعات من النخب لسنوات ما قبل عام 1967، ثم بدأت في التراجع والانحسار تدريجياً لمصلحة النظرة الأولى، خصوصاً بعد أن أسفرت حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 عن نتائج عسكرية محدودة، ونتائج سياسية كارثية تمثلت باستسلام الرئيس المصري الأسبق أنور السادات لمطالب "إسرائيل"، والذهاب إلى حد زيارة القدس المحتلة وعقد اتفاق تسوية معها في "كامب ديفيد" عام 1978، واتفاقية ما سُمّي "سلاماً" في آذار/مارس عام 1979. 

والحقيقة أن هاتين النظرتين ظلتا تراوحان داخل العقل العربي الجماعي طوال الفترة من عام 1948 حتى أيار/مايو عام 2000. 

هنا فقط أصبح الجدل حول إمكانية هزيمة "الجيش الذي لا يقهر" حقيقة واقعية، من دون أن يذهب العقل العربي في مجموعه العام – باستثناء حركة المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة السيد حسن نصر الله – إلى حدّ القول بإمكانية زوال هذا الكيان العنصري، حتى إن بعض حركات المقاومة في فلسطين ذهبت إلى حدّ إجراء تنازلات في برنامجها السياسي للقبول بتسوية ما مع هذا الكيان قائمة على مفهوم حل الدولتين عند حدود الرابع من حزيران/يونيو عام 1967. 

والآن، كيف يمكن تحليل الواقع الراهن للكيان الإسرائيلي، واستشراف مستقبله بصورة واقعية، بعيداً من التهويل أو التهوين من شأنه؟ 

وهنا، قد يسعفنا نمط الدراسات المستقبلية Futurology، شريطة أن يتحلى الباحث أو المحلل بدرجة من الرصانة، والبعد عن إسقاط التمنيات الشخصية على معطيات الواقع وحقائقه.

ويحتاج تحليل الظاهرة الصهيونية - كتيار فكري من ناحية، ثم كحركة سياسية وعسكرية استعمارية مدعومة من المراكز الاستعمارية الغربية الكبرى من ناحية ثانية، ثم ككيان اجتماعي وسياسي رابض على قلب وعقل الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة العربية ككل من ناحية ثالثة - إلى 3 مستويات مركبة ومعقدة للتشخيص والتحليل هي: 

المستوى الأول: قراءة ومراجعة تشخيصنا لماضي هذه الظاهرة، وديناميات تحوّلها من تيار فكري إلى حركة استعمارية سياسية واجتماعية ناجحة. 

المستوى الثاني: قراءة وتشخيص حاضر هذه الظاهرة من الزوايا الاجتماعية والسياسية والثقافية، والمدى الذي وصلت إليه في مشروعها من حيث المشروعية الأخلاقية الدولية لهذا المشروع، ومن حيث أزمة هذا النموذج على المستوى السياسي (أزمة القيادة وأزمة الحكم)، وعلى المستوى الاجتماعي وتفاقم حدة صراعاته الداخلية والدرجة التي وصلت إليها. 

المستوى الثالث: استشراف أفق المستقبل المحفوف بالمخاطر لهذا النموذج الاستعماري العنصري. 

وهنا، على المحلل المدقق أن يحذر من خطأين شائعين في مثل هذه الدراسات الاستشرافية، الأول: يُسقط عناصر ومعطيات قائمة في صلب الظاهرة محل البحث والدراسة (إما رفضاً باطنياً لها، أو الاستهانة أحياناً بتأثيرها وفاعليتها في الدينامية الخاصة بالظاهرة)، الثاني: أن يسقط أمنياته ورغباته الذاتية سواء الواعية أو غير الواعية على الظاهرة؛ فيبتعد بذلك عن التناول الجاد والحقيقي للظاهرة محل الدراسة.

في ضوء ذلك، دعونا نتأمل مسار الظاهرة الإسرائيلية منذ مؤتمر تأسيس الحركة الصهيونية في مدينة بازل بسويسرا عام 1897، حتى وقتنا الراهن، ثم استشراف أفق المستقبل.

