حرب العراق 2003: عشرة دروس في العلوم السياسية

الفجوة الثقافية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية كبيرة جداً، بحيث وقف العراقيون في بداية الحرب تجاه الأميركيين موقف الشك والارتياب، وسخر كثيرون منهم من موقف هؤلاء الجنود الذين وضعوا أقدامهم لأول مرة في بلدهم.

  • حرب العراق 2003: عشرة دروس في العلوم السياسية
    حرب العراق 2003: عشرة دروس في العلوم السياسية

يقول المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، في تغريدة له: "يمكن أن يتحول العراق إلى قصة نجاح غير متوقعة، فالحرب تصنع الدولة، والدولة تصنع الحرب"، فهل فعلاً أن العراق تحوَّل بعد مرور 20 عاماً على بدء الحرب إلى قصة نجاح، بحيث تصادف هذا الشهر الذكرى العشرون لبدء العمليات العسكرية الأميركية في حرب العراق عام 2003، بل الأهم: هل الحرب تصنع الدولة؟

وخصوصاً إذا كانت هذه الحرب تعيش الجدل في الداخل الأميركي نفسه قبل غيره، وهل كان هذا النموذج الديمقراطي، الذي صُمِّم، كفيلاً بنجاح تجربة فريدة في الشرق الأوسط. كثيرة هي الأسئلة والمحاور والجدليات التي تجعل حرب العراق عام 2003 أهم مورد للعلوم السياسية لتطبيق نظريات الحرب والسلام فيه.

لم توضع هذه الحرب بعدُ في متحف الذاكرة، لكون عواقبها ما زالت قائمة في المنطقة والعالم، إلى وقتنا الراهن، على رغم مرور منطقة الشرق الأوسط في كثير من التحديات والأحداث، بدءاً من خريف العرب، إلى "الدولة" الافتراضية لـ"داعش". وانعكست تلك الحرب بكل أبعادها على النظام، إقليمياً ودولياً.

والأدهى أن حرب عام 2003 ما زالت تمثل فرصة للمراجعة، لكنها تفتقد المراجعة الحقيقية العربية وحتى العراقية، بينما ما زالت أكبر مراكز الدراسات الأميركية تُجري المراجعات المستمرة، بحيث وقع بين يدي مؤخراً كتاب الأكاديمي الأميركي Robert D. Kaplan المعنون The Tragic Mind: Fear, Fate, and the Burden of Power، والذي يتراجع فيه عن دعمه حرب العراق، واصفاً ما حدث بالفوضى، ومستشهداً بالقول المأثور "عام من الفوضى أسوأ من مئة عام من الاستبداد"، على رغم أن نظام صدام يمثّل أيضاً فوضى تتنكر في شكل نظام.

ولعلّ أبرز الدروس المستقاة في هذه الحرب، بعيداً عن جدل أسبابها، الذي يمثل موضوع الطاقة، أو الحصول على النفط، أو تغيير النظام الديكتاتوري، أو أسلحة الدمار الشامل، مجرد لافتات لا تستحق أن تكون هي الأسباب الحقيقية للحرب، من وجهة نظري. لندخل الآن في ساحة أبرز دروس العلوم السياسية:

الأول: أيّهما أفضل: النظام أم الفوضى؟

على رغم أني لا أؤمن شخصياً بمقولة المستبد العادل، بحيث لا يجتمع الاستبداد والعدل، فإن الحرب أظهرت أن فوضى الحرب قد تكون أكثر قسوة من الاستبداد. وحين تتعارض قيم العدالة والحرية مع قيم السلام والنظام، يجب أن تكون الرؤية متناصفة على نحو يحقق الاتجاهين، بحيث يشير الأميركي مارتن كابلان إلى أن القياس بين الفوضى والطغيان هو عملية مفاضلة بين سلعتين، وقبول السلعة الأقل جودة بدلاً من السلعة التي قد تكون الأجود لولا أنها تأتي مصحوبة بالفوضى، بل كما يقول عالم الاجتماع العراقي، الدكتور فالح عبد الجبار، ومفاده أن ما أوصلنا إلى ما نحن فيه هو وجود فكرة المستبد العادل، لأنك عندما تقول "مستبد" فقد سقطت عنه صفة العدل، لأن الصفتين متضادتان، فعندما تنهار الأنظمة وتعجز الدولة عن القيام بواجباتها فإن العامة تبحث عن حل وهمي، في حين أن المفترض أن يكون البحث عن مؤسسة، وليس مجرد فرد.

