حاجة وإدمان واختراق.. لماذا لا يزال "العميل القاتل" بيننا؟
تُغري الهواتف المحمولة الدماغ بالمتعة السريعة من خلال آلية عصبية تتمحور حول تنشيط نظام المكافأة في الدماغ بواسطة مادة الدوبامين.
-
الهواتف الذكية ليست قدراً لا يمكن الفكاك منه.
منذ وقت طويل، تخطّى الهاتف مجرّد كونه وسيلة تخابر واتصال. مع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تطوّر الهاتف المحمول من أداء خدمات بسيطة مثل منبّه الصباح ومصباح الإضاءة، ليصبح جهازاً قلّ نظيره.
بات الهاتف الذكي يقوم بمجموعة وظائف وخدمات. أصبح بمثابة الصحيفة والتلفاز ومنبر الرأي والمشاركة، وهو وسيلة الاطلاع والمعرفة ومواكبة المستجدّات والمفكرة والدليل. يحتوي متجر التطبيقات على أنواعها ويمثّل لوحة رجال الأعمال التي لا غنى عنها، كما يضمّ البريد الإلكتروني إضافة إلى خدمات التسلية والترفيه والتواصل متعدّد الطبقات.
مع ذلك، فإنّ الهواتف الذكية ليست قدراً لا يمكن الفكاك منه. الموت قدر، والحياة قدر، لكن ليس استخدام الهاتف الذكي. المسألة بطبيعة الحال نسبية، وهي لا تتوقّف فقط على الإرادة، إنما على الوظيفة التي يؤدّيها الإنسان المعاصر وحاجته إلى هذه التكنولوجيا.
قد يبدو الأمر بسيطاً
رغم أنّ ظاهرة الإدمان على استخدام الهواتف الذكية ليست ظاهرة محلية بقدر ما تحمل طابعاً كونياً، إلا أنّ هذا الطرح يكتسب خصوصية في المجتمعات التي تخوض مقاومة ضدّ هيمنة طرف استعماري متفوّق تقنياً بعدما ثبت أنّ الهواتف المحمولة يمكن أن تتحوّل بسهولة إلى أدوات تنصّت وملاحقة وجمع بيانات.
إثر حرب الإسناد التي بادر إليها حزب الله عقب "طوفان الأقصى" مثّلت الهواتف الذكية إحدى أدوات الخرق الأمني، لكن أيضاً بأثر رجعي. خلال سنوات الحرب في سوريا جرى التساهل في اصطحاب الهواتف التي شكّلت وفق متابعين وسيلة لجمع المعلومات. لا يتعلّق الأمر بحزب الله فقط؛ خلال "طوفان الأقصى" شكّلت تلك الأجهزة وسيلة تعقّب واستهداف سواء في غزة أو لبنان أو إيران بالحدّ الأدنى.
مع ذلك لم يكن من السهل بحسب الظاهر معالجة هذه المسألة، الأمر الذي يثير الحيرة والغرابة ويستدعي مجموعة أسئلة. للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر بسيطاً: أداة ثبتت خطورتها وثبت دورها في الانكشاف الأمني لماذا ما زالت تستخدم من قبل أشخاص يؤدّون أدواراً معيّنة في المقاومة؟
التعمّق أكثر في الموضوع يجعل الأمر أكثر تعقيداً، وليس بالبساطة التي يبدو عليها.
تحليل بيانات المجتمعات
في مقام التساهل، لا يندرج التخلّي عن الهواتف الشخصية في إطار الاستغناء عن وسيط فحسب، ليبدو أقرب إلى التخلّي عن جزء من الحواس. يصلح هذا التوصيف مؤقتاً كجسر للعبور إلى صلب الموضوع رغم قصوره العلمي. بات الهاتف وسيطاً وامتداداً للحواس يدرك المستخدم من خلاله الأحداث الخارجية ويتفاعل معها.
لكنّ الأمر في هذا الطرح لا يتعلّق بأشخاص محدّدين. المشكلة لن تنتهي في تخلّي المقاومين نهائياً عن استخدام الهواتف، إنما يقلّص خطرها ويحصرها. الغوص في هذا المضمار هو بمثابة اقتحام منطقة شائكة ومعقّدة تحتاج إلى معلومات وخبراء، ذلك أنّ موضوع الخروقات الأمنية ذات الطابع التقني غير معلوم بعد بكلّ تفاصيله وتشعّباته، في وقت تحيط المقاومة مراجعاتها وتقويماتها بجدران من الكتمان والسرّية.
