الرياض ومآلات تعزيز الروابط العسكرية مع بكين

إن أي استحواذ على أسلحة صينية جديدة من جانب الرياض، كان دوماً يتم في سرية تامة، ولا تعرف أي معلومات علنية عنه إلا بعد عدة سنوات.

  • العلاقات السعودية الصينية.
    العلاقات السعودية الصينية.

بشكل تدريجي تسير وتيرة العلاقات بين الرياض وبكين في مسارات إيجابية متصاعدة، خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد توقيع اتفاقية الشراكة الشاملة بينهما أواخر العام الماضي، وتشمل جميع جوانب التعاون بينهما، خاصة المستوى العسكري، الذي شهد خلال العام الجاري عدة تطورات مهمة، منها ما يرتبط بملف يعدّ هو "الأخطر" و"الأكثر سرية"، في العلاقات العسكرية بين الجانبين، ألا وهو ملف "التسليح الصاروخي".

فقد عقد كلا الجانبين الشهر الماضي، جولة موسعة من المباحثات العسكرية، بهدف تعزيز التعاون الدفاعي بينهما، وهي مباحثات سبقتها عدة تفاعلات عسكرية لافتة، من أهمها دخول الجانبين في مباحثات حول استحواذ المملكة العربية السعودية على أعداد من راجمات الصواريخ التكتيكية صينية الصنع "A-300"، التي تعدّ من أحدث أنظمة المدفعية الصاروخية الصينية، ويبلغ مداها الأقصى نحو 300 كيلو متر.

هذه المباحثات عدّها بعض الأوساط العسكرية أحدث إشارة من جانب الرياض، إلى رغبتها في توسيع قوس تعاونها العسكري مع دول مثل الصين، ضمن الطموح السعودي لزيادة الإنفاق العسكري، إلى ما مجموعه 69 مليار دولار أميركي، وتعزيز العلاقات الدفاعية مع دول أفريقية وآسيوية، خاصة قطاعات التصنيع الدفاعي المشترك.

الطائرات بدون طيار في ميزان العلاقات بين الجانبين

هذا يمكن ملاحظته بشكل أكبر في ما يتعلق بالطائرات العسكرية بدون طيار، فالرياض تعاقدت عام 2014، على شراء طائرات صينية هجومية بدون طيار، من نوعَي "وينج لونج-1"، و"وينج لونج-2"، اللذين تصنعهما مجموعة "تشنغدو" الصينية للصناعات الجوية، وقد استخدم الجيش السعودي هذا النوع من الطائرات بدون طيار في اليمن، حيث تمركز بعض هذه الطائرات في قاعدتَي "شرورة" و"جيزان" الجويتين، قرب الحدود المشتركة مع اليمن، وقد تم إسقاط بعض هذه الطائرات خلال المواجهات بين الجيش السعودي وحركة "أنصار الله".

امتد التعاون بين الصين والمملكة السعودية في هذا المجال إلى مستوى التصنيع، ففي عام 2017، وقعت المملكة اتفاقاً مع شركة "تشنغدو"، لتصنيع طائرات بدون طيار في مصانع على أرض المملكة، ويلاحظ هنا أن العام الجاري شهد بدء مباحثات إضافية بين الجانبين، لشراء أنواع أخرى من الطائرات بدون طيار، وتصنيعها بشكل مشترك.

ففي شهر أيار/مايو الماضي، دخلت الشركة السعودية للصناعات العسكرية مع شركة "نورينكو" الصينية للصناعات الدفاعية، في مباحثات حول شراء مجموعة من أنواع الطائرات بدون طيار ذات الاستخدام العسكري، من بينها الطائرة "Sky Saker FX80"، والطائرة بدون طيار ذات الإقلاع العمودي "CR500"، بجانب الذخائر الجوالة "Cruise Dragon-5" و"Cruise Dragon-10".

هذه المباحثات تشمل أيضاً طائفة واسعة من الأنظمة العسكرية، بدأ التفاوض حولها أواخر العام الماضي، من بينها الصواريخ البحرية "Eagle Strike 21E"، ونظام الدفاع الجوي قصير المدى "HQ-17AE".