جذور هذا التوجه الاستبدادي في الشرق الأوسط، يُرجعها البعض إلى متاهات الفكر السياسي العربي والإسلامي، بحيث ما زالت نخبة الغرب ترى أن العرب والشرقيين غير مستعدين للديمقراطية، كما يقول برنارد لويس، وفحواه أن "الديمقراطية ليس لها تاريخ ولا سجل على الإطلاق في العالمين العربي والإسلامي، لذلك فهم ببساطة ليسوا جاهزين لانتخابات حرة ونزيهة". لكن العراق كانت له حصة من خمسة مواسم انتخابية، وأصبح لديه دستور دائم، لكن المشكلة ليس بكونها شعوباً غير قابلة للتفاعل مع الثقافة الديمقراطية بقدر ما أن التصميم السياسي أو الهندسة السياسية للمشروع لا تتلاءم مع هوية العراق وبيئته، بحسب اعتقادي.

الثاني: فهم الهوية يعني فهم الدولة 

يبقى السؤال: هل فهمت واشنطن بغداد قبل الحرب وبعد الحرب؟ أم كان هناك القليل من الفهم لهوية المجتمع العراقي وتركيبته من الأقليات الدينية والعرقية المتعددة، وكيف يمكن أن تتأثر هذه الهويات بالسياسات لتغيير النظام والدمقرطة من أعلى إلى أسفل. هذا النقص في فهم الهوية له تاريخ طويل في العراق، ويرتبط مباشرة ببناء نظام الدولة من جانب القوى الخارجية. 

في عام 2002، بعد مضي عام على خطاب الرئيس بوش بشأن ما سمّاه محور الشر، التقى الرئيس بوش ثلاثة أميركيين من أصل عراقي. ومع عرضهم توقعاتهم بشأن ما سيؤول إليه الوضع في العراق بعد الحرب، كانوا يشيرون إلى السنّة والشيعة، إلّا أنه اتضح لهم أن هذين المصطلحين لم يكونا مألوفين لدى الرئيس بوش، فأمضى الثلاثة جزءاً من وقت الاجتماع في شرح وجود طائفتين رئيستين في الإسلام.

وهكذا، قبل شهرين من إصداره الأمر للجنود الأميركيين بدخول البلاد، لم يكن يبدو أن الرئيس كان على علم بالشق الفاصل بين العراقيين، والذي كان العنصر المحدد لتاريخ البلد ولسياسته (بيتر و. غالبريت، "نهاية العراق: كيف تسبب القصور الأميركي في إشعال حرب لا نهاية لها"، ترجمة أياد محمد، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2007، ص 97-98). 

لكن يبدو أن لجهل الهوية العراقية تاريخاً في هذا السياق. وحتى الملك فيصل، الذي كان البريطانيون عملوا معه في إبان الثورة العربية، كان ونستون تشرشل يعرف القليل ويفهم الأقل عنه. وبينما كان يستعد لتقديم بيان إلى البرلمان بشأن نتائج تسويته الكبرى للشرق الأوسط، طلب تشرشل من مساعده في وزارة المستعمرات (في 14 حزيران/يونيو 1921) أمراً يبعث على الدهشة، ويبيّن جهله المطلق للشؤون العراقية، جهلاً رافق تلك الشؤون منذ ذلك الحين: (دعني أحصل على ملاحظة مكتوبة من ثلاثة أسطر عن الطابع الديني في شخصية الملك فيصل، فهل هو سني لديه ميول شيعية؟ أم أنه شيعي لديه ميول سنية؟ أو كيف يوفق بينهما؟ ومن هو والده الحسين؟ أيهما هو الكنيسة الأرستقراطية الأعلى، وأيهما هو الكنيسة الأرستقراطية الأدنى؟ ومن هم المتدينون في كربلاء؟ إنني أخلط دائماً بين هاتين الطائفتين). وهكذا نتصور أن أزمة العراق الأميركي والبريطاني، لو صح التعبير، تكمن في قصور فهم الهوية العراقية الخاصة من جانب الأميركيين والبريطانيين. 

