توارى الحديث عنها لكنها لم تختف.. مناطيد عسكرية فوقنا؟ (1-2)

وفق الرواية الأميركية، لم يكن للتوقيت أي اعتبار، إذ لم تكن تلك المرة الأولى التي ترسل فيها الصين مناطيدها في اتجاه الولايات المتحدة. 

  • توارى الحديث عنها لكنها لم تختف.. مناطيد عسكرية فوقنا؟ (1-2)
    توارى الحديث عنها لكنها لم تختف.. مناطيد عسكرية فوقنا؟ (1-2)

انتهت الجلبة التي أثيرت حول المنطاد الصيني، لكنّ المناطيد لن تنتهي قريباً. شأن المناطيد كشأن عدد من القضايا التي تُثار ثم لا تلبث أن تخمد، لكنّ جمرها يبقى متقداً تحت رماد الأحداث. التجسس قضية شائعة لا تقتصر على المناطيد، إذا صحّت التهمة الأميركية للصين في هذه القضية، وهي غير مستبعدة. تعرف الدول أنها تتجسس بعضها على بعض، سواء عن طريق المناطيد أو الأقمار الصناعية؛ عبر الوسائل التقنية أو البشرية. مع ذلك، فإن ما يتم الكشف عنه لا يمثل سوى رأس جبل الجليد، فيما يتوارى قسمه الأعظم خلف ما يُسمّى بـ"أسرار الدولة".

الأسئلة المُعلّقة

أثارت الولايات المتحدة قضية المناطيد في الأول من شباط/فبراير المنصرم عندما رصدت منطاداً صينياً شمال غرب البلاد، حيث توجد قواعد جوية حساسة وصواريخ إستراتيجية في ملاجئ تحت الأرض، بحسب مسؤول أميركي لم يكشف هويته. أصرّت الولايات المتحدة على لسان مسؤوليها أن المنطاد كان بغرض التجسس من دون أدنى شك. 

تقديرات مسؤولين أميركيين بعد أيام من الحادثة أشارت إلى أن المنطاد كان بغرض التجسس على الاتصالات الإلكترونية، المعروفة باسم استخبارات الإشارة. وفقاً لمسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، فإن الصور عالية الدقة التي وفّرتها طائرات التجسس (U-2) التي حلقت قرب المنطاد، أوضحت مجموعة من معدات الرصد قادرة على جمع إشارات الاتصال. لاحقاً، بعد إسقاطه، أكّد أكثر من مسؤول أميركي وجود أجهزة استشعار إلكترونية ضمن الحطام الذي انتشل قبالة سواحل كارولينا الجنوبية.

في المقابل، أصرّت الصين على أن "البالون الضخم" هو مجرد منطاد مدني يستخدم في أبحاث الأرصاد الجوية "انحرف عن مساره بسبب الرياح ولديه فقط قدرات محدودة على التوجيه الذاتي". وللمفارقة، تعدّ الولايات المتحدة من أوائل الدول التي استخدمت المناطيد لأغراض تجسسية خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، وكانت غالباً ما تتحجّج عند اكتشافها أن الهدف منها إجراء أبحاث حول أحوال الطقس.

بقدر ما أثارت الحادثة من أسئلة أججتها طريقة التعامل الأميركية مع تداعياتها، فإن الحلقات المفقودة لم تقتصر على السردية الأميركية فقط، إنما أضافت إليها الرواية الصينية أحجيات جديدة.

ازداد الوضع تعقيداً عندما بدأ الحديث عن "أجسام طائرة مجهولة" تم إسقاط ثلاثة منها، أحدها فوق الأراضي الكندية. لم تُتهم الصين في تلك الحوادث، على عكس الحادثة الأولى، وبقيت هويتها مجهولة، مع صدور تكهّنات أنها قد تكون بالونات عائدة لشركات أبحاث أو عبارة عن مخلّفات في الفضاء. لكن عدم تحديد طبيعتها وهويتها، حتى بعد إسقاطها، شرّع المزيد من الأسئلة.

ما زاد الأمر غموضاً وإرباكاً تصريح قائد القيادة الشمالية الأميركية وقيادة الدفاع الجوي الفضائي لأميركا الشمالية (نوراد) الجنرال غلين دي فانهيرك أنه لا يستبعد أن تكون الأجسام الطائرة المشبوهة التي أسقطت في الأيام الأخيرة "مرتبطة بحياة خارج كوكب الأرض". لحسن الحظ، سُرعان ما سُدّت هذه الفجوة بعدما تحدّث مسؤول دفاعي أميركي آخر شرط عدم كشف هويته لوكالة "رويترز" عن أن الجيش لم ير أي دليل يوحي بأن أياً من تلك الأجسام من أصل خارج كوكب الأرض، ما أوحى بأن التصريح الأول كان عبارة عن سوء تعبير.