في أي ظروف نشأت الحركة الصهيونية؟

عادة ما يتوقف العقل العربي عند نشأة الحركة الصهيونية في أوروبا، وعقد أول مؤتمر لها في مدينة بازل السويسرية عام 1897، من دون أن يرنو بالبصر إلى بقية المشهد العالمي في تلك الفترة التاريخية الحافلة بالتحركات الجيو-سياسية، والتحركات القومية والعرقية، فتبدو الحركة الصهيونية في جانبها التآمري فقط للقوى الأوروبية على الشرق العربي والإسلامي.

والحقيقة أن المشهد العالمي كان حافلاً بمثل تلك الحركات بدءاً من الهند شرقاً، إلى ولايات الدولة العثمانية التي كانت هذه الحركات القومية والعرقية في أنحاء الإمبراطورية سبباً في إضعافها وتفتيتها، سواء كانت هذه التحركات الانفصالية عن دولة الخلافة العثمانية لدوافع دينية (كالأرمن)، أو لدوافع دينية وقومية (كالحركات في اليونان والبلقان)، أو لأسباب قومية وعرقية (كالحركة العربية في الجزيرة العربية والشام).

وفي هذا أنصح القراء بمراجعة رسالة الدكتوراه التي أعدّها الدكتور محمد صبري الدالي وصدرت في كتاب هام جداً من الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان "القوى الأوروبية الكبرى والصراع الروسي العثماني" الصادر عام 2014، وفيه كمّ هائل من المعلومات عن هذه الصراعات ودوافعها القومية والعرقية والدينية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

إذاً، القراءة الحصيفة لنشأة هذه الحركة الصهيونية وتطوّرها، ودوافع بعض القوى والتيارات السياسية والثقافية الأوروبية للتعاطف معها تجعلنا نشخّص بالدقّة المطلوبة، كيف استحوذت هذه الحركة في بداياتها على هذا القدر من التعاطف. 

ومن ناحية ثانية، فإن هذه الحركة - مثلها مثل بقية الحركات الدينية أو القومية - كانت تُلتقَط من جانب القوى الاستعمارية الكبرى (وخصوصاً بريطانيا وفرنسا) من أجل توظيف بعضها أو توظيفها كلها بما يتناسب مع مصالحها الكونية، وتوجيه مسارات هذه الحركات القومية أو الدينية أو العرقية في الدهاليز المناسبة، هكذا فعلت بريطانيا في استثمار الحركة الإسلامية في الهند، فقسّمت هذه البلاد الهائلة إلى دولتين متناحرتين منذ منتصف القرن العشرين حتى يومنا الحالي 2023، وربما إلى أجل غير مسمّى.

وكذلك فعلت بريطانيا وفرنسا في تقسيم دولة الخلافة العثمانية وتفتيتها إلى دويلات؛ فنشأت دولة اليونان ودول البلقان الأخرى، وكذلك فعلت في المنطقة العربية فنشأت دولة آل سعود في نجد والحجاز، ودولة الهاشميين في الأردن والعراق، ودويلات ومشيخات محمية في الخليج الفارسي، وهكذا دواليك. وقد امتدت هذه الخريطة التقسيمية إلى قارة أميركا اللاتينية، سواء تحت الحكم الاستعماري الإسباني أو الأميركي.

وهكذا، لم تكن الدولة الصهيونية في فلسطين سوى جزء من هذه النظرة الاستعمارية من ناحية، ولتحركات بعض الكتل الاجتماعية والسياسية الإنسانية في هذه المناطق الجغرافية من ناحية أخرى.

ومن ناحية ثالثة، علينا أن نتأمل الواقع السياسي العربي في تلك الفترة التاريخية منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، لقد نظرت بعض الدول والحكومات وبعض التيارات السياسية في أوروبا وأميركا والاتحاد السوفياتي الاشتراكي الثوري إلى الحكومات والنظم السياسية التي تحكم وتتحكّم في شعوب هذه المنطقة العربية باعتبارها حكومات رجعية استبدادية تنتمي إلى القرون الوسطى في كثير من الأحيان، وهو حكم عائلي وقبلي شديد التخلّف، وعلى العكس، فقد نظرت بعض القوى الأوروبية والأميركية والسوفياتية إلى نشأة دولة يهودية تعرَّض شعبها إلى الاضطهاد الديني أو السياسي – كما حدث في السنوات النازية الهتلرية – باعتبارهم الأكثر تقدّماً.