الثالث: الديمقراطية غير قابلة للتصدير 

وفق سياق المدرسة البنيوية، فإن التغيير في العراق لم يترك أثره فقط في مشهد النظام السياسي فحسب، لكن انعكس على الأبعاد الداخلية بعد فورة الهويات المحبوسة في بوتقة السلطة السياسية، بحكم الترابط الوثيق بين السياسات المحلية والخارجية. وبحيث إن التغيير ركز على البنى الفوقية، ولم يدخل البنى التحتية لثقافة الجمهور، فإنه ولّد أبعاداً عكسية جعلت للنموذج الأميركي للعراق الجديد أثراً عكسياً في دول المنطقة، حتى أصبح اتجاهاً عربياً ثقافياً عائماً ضد الثورة، أو كابحاً للتغيير القسري، وساهم في تشكيل النظام الإقليمي الجديد، أو تحريك الفواعل الإقليمية. 

ولأن البناء الديمقراطي لا يمكن صناعته في الخارج ليوضع في الصيدليات السياسية للتطبيق في الدول، بل تمثل الديمقراطية سلوكاً وفلسفة وثقافات تحتية في البنى الاجتماعية، قبل أن تكون شكلاً من أشكال تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البنى الاجتماعية الفوقية، لذا فإن كل الكتابات باتت تتحدث عن كوارث التغيير والانتقال من مرحلة الديكتاتورية والاستبداد إلى مرحلة الديمقراطية، وأنها مرحلة انتقالية جداً تصاحبها تحولات كبرى، أقرب إلى هزّات عنيفة وارتدادات حادة لكل الأسئلة المجتمعية التاريخية، التي تستحضر مدلولات الدولة – الأمة.

الرابع: الهندسة السياسية للدول 

إن الثُّلاثية المتلازمة لبناء الدول (الدستور، النظام السياسي، الثقافة السياسية للجمهور)، اعتمدت قاعدتها الأساس على تحول فلسفة الديمقراطيّة وجوهرها إلى سلوك مجتمعي شائع لا يقتصر على المؤسسات السياسية ومفاهيم التداولية. وتشير أيضاً إلى أمراض الانتقال من أمثال العنف المجتمعي، المراهقة السياسية، فقدان الثقة بالشركاء، التهديد بالانقلابات، ديكتاتورية مبطنة، الإرهاب، فضلاً عن التدخلات الخارجية.

ما لا شك فيه أن تفكك الأنظمة الديكتاتورية وانهيارها هما لحظة حاسمة ومفرحة لكل الشعوب، لكن الحذر معهما مطلوب، كما يعبر عن ذلك الباحث الأميركي جين شارب Gene Sharp في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطيّة: إطار تصوري للتحرر"، والذي يؤكد أنه حتى مع النجاح في تفكيك النظام الديكتاتوري وإزالته من خلال التحدي السياسي عبر إجراءات وقائية، إِلّا أنه لا ينتهي موروث تلك الحقبة بكل سهولة. ولهذا، لا يمكن لأبرز المتفائلين الحديث عن ظهور مجتمع مثالي وقياسي بعد الانهيار في مختلف الصعد.

لذلك، ينصح بأن على قادة القوى التي تدعم الديمقراطية أن يكونوا على استعداد مسبق للتحول المنظم إلى الديمقراطية، ثم بناء الأسس الدستورية والقانونية ومعايير السلوك لديمقراطية قوية. لذلك، لا يجب أن يعتقد أحد أن مجتمعاً مثالياً سيظهر فور سقوط النظام الديكتاتوري، لكون الديمقراطية تمثل نقطة البدء، والتي تحتاج إلى جهود طويلة الأمد لتطوير المجتمع وتلبية حاجات الأفراد الإنسانية بصورة أفضل، وسوف تستمر المشاكل السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية مدة طويلة. 

الخامس: الانتصار العسكري لا يعني الفوز

ثمة مسؤولية أخلاقية أميركية تجاه العراق في مرحلة ما بعد الحرب، لا يمكن التنصل منها، سواء من جانب الجمهوريين أو الديمقراطيين. ولنتصور أن الأمور وصلت إلى حد غير معقول من التنافس الداخلي الأميركي بشأن العراق، وإن كان ضحيتَه قبل الانسحاب الأميركي، فلقد شهد العراق عقب حرب عام 2003 تنافساً حاداً بين الخارجية الأميركية والبنتاغون، بحيث كانت الإدارة تفتقر إلى التنظيم إلى درجة أن وزارة الدفاع الأميركية (التي كان بول بريمر يعمل لحسابها كما كانت مسؤولة عن إعداده) لم تخبره بوجود دراسة معدة من وزارة الخارجية بشأن حكم عراق ما بعد صدام، بل كان سيسمع عنها عبر وسائل الإعلام بعد مدة من وصوله إلى بغداد، حيث كانت وزارة الخارجية جمعت سابقاً فريقاً من الخبراء للتخطيط للعراق ما بعد الحرب.