لكنّ هذا التوضيح لم ينسحب على سائر الأسئلة المُعلّقة التي بقيت محيطة بمجمل القصة، والتي زادتها غموضاً التصريحات المتبادلة اللاحقة بين واشنطن و بكين.. لم يكن المنطاد الصيني الذي تم إسقاطه سوى إشارة البداية لقصة يبدو أنها لن تنتهي قريباً.

مناطيد تجوب العالم

في الأيام اللاحقة على ظهور المنطاد الصيني الذي أسقطته واشنطن فوق أجوائها، أعربت الأخيرة أن المنطاد لا يعدو كونه جزءاً من مجموعة أكبر من المناطيد الصينية التي تغطي خمس قارات. قائد القوات الجوية المركزية الأميركية الجنرال أليكسوس غرينكويتش قال إنه خلال السنوات القليلة الماضية تم رصد مناطيد مراقبة صينية في الشرق الأوسط.

أبعد من ذلك ذهبت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، أدريان واتسون، عندما قالت إنّ "الصين لديها برنامج للمراقبة بالمنطاد على ارتفاعات عالية لجمع المعلومات الاستخبارية، وقد استخدمته لانتهاك سيادة الولايات المتحدة، وأكثر من 40 دولة". 

وقال المتحدث باسم البنتاغون باتريك س. رايدر، إنه خلال السنوات العديدة الماضية، تم رصد مناطيد صينية تعمل فوق الأميركيتين اللاتينية والجنوبية وجنوب شرق آسيا وشرق آسيا وأوروبا.

سرعان ما توالى بعد ذلك الكشف عن ظهور مناطيد في أجواء دول معظمها حليف للولايات المتحدة، إذ كشفت طوكيو عن تنسيق مشترك وتبادل معلومات مع واشنطن لتحليل الأجسام الجوية المجهولة التي رُصِدَت فوق اليابان في عامي 2020 و2021، كما أعلنت عن رصد بالونات مشتبه بها لم تكن انتماءاتها معروفة فوق اليابان.

إعلانات مشابهة صدرت أيضاً من تايوان والفلبين وكولومبيا، كما أكدت حكومة كوستاريكا اعتذار الصين عن منطاد مرَّ فوق أراضيها مؤخراً. بكين أوضحت من جانبها بأن منطادها الذي طاف فوق أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي استُخدم في اختبارات الطيران.

السؤال الذي يأتي بعد ذلك: لماذا سكتت واشنطن كل هذه الفترة عن المناطيد الصينية حول العالم؟ ولماذا قررت الآن الإفراج عن هذه المعلومات؟

معلومات سرعان ما ردّت عليها بكين، وأعلنت أن واشنطن أرسلت مناطيد إلى مجالها الجوي أكثر من 10 مرّات منذ كانون الثاني/يناير 2022. هل جاء إذاً منطاد كارولينا الجنوبية رداً على هذه الانتهاكات؟ ولماذا سكتت بكين بدورها على انتهاكات واشنطن؟ أم أن ردها جاء بشكل ضمني عندما صرّح المتحدث باسم الخارجية الصينية أن بكين ترد على مثل هذه الحوادث بشكل مسؤول ومهني؟ أي أنها أرسلت منطاداً إلى أميركا إشارةً ورداً على ما قامت به الأخيرة، لكن من دون إثارة إعلامية؟ وإذا لم يكن مسار منطاد كارولينا الجنوبية ناتجاً من قوة قاهرة كما ذكرت الخارجية الصينية، فهل يمثل توقيت إطلاقه أي دلالة؟

كان بإمكان واشنطن أن تعالج المسألة بعيداً من الإعلام كما يحصل في العديد من قضايا التجسس التي تبقى طي الكتمان، لكنها اختارت العكس وأثارت المسألة إعلامياً. 

التفسير الصيني لهذا الأمر جاء من وزارة الخارجية التي قالت إنّ الولايات المتحدة تضخّم حادثة المنطاد، وتستخدمها ذريعةً لفرض عقوبات غير مشروعة على الشركات الصينية. هل كانت واشنطن تحتاج فعلاً إلى ذريعة لكي تضيف 6 كيانات صينية مرتبطة ببرنامج منطاد المراقبة الصيني إلى قائمة "التصدير السوداء"؟ أم أنها كانت تحتاج إلى ذرائع أمام الرأي العام الداخلي لكي تُبرر زيادة الإنفاق في ميزانية الدفاع في وقت يقف اقتصادها على أعتاب أزمة غير مسبوقة لمّا تزل في بدايتها؟ تتفرع الأسئلة ولا تنتهي عند هذا الحد، وسوف تتكشف تباعاً مع توالي التصريحات الأميركية التالية.