حقيقة الأمر أن الجانب البحري من العلاقات العسكرية بين الرياض وبكين، أصبح قريباً من تطورات مهمة خلال المدى المنظور، حيث تسعى البحرية السعودية لاقتناء أعداد كبيرة من المدمرات الجديدة، وتضع ضمن خياراتها المدمرات الصينية من الفئة "تايب-52 دي إل"، التي دخل كلا الجانبين في مفاوضات مبدئية حولها مطلع العام الجاري، وقد تشمل هذه الصفقة في حال إتمامها، شراء 12 مدمرة من هذا النوع لصالح البحرية السعودية.

التسليح الباليستي السعودي.. ملعب أوحد لبكين؟

الجانب الأهم والأكثر نوعية في التطورات التي طرأت على العلاقات العسكرية بين الصين والمملكة العربية السعودية، يرتبط بملف "التسليح الصاروخي الباليستي"، الذي ظل دوماً مثار توتر بين الرياض وواشنطن، بسبب إحجام الثانية بشكل دائم عن تلبية طلبات الرياض لشراء صواريخ باليستية أميركية أو غربية المنشأ، وكانت المبررات الأميركية في هذا الإطار، تتعلق بعدم الرغبة في التسبب في إطلاق سباق تسلح باليستي في الشرق الأوسط.

بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية كانت ضمن الموقعين على بروتوكول التحكم في انتشار تكنولوجيا الصواريخ - المسمى "MTCR" - الذي تم إصداره عام 1987، ويحظر تصدير أي صاروخ، يمكن أن يحمل حمولة لا تقل عن 500 كلغ، أو يتجاوز مداه 300 كيلو متر. لكن، بطبيعة الحال، كان الهدف الرئيسي لرفض واشنطن تلبية الطلبات السعودية، هو التزامها "الكامل" بضمان تفوق "إسرائيل" على المستوى العسكري الإستراتيجي.

الموقف الأميركي من الطلبات السعودية المرتبطة بالتسليح الصاروخي بعيد المدى، دفع الرياض منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، للجوء إلى بكين لسد هذه الفجوة في قدرات الردع الخاصة بها، وبدأت عام 1988 في تلقي أولى دفعات الصاروخ الباليستي الصيني القادر على حمل رؤوس نووية "DF-3A"، البالغ مداه المؤثر نحو 2650 كيلو متراً.

واللافت هنا أن تأكيد وجود هذا النوع من الصواريخ في الترسانة السعودية، لم يثبت بشكل يقيني إلا بعد ذلك التاريخ بسنوات طويلة، وتحديداً في نيسان/أبريل 2014، خلال عرض عسكري أقيم ضمن فعاليات مناورات "سيف عبد الله" العسكرية، وقد شهد العام نفسه، الكشف للمرة الأولى عن امتلاك المملكة صواريخ "DF-21" الباليستية الصينية، التي يصل مداها المؤثر إلى 1700 كيلو متر، وقامت الرياض بالتعاقد عليها عام 2007. 

منذ ذلك التوقيت، رجحت التقديرات الغربية أن الرياض تسعى إلى توسيع القاعدة النوعية لصواريخها الباليستية متوسطة وبعيدة المدى، لتشمل أيضاً تطوير القدرات الذاتية على التصنيع والتطوير والتحديث، مستفيدة من عدم وجود محاذير صينية كبيرة في ما يتعلق بمشاركة تكنولوجيا التصنيع، إذ تسعى الصين في المقابل إلى سد الفجوة التي نشأت نتيجة تراجع العلاقات الخليجية -الأميركية خلال السنوات الأخيرة، لتحقيق فوائد اقتصادية وإستراتيجية.