لقد كانت للبنتاغون خطط أخرى، وهي بالتأكيد لا تشمل وزارة الخارجية الأميركية، فلقد وقع العراق ضحية هذا التنافس بين أقطاب الإدارة الأميركية. ولهذا، وإن خططت من أجل التغيير العسكري، فإنّ عدم دراسة وضع ما بعد الحرب لا يعني أن المعركة حُسمت وانتصرت.

السادس: الديمقراطية فلسفة أم نموذج؟ 

الديمقراطية تنبع من أصل فهم السياسة بكونها فنّ المراجعة اليومية أو النقد الذاتي، بحيث لا يمكن التعويل على البناء الديمقراطي من خلال المؤسسات فقط، بل من خلال تحوله إلى مؤسسة سياسية وثقافة جماهيرية تنسجمان في إطار مشترك عبر الحكم الرشيد، ولا يفهم أن المشكلة الكبرى تكمن في الشعوب، فالشعوب، كما يقول غوستاف لوبون Gustave Le Bon، في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير"، هي مثل الأكواب، تستطيع أن تملأها بالخل أو أن تملأها بالزيت، لكن المشكلة في أزمة الثقافة السياسية التي تعانيها الشعوب التي تمر في المراحل الانتقالية، والتي تصور كل ما يجري من عدسة فقدان الثقة.

الديمقراطية في المجتمعات الانتقالية لن تنجح إلّا وفق شرطها وشروطها، فلا حديث عن ديمقراطية من دون وجود مؤسسات حقيقية عبر قضاء مستقل وشفاف وجامعات علمية رصينة، وتنشئة اجتماعية، لتمكين هوية وطنية راسخة في القيم المجتمعية، لكون الخوض في التمرين الديمقراطي للوصول إلى بناء الدولة المؤسساتية أو الدولة التنموية التي يعمل فيها رجال الاقتصاد تحت مظلّة الدولة، كما يقول المفكر العربي الراحل، سيد ياسين، في القاهرة، والتي رأى فيها أن عصر الديمقراطية النيابية انتهى بلا رجعة.

وبالتالي، فإن الديمقراطية لا تعني في أي شكل من الأشكال جوهر صناديق الاقتراع، وإن كان صندوق الاقتراع أُس الديمقراطية، لكنه لا يكفي وحده لتحقيق القبول الاجتماعي، وتأسيس الدولة القوية التي يكون عمادها العقد الاجتماعي المستقر، والمجتمع المدني المزدهر، فما فائدة أن يكون لدينا صحف بلا صحافة، وبرلمان بلا رقابة وتشريع، وجيش بلا عقيدة، وجماهير بلا وعي، وأحزاب بلا برامج، ثم نسأل عن بناء الدولة.

السابع: التغيير من الخارج 

ما زالت الحرب بمثابة صدمة للداخل الأميركي حتى وصفها جوزيف ناي بأنها كانت بمثابة نهاية اللحظة الأحادية القطب وسقوط الهيمنة الأميركية، بل فشل التوسيع الديمقراطي جعل هذا الدرس قاسياً أمام الإدارة الأميركية، وتحديداً اتضح في ذلك موقف واشنطن تجاه أزمتي سوريا وأوكرانيا، والتحول من نظرية القيادة إلى القيادة من الوراء، بل التحول من مقادير الكثافة العالية للحضور في العراق وغيره في مسرح الشرق الأوسط إلى حضور منخفض، أبرزه الانسحاب من العراق نفسه، ثم أفغانستان لاحقاً، وأخذها أدواراً شبه مدروسة في ليبيا وسوريا.