لكن وفق ما تبيّن من حرب الإبادة على غزة وما سبقها وتلاها من معلومات وتقارير موثوقة ومنشورة، بات معلوماً أنّ الاحتلال الإسرائيلي يحوز تقنيات تعقّب متقدّمة تعتمد على الهواتف المحمولة وتتتبّع بصمات الصوت والوجه، عدا عن تقنيات غير معروفة بعد.
من هذا المنطلق تتعدّى المسألة دائرة المقاومين وتتصل بدوائر أوسع تشمل عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي، حيث مسألة التخلّي عن الهواتف تصبح أكثر صعوبة وتعقيداً، لكن من غير المستحيل علاجها، بحيث تتطلّب إبداعاً في التخطيط يتخطّى الأفق الزمني المنظور.
المسألة هنا ليست محلية ولا تنحصر في مجرّد عمليات تنصّت وتعقّب تجاه أفراد معيّنين أو مجموعات محدّدة. باتت أدوات جمع وتحليل البيانات الضخمة متقدّمة اليوم أكثر من السابق من خلال الذكاء الاصطناعي، وفرضيّة إمكاناتها الفائقة في استهداف بيئات محدّدة لها ما يُبرّرها:
ليس علينا سوى أن نعاين الأدوات المتوفّرة على وسائل التواصل الاجتماعي من حيث قدرتها على تحليل اتجاهات وسلوكيات المستخدم ونقايسها بالأدوات التي يمكن أن تحوزها أجهزة استخبارات متقدّمة. من ناحية أخرى، ثبت إمكان التلاعب والتأثير واستهداف الرأي العامّ عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وتكفي العودة في هذا الإطار إلى التقارير المنشورة حول استفتاء "بريكست" وحول اتهام روسيا في التدخّل بالانتخابات الرئاسية الأميركية التي سبقت ولاية ترامب الأولى كي نتبيّن أنّ تلك الأدوات باتت جزءاً من الأمن السيبراني القومي لدى الدول، علماً أنّ هذه الأمثلة سبقت ظهور الذكاء الاصطناعي كما هو شائع اليوم.
في النتيجة، ليس ضرباً من الخيال ولا بعداً من العقلانية الافتراض بأنّ البيئات الحاضنة للمقاومة على امتداد العالم اليوم قد تكون مستهدفة بغرض التعرّف إلى اتجاهاتها وسماتها النفسية والاجتماعية والسياسية، وتحليلها ووضع خطط لإضعافها في إطار الحرب على الوعي والإدراك والحرب النفسية.
قطعة من "إسرائيل"
خلال منتصف أيلول/سبتمبر الماضي توقّف مراقبون ووسائل إعلام أمام عبارة غير مألوفة أدلى بها بنيامين نتنياهو. علامات استفهام كثيرة أحاطت بتلك العبارة التي وردت أثناء مخاطبة رئيس وزراء العدو وفداً من الكونغرس الأميركي في القدس المحتلة حينما سأل الحضور: "هل لديكم هواتف محمولة؟ أنتم تحملون قطعة من إسرائيل بين أيديكم".
بعد ذلك بنحو الشهر ونصف الشهر فاجأ رئيس الموساد الإسرائيلي السابق يوسي كوهين محاوره حينما تحدّث عن عمليات تلاعب بالأجهزة قامت بها "إسرائيل" في أكثر من دولة على غرار أجهزة البيجر، وقال: "لقد قمنا فعلاً باختراق سلاسل التوريد لجميع الدول التي يمكن أن تتخيّلوها، ولا يمكنكم أن تتصوّروا حجم الأجهزة والمعلومات الاستخباراتية التي نملكها في هذه الدول".
بمعزل عن مدى الدقة التي ينطوي عليها كلا التصريحين، فإنّ ما لا جدال فيه هو موقع "إسرائيل" المتقدّم في مجال التقنيات الرقمية والأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. أتاحت لها إمكاناتها بمساعدة أميركية تطوير أدوات مراقبة قادرة على اختراق الهواتف الذكية وتوظيفها في التعقّب وجمع البيانات من خلال التطبيقات والأدوات التي تحتويها، الأمر الذي يعيد استحضار خطاب السيد حسن نصر الله خلال شباط/فبراير 2024 عندما وصف الهاتف الخلوي بالعميل القاتل داعياً آنذاك إلى الاستغناء عنه في أوساط المقاومين وعائلاتهم، خصوصاً في القرى الأمامية، وفي كلّ الجنوب إذا أمكن.