وذهب البعض كما في الاتحاد السوفياتي إلى حدّ تصوّر قدرتهم على بناء دولة اشتراكية وسط الصحراء العربية الرجعية التي تعيش مرحلة ما قبل الرأسمالية الحديثة. 

أضف إلى ذلك رابعاً، أن قطاعاً ليس بالقليل من مثقفي أوروبا وأميركا وشعوبهما كان قد تعاطف مع مشروع هذه الدولة من منظور تعويض الاضطهاد والتنكيل اللذين تعرض لهما القطاع البائس والفقير من اليهود في أوروبا وبعض مناطق روسيا ما قبل الثورة البلشفية عام 1917، ولم تنس قطاعات المثقفين والساسة الغربيين الخطيئة التاريخية لتحالف مفتي فلسطين (الحاج أمين الحسيني) مع هتلر وقواته النازية أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945). 

وهكذا، إذا حاولنا اختصار خريطة التأييد والتعاطف الغربي مع مشروع هذه الدولة فسنجدها على النحو التالي:

1-بالنسبة إلى أوروبا: كان مصدر تعاطف الحكومات: إما بناء جسر استعماري يحُول دون وحدة هذه المنطقة العربية الإسلامية، أو التخلص من العبء النفسي للوجود اليهودي في المجتمعات الأوروبية، أما الشعوب والنخب فكانت بواعث تعاطفهم هي التعويض عن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا (وخصوصاً في الفترة النازية الهتلرية)، أو التعاطف مع مشروع دولة "أكثر تقدّماً وديمقراطية" (من حيث البناء السياسي والاجتماعي) عن النظم العربية الأقل تقدّماً. 

2- أما الولايات المتحدة فكان باعث تعاطفها كحكومات وشعوب التماهي بين الحلم الأميركي وحلم مشروع "الدولة اليهودية" والهجرة اليهودية إلى فلسطين من ناحية، أو التعاطف الديني لتيار واسع من البروتستانت اللوثريين المؤمنين بالعهد الألفي السعيد وعودة السيد المسيح، وأخيراً بالنفور العام من أنظمة الحكم الرجعية في المنطقة العربية والبنية الثقافية والسياسية المحافظة والرجعية. 

3-أما الاتحاد السوفياتي وقطاع واسع من الأحزاب الشيوعية في العالم فقد تأملت في هذه الدولة المصحوبة بهجرة واسعة من الكوادر الشيوعية اليهودية أن تكون بمنزلة المدماك الأول في بناء دولة اشتراكية في هذه المنطقة التي تحكمها أنظمة حكم رجعية ومتحالفة مع الاستعمار البريطاني والفرنسي.

وبرغم تكرار الجرائم والمذابح الإسرائيلية – من منظور عربي – ضد الفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة (بدءاً من مذبحتي كفر قاسم ودير ياسين، وغزو لبنان وقصف أراضيه منذ عام 1978، واحتلال عاصمته عام 1982، وتكرار القصف الوحشي ضد السوريين والأردنيين والمصريين، وكذا قصف المفاعل النووي العراقي وتدميره في حزيران/يونيو عام 1981) وجدت الحكومات الغربية مبرراً جاهزاً للعمليات العدوانية الإسرائيلية باعتبارها دفاعاً مشروعاً عن النفس، كما توقف قطاع واسع من الرأي العام الغربي أمام هذه الاعتداءات بالريبة، من دون أن يصل إلى حدّ إدانتها بصورة دامغة.

كل هذه العناصر شكلت خريطة وخطوط الدعم السياسي والثقافي لحلم "الدولة اليهودية" في مكان ما من العالم، وكان من نصيب فلسطين وشعبها أن تكون الضحية على مذبح هذا المشروع الممتزج بين الحلم وعمليات القنص الاستعماري الغربي.

تتصاعد التظاهرات في "إسرائيل" ضد حكومة بنيامين نتنياهو، وخصوصاً بشأن مسألة التعديلات القضائية، فيما تتسع دائرة الاحتجاج ويتنامى القلق لدى الإسرائيليين من وصول الأمور إلى حرب أهلية أو تداعيات أمنية مختلفة.