كيف كان الشهيد نصر الله سيداً عند الولي الفقيه؟
خطاب نتنياهو يؤكد واقعاً لطالما أنكرته السردية المناوئة التي سعت إلى صبغ المقاومة في لبنان بأنها مجرد ذراع لإيران.
-
الشهيد نصر الله يعبّر عن نموذج مقاومة، تتشارك مع إيران في الأهداف، لكنها تحتفظ بهويتها.
ليست المرة الأولى التي يشير فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية إلى دور السيد حسن نصر الله وموقعه السابقين ضمن منظومة المقاومة في المنطقة.
أواخر العام الماضي ذكر بنيامين نتنياهو أن شهيد الأمة كان هو من يستخدم إيران لا العكس، معرباً عن ذهوله من شخصه الذي كان بمنزلة "محور المحور" بحسب تعبيره.
في خطابه الأخير أشار نتنياهو إلى أنه اطّلع على تقارير استخبارية خاصة عن نصر الله قبل اغتياله، واستنتج بأنه الرجل الثاني في المحور بعد خامنئي. قال حرفياً: "يجب أن أعترف، بأن نصر الله هو من كان يستغلّ إيران لا العكس".
بعض المواقع الإلكترونية الموجّهة ضد المقاومة في لبنان أغفلت هذه العبارة بالتحديد في وقت أوردت فيه كل خطاب نتنياهو الذي تباهى فيه بإنجازاته العسكرية وبعملية البيجر ضد حزب الله. هل من المتوقع أن يقوم أعداء المقاومة وخصومها، وما يتفرع عنهم من منصات وشاشات، بعكس ذلك؟
الاستخدام اللفظي
على امتداد سنوات قامت إحدى ركائز الخطاب المعادي للمقاومة على اعتبارها مرتهنة وتابعة ومجرد ذراع للسياسة الإيرانية في المنطقة. السيد الشهيد نصر الله، في معرض نفيه لهذه التهم، كان يبتسم أحياناً، فيما نفى السيد خامنئي أكثر من مرة أن يمثّل هذا الادعاء حقيقة العلاقة التي تجمع طهران بأصدقائها.
استند خطاب المناوئين من بين جملة أمور إلى ما كان السيد نصر الله يقرّ به علناً، بأن تمويل حزب الله ودعمه مصدرهما إيران، متحدياً إياهم أن يصرّحوا في المقابل عن مصادر تمويلهم. كما قام المناوئون بتوظيف ارتباط حزب الله بوشائج عقائدية مع نظام ولي الفقيه في إيران من أجل تسويق فكرة التابعية، وأحياناً كان يجري استثمار بعض الزلات في مواقف مسؤولين إيرانيين لخدمة هذا الهدف، إضافة إلى ما لم يُخفِه الحزب من رغبة في الإسهام بتحرير فلسطين انطلاقاً من قناعات عقائدية وأخلاقية وإنسانية وسياسية، الأمر الذي يتقاطع مع أهداف إيران المعلنة.
سردية مناوئي المقاومة لم تنفصل بأي حال عن أدبيات السياسة الخارجية لواشنطن والخطاب الرسمي الأميركي الذي دأب على وصف الحزب بأنه "وكيل إيران" في المنطقة. هذا الاستخدام اللفظي ليس عشوائياً، بل يستند إلى اختيارات لغوية دقيقة ومدروسة بحيث يرتبط استخدام المصطلحات، بأهداف السياسات المتعلقة بالمنطقة، ويتجلى ذلك من خلال العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على حزب الله، والتي تصنفه منظمة إرهابية ووكيلاً للنظام الإيراني.
قطع السياقات
محاولة صبغ المقاومة في لبنان بأنها مجرد ذراع لإيران وأداة من أدواتها في المنطقة هي أيضاً نافلة في الخطاب الإسرائيلي.
تماهت مع هذا التوجّه فضائيات عربية معروفة، ووجدت صداها داخل لبنان في أوساط سياسية وإعلامية، انطلاقاً من حسابات تغلب عليها الاصطفافات العابرة للحدود والمصلحة الخاصة والتكسّب وأحياناً التعصّب الأعمى والشوفينية، في بلد لطالما عُرف على مرّ تاريخه الحديث بأنه يخضع لحكم القناصل، وقادر على إثارة الدهشة بما يتمتع به من خصوبة في إنتاج طامحين إلى احتراف السياسة كتجارة.