تنبيهات حول إمكانات "إسرائيل"
تفادياً للوقوع في بروباغندا العدو والالتزام في الوقت نفسه في المقاربة العلمية الرصينة، تبغي الإشارة إلى أنّ تصريح نتنياهو جاء في سياق التباهي بالإسهامات الإسرائيلية في مجالات الهواتف الذكية والزراعة وصناعة الدواء ككلّ، وهي العناوين التي أراد من خلالها مخاطبة الرأي العامّ الإسرائيلي ضمناً والترويج لاقتدار "إسرائيل" وصعوبة عزلها عن العالم. إلا أنّ مضمون ما حمله التصريح، حول الهواتف الذكية تحديداً، أشعل تنبيهات حول مغزاه وحقيقته، وإذا ما كان يندرج في إطار المبالغة والتسويق السياسي أم أنه يعكس حقيقة تقنية.
لا يفيد في هذا الإطار الاستغراق كثيراً في استعراض أبرز ما طوّرته "إسرائيل" في مجال اختراق وتوظيف الهواتف الذكية بغرض جمع البيانات. بات معروفاً أنها تستثمر بشكل واسع في الذكاء الاصطناعي لأغراض أمنية وعسكرية، بما في ذلك تحليل الصور والمراقبة عبر الطائرات المسيّرة وأنظمة التعرّف إلى الوجوه، إضافة إلى ما كشفته فضيحة برنامج "بيغاسوس" التابع لشركة NSO Group، التي يمكن إدراجها في سجل أكثر أدوات التجسّس الإلكتروني إثارة للجدل قبل ظهور الذكاء الاصطناعي.
تبقى عبارة نتنياهو غير مألوفة إلى درجة استدعت التوقّف عندها من قبل وسائل إعلام عربية تتناغم مع السردية الإسرائيلية والحرب النفسية الصهيونية، وبعضها مرشّح للانضمام إلى مسيرة الاتفاقات الإبراهيمية، كما توقّف عندها إعلام أجنبي وأعاد ربطها بنفوذ "إسرائيل" في عمق البنى التقنية العالمية وما يترتّب على ذلك من مخاوف على صعيد الخصوصية والأمن، وسوابق "إسرائيل" في ما يتعلق بقضية بيغاسوس وغيرها.
نظام المكافأة في الدماغ
لا تهدف هذه المقاربة إلى تقديم حلول وتوصيات حول هذه المسألة بقدر ما تبحث عن أجوبة حول أسباب الإدمان على الهواتف الذكية وصعوبة التخلّي عنها لدى شرائح اجتماعية واسعة. من هذا المنظور يتخطّى الموضوع بيئة المقاومة ودوائرها ليطال كلّ مستخدمي الهواتف الذكية على اختلاف مشاربهم.
إنّ محاولة إقران استخدام الهاتف بداية بالسلوك السلبي يتنافى مع حقيقة الخدمات والوظائف التي يؤدّيها والفوائد التي يوفّرها. لكنّ هذا السياق مخصص فقط للتطرّق إلى جوانبه السلبية التي تتجلّى في عدم القدرة على الابتعاد عن الهاتف والقلق الناتج من هذا الابتعاد، حتى في الأوقات التي لا يحتاج فيها المرء إلى هاتف.
معالجة هذا الإدمان ومحاولة معرفة أسبابه وجذوره ليست بالسهولة التي قد يبدو عليها. حتى اليوم، ليس هناك إجماع على صحة توصيف "الإدمان" المرتبط باستخدام الهاتف. في الأوساط العلمية والسلوكية ما زال النقاش مفتوحاً حول ما إذا كان من الجائز استخدام مصطلح "إدمان" لكلّ سلوك مفرط. بدلاً من ذلك ترى أوساط متخصصة في علم النفس أنه من الأفضل استخدام مصطلحات مثل "سلوك مفرط" أو "سلوك إشكالي" أو "اعتماد سلوكي".
وفي حين أنّ مفهوم الإدمان معترف به في حالات سلوكية محدّدة مثل القمار، فإنّ بعض الأنشطة التي تتسم بالإفراط ومن ضمنها استخدام الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي ما زالت قيد الدراسة.
في كلّ الأحوال ثمّة ما يجمع كلّ هذه الأنماط السلوكية اليومية والمتكرّرة سواء أطلق عليها إدمان أو توصيفات أخرى، فهي جميعها تُغري الدماغ بالمتعة السريعة من خلال آلية عصبية تتمحور حول تنشيط نظام المكافأة في الدماغ.
يعتمد هذا النظام كيميائياً على مادة الدوبامين، وهي المسؤولة عن تكرار الفعل الذي منح المستخدم لحظة من المتعة أو الإثارة أو التفاعل الاجتماعي. مع الوقت، يتراجع التحكّم الإرادي ويحلّ محلّه سلوك قهري لا يمكن مقاومته بسهولة.