الثامن: هل الحرب نتاج الليبرالية أم لا؟ 

ثمة فكرة طُرحت سابقاً في العلوم السياسية، مفادها أن الحرب ابنة الليبرالية أو نتاجها، وروّجها فريق كبير من الأكاديميين، مثل جون ميرشايمر وستيفن والت وغيرهما. وكان هذا الفريق ناقداً علناً للحرب بكونها نتاج دوافع السياسة الخارجية الأميركية الليبرالية. وتحديداً، فإن حرب العراق جزء من نزعة التوسع الليبرالي، وفي سياق أجندة ويلسونية لتغيير كل من الأنظمة القمعية، مؤكدين أنها سوف تصنع الفوضى، بينما يميل التفسير الواقعي إلى أنه يجب أن يكون هدف الحرب هو المحافظة على المصلحة الأميركية، وتوسيع نطاقها في منطقة المصالح القومية الأميركية، ومنها روايات المحافظين الجدد وتفسيراتهم، بينما ترى مدرسة أخرى أن الحرب في العراق هي بمثابة نزاع داخلي بين الواقعيين بقدر ما هي صِدام بين الواقعية والليبرالية. 

التاسع: الثقافة جزء من الحرب 

إن الثقافة جزء أساس من أي حرب لصناعة الفهم المتبادل، مثلاً في هندسة المشروع الذي قامت به الإدارة الأميركية لمحاربة تنظيم "القاعدة" في العراق، عبر ما سُمِّي آنذاك مشروع الصحوات في المناطق الغربية في العراق، وكانت البداية الأولى لظهور مجالس الصحوة في أواخر عام 2006 في محافظة الأنبار.

ربما نجح فيها هذا المشروع في محاربة الإرهاب، لكنه لم يستمر، بسبب عدم فهم الهوية والهندسة الاجتماعيتين للطبيعة العشائرية العراقية، ناهيك بأن استراتيجية الجيش الأميركي غير قادرة على محاربة الجيوش غير النظامية، وهو الأسلوب الذي كانت تتبعه الجماعات المسلحة.

وعليه، فإن هذا الابتكار ليس بالجديد، وهو فكرة مستوحاة من حرب فيتنام، عندما شكل الأميركيون ما عرف آنذاك بالقرى الاستراتيجية، التي امتدت على طول الحدود الفاصلة بين فيتنام الجنوبية وفيتنام الشمالية، بمشاركة الفلاحين والعمال، فكان الحل تشكيل جماعات مسلحة لمواجهة تلك الهجمات وفق الأسلوب نفسه، ومن البيئة نفسها، وخططها الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية آنذاك، لكن كانت حالة من عدم السيطرة، عبر جدلية أن من يستطيع أن يحمل السلاح ضد الجماعات قد يتحول مع تلك الجماعات، وهذا ما انعكس لاحقاً في حرب احتلال الموصل من جانب تنظيم "داعش" في حزيران/يونيو 2014.

إن الفجوة الثقافية بين العراق والولايات المتحدة الأميركية كبيرة جداً، بحيث وقف العراقيون في بداية الحرب تجاه الأميركيين موقف الشك والارتياب، وسخر كثيرون منهم من موقف هؤلاء الجنود الذين وضعوا أقدامهم لأول مرة في بلدهم. ووفق وجهة نظرهم، فإنّ الجنود الأميركيين يجهلون الأعراف والعادات المحلية.

فعلى سبيل المثال: هم لا يدركون ماذا تعني النساء المحجبات، ولا بشأن الاستماع إلى الموسيقى بصوت عالٍ جداً في سياراتهم المصفحة عند المرور من أمام المساجد والأماكن المقدسة. فضلاً عن ذلك، يبدو أن الجنود الأميركيين مقتنعون بأن العراق، الذي سمعوا عنه قليلاً، بلد ناطق بالإنكليزية، منذ حقبة الانتداب البريطاني، لكن العراق في الواقع ليس في ذلك من شيء. والسؤال المهم الذي يطرحه الأميركيون: كيف في الإمكان توطيد الأمن في بلد ما دمنا لا نفهم سكانه؟ وكيف تنجح عملية نشر الديمقراطية إذا كان هناك كثير من الأفكار المسبَّقة والخاطئة من الجهتين ثقافياً؟

وكجزء أساس من فهم الهوية، مثلاً اللغة، كشفت مجموعة من الدراسات لوضع العراق في تقرير بيكر هاملتون عام 2006 أنه بعد ثلاثة أعوام من وجود الأميركيين في العراق، هناك فقط 33 موظفاً من أصل 1000 موظف يعملون في السفارة الأميركية في العراق، لديهم بعض المعلومات عن اللغة العربية. وكان يبدو من بينهم 6 موظفين فقط يتحدثون بها بصورة صحيحة.