لا يعني ذلك تخوين أو اتهام أي حزب أو مواطن أو طرف لبناني قد يختلف مع الحزب لأسباب مختلفة ومتعددة، كما لا يعني تنزيه الحزب عن النقد والمساءلة وعن الأخطاء، فهذا إضافة إلى كونه حقاً مشروعاً هو في الوقت نفسه ضرورة، وواجب أحياناً. إنما، ينبغي في هذا السياق الفصل بين انتقاد ناجم عن تباين طبيعي في الآراء والثقافة والسلوك، وبين الرفض الجذري للحزب انطلاقاً من وظيفته الدفاعية ودوره المقاوِم.
عندما ينحصر الحديث عن دور الحزب في المقاومة، لا ينفصل الضخ الإعلامي الساعي إلى استتباع الحزب لإيران، عن مشروع تشويه وتوهين المقاومة كمفهوم وفكرة وتوجه وإرادة وقناعة وعزم. يتوجّه هذا الضخ إلى أوساط الرأي العام العربي واللبناني، كما يستهدف بيئة المقاومة وجمهورها بالاعتماد على برامج وجهود ليست إعلامية فقط، إنما أيضاً نفسية وفكرية وسياسية واقتصادية وثقافية تتسم بالطابع الناعم غير المباشر.
من هذا المنطلق ليس متوقعاً من مناوئي المقاومة ومن مقاولي المواقف الكفّ عن محاولة نزع الهوية اللبنانية عن الحزب، وعن مواصلة إنكار خطر المشروع الصهيوني على دول الجوار قبل الإقليم، أو مناقشة سلاح المقاومة انطلاقاً من مصلحة لبنانية وطنية بحتة تأخذ بعين الاعتبار نقاط القوة والضعف بالنظر إلى خطورة الأوضاع التي تحيط بلبنان، وعلى رأسها المشروع التوسعي الإحلالي الصهيوني، والمستجدات التي حدثت في المنطقة.
إن السردية التي بُنيت على استتباع المقاومة وانتزاعها من سياقها التاريخي والمحلي ليست جديدة. عندما تجعل هذه السردية المقاومة مجرد ذراع، فإنها تغيّب عن قصد الموقف الإنساني الحر في رفض الاحتلال ومجابهة مشروعه وطموحاته، وهو الموقف الذي عبّر عنه مواطنون في مشارق الأرض ومغاربها منذ "طوفان الأقصى"، كما تغيّب عامل الجوار الجغرافي الذي وضع المشروع الصهيوني على تخوم جنوبي لبنان ما جعل بلد الأرز منذ عام 1948 عرضة لسلسلة اعتداءات واجتياحات متكررة، وأسهم بشكل مباشر في نشأة حزب الله وتطوره لاحقاً.
اختزال الوقائع
لنفترض أن هناك تأثيراً من إيران تجاه حزب الله، هل يلغي ذلك المطامع والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وعلى أهالي الجنوب وحاجتهم إلى ردع فعّال؟ وما هو البديل من ذلك؟
لوقت طويل تغافلت السردية المُضللة عن طرح أي بديل، وفي حال فعلت كما يحدث في الآونة الأخيرة (بعدما باتت المواقف أكثر جهاراً ووضوحاً نتيجة المستجدات المعروفة)، فإن خطابها لم يتعدَّ حدود التسطيح الذي يلائم تماماً اختصارات واختزالات وسائل التواصل الاجتماعي، فيما نتنياهو يذهب أبعد من ذلك حينما يقول: "علاقة نصر الله بإيران كانت بخلاف ما اعتقدت، فهو غير تابع لها ولطالما أثر فيها وتلاعب بها أكثر بكثير مما تلاعبت به...".
بدلاً من مفاهيم الاستلحاق والاستتباع هل يعد ضرباً من التفكير الخيالي أو من المبالغة تصوّر وجود علاقة طبيعية تقوم على التخادم والتكامل بين حلفاء فيهم بطبيعة الحال طرف أقوى من الآخر؟ هل يتعذّر ذلك على قواعد العلوم السياسية وعلى أبسط بديهيات العلاقات الدولية والسياسية التي لولاها لم يكن لينشأ مفهوم الأمن الجماعي، والأمن المشترك ومن بينها مفهوم الأمن العربي المشترك؟
في هذه الحال، ألا يصبح من الطبيعي أن تقوى بحليفك وأن تضعف بضعفه، خصوصاً إذا كان جزءاً من مواردك يعتمد عليه؟
في معرض ردّه على خصوم المقاومة في الداخل اللبناني عندما كان يجري اتهامها بأنها مجرد تابع لإيران، كان السيد نصر الله يشير إلى أن هؤلاء يتصورون أن علاقة حزب الله بإيران تشبه علاقتهم بالدول والأنظمة التي يتواصلون معها.