ليست المرة الأولى 

وفق الرواية الأميركية، لم يكن للتوقيت أي اعتبار، إذ لم تكن تلك المرة الأولى التي ترسل فيها الصين مناطيدها في اتجاه الولايات المتحدة. 

بات معلوماً، وفقاً لإدارة بايدن، أن المنطاد الصيني دخل لأول مرة المجال الجوي الأميركي فوق ألاسكا يوم 28 كانون الثاني/يناير الماضي، وقالت واشنطن إنها كانت تتعقبه في أثناء تحركه. وفي غضون الأيام التالية، حلّق المنطاد فوق قاعدة مالمستروم الجوية في ولاية مونتانا، حيث تخزن الولايات المتحدة بعض أصولها النووية.

لكن، على ما يبدو، لم تكن تلك المرة الأولى التي تجول فيها بالونات صينية فوق الأجواء الأميركية. هنا، بدأت تتوالى تصريحات أميركية لتضيف إلى القضية أبعاداً جديدة. منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي قال إن ظاهرة الأجسام الطائرة المجهولة معروفة منذ فترة طويلة، وأنه لم تكن هناك محاولة جادة من السلطات الأميركية لدراستها وشرحها بعمق قبل فترة رئاسة جو بايدن.

كان يمكن إدراج هذه التصريحات في إطار المزايدات الداخلية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهذا في جزء منه حقيقي، إذ انتقد الجمهوريون بايدن بشدة لسماحه للمنطاد الأول بالبقاء أياماً عدة في أجواء البلاد قبل إسقاطه، ما سمح له ربما، بجمع معلومات استخبارية حساسة، وفق تعبيرهم. 

كان يمكن افتراض ذلك لولا تعقيب البنتاغون على الحادثة، إذ أفاد الأخير بأن مناطيد صينية حلقت ثلاث مرات لفترات زمنية محدودة فوق الأراضي الأميركية خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، ومرة واحدة في بداية ولاية بايدن لفترة قصيرة أيضاً.

شبكة CNN حصلت على مقتطف من تقرير للاستخبارات العسكرية الأميركية صدر العام الماضي يبيّن كيف استخدمت الصين المناطيد خلال فترة رئاسة دونالد ترامب. 

وجد التقرير أنه في عام 2019 طاف منطاد صيني للتجسس حول العالم على ارتفاع نحو 65000 قدم، وانجرف بعيداً من هاواي، وعبر فلوريدا قبل مواصلة رحلته.

وعُدّ التقرير أول مؤشر على أن الجيش الأميركي كان على علم بـ"مناطيد التجسس الصينية" قبل وقت طويل من الحادث الأخير. 

تسريب آخر أكّدت من خلاله صحيفة "نيويورك تايمز" ما ذكر آنفاً، وإن بطريقة مختلفة. الصحيفة الأميركية أشارت إلى "تقرير سري" قُدّم إلى الكونغرس في كانون الثاني/يناير المنصرم، وحدد حوادث محتملة لاستخدام "أعداء أميركا لتكنولوجيا جوية متقدمة للتجسس على البلاد".

وبيّنت الصحيفة أن التقرير السري تضمن ذكر حادثتين "على الأقل" كانت وراءهما قوى منافسة للولايات المتحدة، لم يذكرها التقرير، لكن مسؤوليْن أميركيين رجحا أن تكون الصين مسؤولة عنهما.

تقويض الرواية الأميركية

تعددت المقاربات ومحاولات الإجابة عن الأسئلة التي أثارتها الحادثة، إضافة إلى التبعات والتصريحات التي واكبتها. التشكيك في الرواية الأميركية لم يقتصر على دول مناوئة مثل الصين وروسيا التي أعلنت على لسان المتحدثة باسم وزارة خارجيتها ماريا زاخاروفا بأنه يصعب وصف رد فعل واشنطن إلا بأنه هستيري.

موقع "ديلي بيست" الأميركي سخر من فكرة أن يكون هدف المنطاد هو التجسس. ووصف كاتب المقال ديفيد روثكوف ما جرى حول المنطاد بأنه "هستيريا لا داعي لها"، مشيراً إلى أن الخوف مما صنّفه البنتاغون منطاد مراقبة "أمر غبي جداً ناهيك بأنه نفاق". وقال إن التجسس بلغ مستوى من التطور والتعقيد لا يمكن معه اعتبار أن المنطاد الصيني هدفه التجسس.