وليست فقط حرب العراق. يمكننا أن نقرأ حرب فيتنام في هذا الاتجاه أيضاً. كانت حرب فيتنام أكثر الهزائم العسكرية مذلة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، بحيث لم يكن يتصور أحد أن تخسر قوة عظمى في "بلد صغير متهور"، كما وصفه الرئيس الأميركي ليندون جونسون.

واجه الأميركيون قلة فهم أسس الشعب الفيتنامي وثقافته في كل من الشمال والجنوب، ودرجة الحساسية تجاه الوجود الأجنبي، مع عدم فهم الهوية والأيديولوجية الماركسية، والطابع القومي الفيتنامي، والمجهر الاجتماعي للهوية الفيتنامية وطبيعة الصراع فيه، مثلاً دور الأقلية الصينية في فيتنام. فهذه الأقلية تُعرف باسم هواHoa ، وتمثل نسبة قليلة من السكان، لكنها تسيطر على السوق والصناعة والتجارة.

ولهذا، فإن طبقة الرأسماليين هناك لم تكن من الفيتناميين الأصليين. وبالتالي، فإن خبراء صنع القرار في السياسة الخارجية الأميركية لم يدركوا الجانب الاجتماعي للهوية الفيتنامية، وحينما حاولوا الحصول على تعزيز الرأسمالية في فيتنام، ساهمت تلك السياسة في انقلاب الرأي العام الفيتنامي ضد الولايات المتحدة الأميركية.

في المقابل، ساهمت تلك السياسات في تعزيز نفوذ الأقلية الصينية هناك. في المقابل، كانت الفكرة الأساس في التفكير الأميركي منع الانتشار الشيوعي في دول آسيا، وفق نظرية الدومينو، بل إن السياسات التي اتّبعتها الولايات المتحدة الأميركية في مدينة سايغون كانت تتركز على دعوة الفيتناميين الجنوبيين إلى أن يقاتلوا ويقتلوا إخوانهم الشماليين من أجل إبقاء الأقلية الصينية غنية، وهذا كان واحداً من أهم أسباب فشل السياسة الأميركية في فيتنام، وعدم فهمها الهويات فيها .

العاشر: الخيال السياسي 

ما زال العراق، وفق الصورة الأميركية، لا يخرج عن كونه يعيش التغيير من صيغ المشروع الأميركي في العراق من النموذج الليبرالي إلى النموذج الحربي، ومن نموذج قطع الدومينو الذي سيكون الأنموذج الديمقراطي المغيّر لخريطة الشرق الجديد، ليتحول إلى العبء التاريخي بعد إنفاق ثلاثة تريليونات دولار، فضلاً عن الخسائر البشرية من الجنود الأميركيين، ليكون ساحة تصفية للخلافات أو القضاء على التنظيمات الإرهابية باستخدام طائرات من دون طيار، كما يصوره بعض صنّاع القرار الأميركي، وعبّر عن مشاكل العراق بأنها تشبه البصلة المعبّر عنها في المثل لا تعالج مصفوفة من المسائل حتى تتكشف لك مصفوفة أكثر عمقاً تستدعي الاهتمام بها. وكما يقول الجنرال الأميركي مايكل جونز، "التقدم يعني مشاكل جديدة وليس انتفاء المشاكل".

وعلى المستوى الداخلي الأميركي، البعض ينظر إلى حرب العراق على أنها خطوة "جمهورية" كلفت الولايات المتحدة الكثير، وكانوا ينظرون إلى النخبة السياسية العراقية كنتاج لسياسة الجمهوريين، أو أن العراق أصبح جزءاً من إيران، كما تتصوره الإدارة الأميركية، وتتشارك معها عدة دول عربية، بسبب الخيال السياسي والتصور الخاطئ بين أميركا والعراق بحكم أعوام طويلة من الانقطاع نتج منها عدم إدراك للهوية العراقية وطبيعة خصائصها. فخريطة البحوث في مراكز الدراسات (Think Tanks)، ما زالت تظلم العراق في دراستها من خلال ادّعاء عدائية مكوناته للدول المحيطة به، متجاهلةً بذلك حقيقة التركيبة المستقلة للمجتمع العراقي.

ربما إن حرب العراق ستنتج وستفاليا جديدة في الشرق الأوسط، عبر صياغة نظام إقليمي من حلال مفاوضات جادة، تعالج المعضلات الأمنية، وتبرز فيها لغة الاعتراف المتبادل بالسيادة المتكافئة بين الدول.