المفارقة أنه بينما يتخذ بعض الأطراف في لبنان موقفاً من المقاومة ومن إيران تماهياً مع مواقف غربية وخليجية، فإن في إيران من يتخذ موقفاً تجاه دعم حركات المقاومة في المنطقة.
تقتضي الصراحة القول إن مناوئي المقاومة (بالحد الأدنى عدم الحماسة لها) لا يتوزعون على امتداد الإقليم وفق خرائط محددة ومحاور محكمة التقسيم. كان هذا الأمر يصحّ في سوريا في زمن النظام السابق وما زال سارياً في زمن النظام الحالي، وهو محل اختلاف داخل العراق، وهو أمر واقع داخل فلسطين بين مسار أوسلو ومسار البندقية، وهو مهيمن في لبنان الذي لم يشهد يوماً في تاريخه إجماعاً على فكرة المقاومة وجدواها، أما في اليمن فالمفارقة أن الطرف الذي يدعم فلسطين ويساندها ويتحمّل التضحيات والأكلاف نظير ذلك، يُحارب في الداخل من قبل "حزب الإصلاح" المحسوب على الإخوان المسلمين، الجماعة التي تنتمي إليها حماس.
وكما في أطراف المحور كذلك في طهران، ليس هناك إجماع شعبي على دعم حركات المقاومة في المنطقة، بغض النظر عن حجم التباين إزاء هذا الملف ونسبة المؤيدين والمناوئين له. وفيما تنبع الحاجة ضمن فصائل المقاومة العربية إلى تقديم خطاب يشرح ويفنّد طبيعة العلاقة مع إيران وأهميتها وفائدتها رداً على الدعاية الموجهة، فإن مثل هذه الدعاية والقناعات وجدت طريقها إلى أوساط شرائح اجتماعية داخل إيران تنادي بضرورة التخلص من أعباء الإقليم، ولا سيما في ضوء العقوبات والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تطبق على البلاد، ما يجعل مواطنيها أولى بالأموال والمساعدات التي تذهب إلى فلسطين ولبنان وغيرهما من دول المنطقة، بحسب المعترضين.
هذه السردية استدعت بالمثل الحاجة إلى خطاب داخلي إيراني يشرح أن أهداف الثورة لا تتنافى مع أهداف الدولة، وأن في دعم منظومة المقاومة في المنطقة مصلحة لإيران الدولة كما لإيران الثورة.
من هذا المنطلق يصبح استمرار طهران في دعم المقاومة رغم الظروف والضغوط الداخلية والخارجية التي تتعرض لها مدعاة تقدير من شعوب المنطقة وليس تهمة، ولا يغيّر في هذا الأمر أن مؤسسات الدولة في إيران وسياستها الخارجية تستفيدان أحياناً من وجود مقاومة قوية ومقتدرة في المنطقة.
أكثر من مرة ذكر السيد نصر الله عبارة: "نحن سادة عند الولي الفقيه". أنكر خصوم المقاومة وأعداؤها في لبنان وخارجه ذلك، لكن ألدّ أعداء المقاومة وصاحب القرار في اغتيال نصر الله يعود ليؤكد للمرة الثانية أن نصر الله كان "سيداً عند الولي الفقيه".
خطاب نتنياهو يؤكد واقعاً أنكرته السردية المناوئة وهو أن سيد شهداء الأمة كان يحظى بمكانة رفيعة واحترام خاص من قبل القيادة الإيرانية، وبخاصة المرشد الأعلى علي خامنئي. هذه المكانة لا تقوم على الارتهان وعلى منطق النفعية الضيّق أو على الابتزاز الذي يطبع على سبيل المثال السياسة الأميركية تجاه حلفائها، كما باتت تدلّ الشواهد على ذلك، وأكثرها وضوحاً تجلى منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. عوضاً عن الارتهان، كانت مكانة السيد نصر الله تتمحور حول علاقة تكامل وتخادم، مثّل فيها طرفاً فاعلاً ومؤثراً، انطلاقاً من احترام متبادل وقيادة مشتركة في مواجهة المشروع الصهيوني والتحديات الإقليمية المشتركة.
الشهيد نصر الله باعتباره كان "سيداً عند الولي الفقيه" يعبّر عن نموذج قيادة مقاومة، تتشارك مع إيران في الأهداف، لكنها تحتفظ بهويتها الوطنية والإقليمية الخاصة، وهذا ينطبق أيضاً على حماس وعلى أنصار الله في اليمن.