المخاوف الغربية في هذا الصدد تكثفت بشكل أكبر عام 2013، حين ظهر في أحد الاجتماعات العسكرية السعودية، مجسماً يظهر فيه ثلاثة أنواع من الصواريخ الباليستية، الأول هو صاروخ "DF-3A" السالف ذكره، والنوعان الآخران لم يسبق أن تم تسجيل امتلاك المملكة لهما، الأول هو الصاروخ الصيني الباليستي "DF-15C"، العامل بالوقود الصلب والبالغ مداه 850 كيلو متراً، ومتخصص في تدمير المنشآت العسكرية عالية التحصين أو الموجودة تحت الأرض.

والثاني هو الصاروخ الصيني "DF-15A"، وهو عامل أيضاً بالوقود الصلب، ورأسه الحربي مزود بتقنية إعادة الدخول "MARV"، التي تسمح بانفصال الرأس الحربي وإعادة دخوله إلى الغلاف الجوي بسرعة عالية في اتجاه الهدف مباشرة، ما يقلل من هامش الوقت المتاح للتصدي للصاروخ.

الحديث الغربي عن هذا الملف تكرر خلال الآونة الأخيرة بشكل مكثف، إذ تحدثت الصحافة الأميركية في شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو 2022، عن قرب دخول أنواع جديدة من الصواريخ الباليستية الصينية، في التسليح السعودي، ضمن ما يوصف بأنه برنامج صاروخي سعودي تمت تسميته "التمساح".

كما سبق وتناولت الصحافة ومراكز الفكر الأميركية الملف الصاروخي السعودي، من الجانب التصنيعي، موضحة أن الرياض تمتلك عملياً ما قد يصل إلى سبع قواعد صاروخية، يتضمن أغلبها مرافق للتدريب واختبار الصواريخ، ومنشآت قد ترتبط بقاعدة تصنيع أو تجميع محلية للصواريخ الباليستية.

من أهم الأسباب التي تبرر هذه المخاوف الأميركية، أن أي استحواذ على أسلحة صينية جديدة من جانب الرياض، كان دوماً يتم في سرية تامة، ولا تعرف أي معلومات علنية عنه إلا بعد عدة سنوات، ومن أحدث الأمثلة على ذلك، منظومة الدفاع الجوي الليزرية "Silent Hunter"، التي اشترتها الرياض من بكين عام 2019، ولم تظهر بشكل علني إلا بعد ذلك بعامين، وهي تعدّ من أحدث المنظومات الصينية المخصصة للتعامل مع الأهداف الجوية منخفضة الارتفاع، على مسافات تصل إلى 4 كيلو مترات، وتستخدم أشعة الليزر المكثفة بطاقة 30 كيلو واط.

مما سبق يمكن القول إن هناك احتمالات جدية لظهور أنواع جديدة من الصواريخ الباليستية الصينية في الترسانة السعودية خلال المدى المنظور، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار التقدم الواضح في العلاقات بين الجانبين، منذ انعقاد "القمم الصينية" في الرياض أواخر العام الماضي، والتي مثلت نقطة انطلاق جديدة في العلاقات بين الرياض وبكين، سوف يكون لها بالتأكيد، تأثيرات مهمة على العلاقات العسكرية بينهما، خاصة في ظل الزيادة الكبيرة التي طرأت على ميزانية القطاع العسكري السعودي لهذا العام، البالغة نحو 259 مليار ريال، مقارنة بميزانية العام السابق التي بلغت 171 مليار ريال فقط.

بطبيعة الحال، يمكن ربط توسيع نطاق العلاقات بين الصين والمملكة العربية السعودية، بتراجع العلاقات بين هذه الأخيرة والولايات المتحدة الأميركية، لكن هذه العلاقات - في الجانب العسكري منها - باتت أقرب إلى نقطة تحاول فيها انتهاز الوضعين الإقليمي والدولي الحاليين، لتحقيق وثبة إستراتيجية في مجال التسليح، وهو موقف يقابله من الجانب الصيني، مسعى حثيث لتوسيع دائرة استفادة القطاع التصنيعي العسكري، من الفرص التي تكونت بفعل تداعيات الحرب في أوكرانيا، وتراجع نفوذ بعض الدول الأوروبية في أفريقيا.