في هذا السياق، أعرب مسؤول أميركي بارز سابق في CIA وFBI في حديث لشبكة CNN أن القضية لا يتعدى حجمها 2 من 10 في إطار الأمن القومي، وأن الأمر يوضح عجز الكونغرس والبنتاغون وواشنطن عن التحدث في قضايا الأمن القومي غير المهمة نسبياً أكثر مما يوضح المعلومات الاستخبارية، مشيراً إلى أن الصين كان بإمكانها الدخول إلى Google Earth لو كانت تريد الحصول على صور لأميركا، أو إرسال قمر صناعي سري أو اعتراض الاتصالات عبر الأقمار الصناعية من دون أن ينفي المزايا التي قد يتمتع بها المنطاد.

في الأسباب والدوافع الصينية

رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب مايكل ماكول قدّم تفسيره بشأن الحادثة إلى شبكة "سي بي أس" الأميركية قائلاً إن ذلك تمّ باستفزاز "لجمع بيانات استخبارية.. عن مواقعنا النووية الرئيسية الثلاثة". 

موقع "InterRegional for Strategic Analysis" حاول الإضاءة على خلفيات الحادثة، فاستعرض عدداً من الدوافع المحتملة من وراء السلوك الصيني. وذكر تقرير على الموقع أن بكين ربما تحاول إرسال إشارة إلى واشنطن بأنها على استعداد دائم للمنافسة المستمرة، باستخدام أي وسيلة، من دون المخاطرة بالتصعيد المباشر. يُظهِر استخدام الصين للمناطيد أيضاً حرصها على الرد على ما قالت عنه إنه انتهاك أميركي للسيادة الصينية للمراقبة والتجسس.

من بين الاحتمالات استعراض التكنولوجيا الصينية، بحيث تستخدم الصين المناطيد لإثبات أن لديها قدرة تكنولوجية متطورة لاختراق المجال الجوي الأميركي من دون المخاطرة بتصعيد خطير، وربما يكون نشر الصين مناطيد عبر عدد من الدول، محاولةً منها للتعرف إلى قدرات منظومات الدفاع الجوي للقوى المنافسة.

ويعطي الاعتماد على بالونات التجسس في مثل هذه الحالة فرصة لبكين للتملُّص من اتهامات التجسس المُوجَّهة إليها، وتقويضها بصورة سريعة على أقل تقدير على المستوى الرسمي.

وعن سبب إثارة الحادثة على هذا المستوى، ذكر تقرير نشرته شبكة CNN أن الأميركيين لم يطوروا طريقة لتتبع مناطيد التجسس الصينية إلا العام الماضي. من هذا المنطلق، أتت عمليات الإسقاط الثلاث المتتابعة عقب إسقاط منطاد كارولينا الجنوبية نتيجة لتعديل الولايات المتحدة آليتها في اكتشاف الأجسام الجوية بطيئة السرعة.

وكان بايدن قال بتاريخ 16 شباط/فبراير 2023 إن بلاده تعمل على آلية لتحسين الكشف عن الأجسام الطائرة غير القانونية، من دون الإضرار بالأجسام المسالمة في مرمى النيران. وأضاف: "نتمكن الآن من رصدها أكثر من ذي قبل، وهذا جزئياً بفضل الخطوات التي اتخذناها لزيادة دقة الرادارات".

التقرير الأحدث في هذا المجال ورد الإثنين المنصرم (3 نيسان/أبريل 2023) على شبكة (NBC News) الأميركية، وهو الأخطر. أهميته أنه جاء بعدما بردت الأحداث وحيث يفترض أن تكون الأجهزة الأمنية قد بلورت خلاصات متينة في ضوء التحقيقات التي أجرتها. 

ينقل التقرير عن مسؤولين بارزين أن المنطاد الصيني جمع معلومات استخبارية عن مواقع عسكرية حساسة ونقلها إلى بكين في وقت متزامن، كما أنّه حلّق في بعض الأحيان على شكل الرقم 8 ليبقى فوق المواقع أطول فترة ممكنة، ما يعني أن لديه قدرة على التوجيه.

وقال المسؤولون إن المعلومات كانت في الغالب تتعلق بالإشارات الإلكترونية، التي يمكن أن تصدر من أنظمة الأسلحة أو الاتصالات بين أفراد القاعدة، بدلاً من الصور.