نقلة نوعية للثالوث النووي الهندي بعد غواصة "Arighaat"

وضعت الهند عام 2016 خطة للحصول على غواصات عاملة بالطاقة النووية، وقادرة على إطلاق الصواريخ الباليستية والعابرة للقارات، ضمن برنامج التحديث البحري "ATV"، كهدف رئيسي لإكمال الثالوث النووي الخاص بها. 

  • عبور نيودلهي عتبة عالم
    عبور نيودلهي عتبة عالم "الغواصات النووية".

دشنت البحرية الهندية أواخر الشهر الماضي ثاني غواصاتها العاملة بالطاقة النووية، تحت اسم "Arighaat"، لتدخل بذلك رسمياً في الخدمة لدى سلاح الغواصات الهندي، في خطوة لا ترتبط فقط بالتحديثات التي طالت سلاح البحرية الهندي خلال السنوات الأخيرة، بل ترتبط أيضاً بمساعي نيودلهي لتحسين تموضعها الحالي على المستوى النووي العسكري، ولتكمل بهذه الخطوة -عملياً - "الثالوث" النووي الخاص بها.

تطوير سلاح الغواصات الهندي كان من الشواغل الأساسية لقيادة الجيش في نيودلهي خلال السنوات الماضية، بالنظر إلى التطور الواضح في مستوى الغواصات الصينية، وكذلك مسير باكستان على طريق تطوير ترسانتها من الغواصات. حتى عام 2016، تضمنت قوة الغواصات التابعة للبحرية الهندية ما مجموعه 18 غواصة عاملة بالديزل والكهرباء، أحدثها كانت الغواصات فرنسية المنشأ من الفئة "Kalvari"، والتي تعد النسخة الهندية من فئة الغواصات الفرنسية "Scorpene".

تمتلك نيودلهي من هذه الفئة 6 غواصات. وقد وقعت عام 2005، مع شركة "Naval Group" الفرنسية، عقداً لتطويرها وتحديثها. وتم منذ عام 2017 وحتى العام الماضي تحديث 5 غواصات منها، في حين يتوقع أن تنتهي عمليات تحديث الغواصة السادسة أواخر العام الجاري. 

تضاف إلى هذه الغواصات 4 غواصات هجومية ذات منشأ ألماني غربي، تحت اسم الفئة "Shishuman"، و8 غواصات هجومية ذات منشأ سوفياتي، تحت اسم الفئة "Sindhughosh"، وهي فئة مشتقة أساساً من تصميمات الغواصات الهجومية السوفياتية "Kilo".

كانت الملاحظة الأساسية في ما يتعلق بكل هذه الغواصات -رغم خضوعها لعمليات تحديث مكثفة -ترتبط بأن تسليحها يركز على الصواريخ الجوالة والصواريخ البحرية، مثل "هاربون" و"أكسوسيت" و"كاليبر"، من دون أن يكون لها أي دور في ما يتعلق بالاستراتيجية النووية الهندية التي كانت حتى وقت قريب ترتكز على محورين فقط، هما الضربات النووية الجوية والصواريخ العابرة للقارات، مع غياب للضلع الثالث في "الثالوث النووي"، ألا وهو القدرة على إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات من تحت سطح الماء.

عبور نيودلهي عتبة عالم "الغواصات النووية"

خلال العام نفسه - 2016 - وضعت الهند خطة للحصول على غواصات عاملة بالطاقة النووية، وقادرة على إطلاق الصواريخ الباليستية والعابرة للقارات، ضمن برنامج التحديث البحري "ATV"، كهدف رئيسي لإكمال الثالوث النووي الخاص بها. 

تمت تسمية هذه الفئة الجديدة من الغواصات باسم "Arihant"، وشرعت الأطقم الهندية في التدرب على عمليات تشغيل الغواصات النووية، عبر استئجار غواصة روسية عاملة بالطاقة النووية من الفئة "AKULA" عام 2012، تعمل حالياً تحت اسم "INS CHAKRA" كمنصة لتدريب الأطقم البحرية الهندية، بحيث تعمل على متن العدد المستهدف بناؤه من غواصات الفئة "Arihant"، وهو 4 غواصات.

التصميم الأساسي لهذه الفئة يتضمن بدناً بطول 111 متراً، وعرض 11 متراً، وغاطس 15 متراً، وإزاحة كلية تبلغ 6000 طن، وطاقم يبلغ 95 فرداً. أما على مستوى المفاعل النووي الخاص بهذه الفئة، فهو مفاعل عامل بالماء المضغوط، تبلغ قدرته الكلية 83 ميغاواتاً، ويسمح للغواصة بتحقيق سرعة قصوى تبلغ 28 كيلومتراً في الساعة على سطح الماء، و44 كيلومتراً في الساعة تحت السطح.

في ما يتعلق بتسليح هذه الفئة من الغواصات، فقد اعتمد التصميم الأساسي لها، بجانب وجود 6 خلايا لإطلاق صواريخ الدفاع الجوي، وكذا القدرة على إطلاق الطوربيدات، على وجود 4 أنابيب للإطلاق العمودي للصواريخ البالستية، تسمح بإطلاق 4 صواريخ عابر للقارات من نوع "K-4" يتراوح مداها بين 3500 و4000 كيلومتر، وهي صواريخ عاملة بالوقود الصلب، وتمتلك قدرات نووية، أو 12 صاروخاً باليستياً قصير المدى من نوع "K-15"، وهي صواريخ ذات مرحلتين تعمل بالوقود الصلب، يصل مداها الأقصى إلى 750 كيلومتراً، ويمكن تذخيرها برؤوس نووية.

في الوقت الحالي، تمتلك البحرية الهندية رسمياً غواصتين من هذه الفئة، الأولى هي الغواصة "Arihant"، التي بدأ بناؤها عام 2004، وتم إطلاقها في تموز/يوليو 2009، ونفذت تجارب الإبحار بين عامي 2014 و2016، لتدخل الخدمة بشكل رسمي في آب/أغسطس 2016.

أما الغواصة الثانية "Arighaat"، فقد بدأ بناؤها عام 2009، وتم إطلاقها أواخر عام 2017، وخضعت لتجارب الإبحار بين عامي 2018 و2021، قبل أن تدخل الخدمة بشكل رسمي أواخر الشهر الماضي. وقد شابت عمليات بنائها تأخيرات عدة، جعلت عمليات اختبارها للإبحار تتأخر 3 سنوات عن الموعد المحدد. وتعدّ هذه الغواصة أول نموذج مكتمل بشكل عملياتي من غواصات هذه الفئة، إذ ينظر إلى الغواصة الأولى "Arihant" من منظور أنها غواصة ذات تصميم مؤقت يُمكن إدخال التحسينات إليها مستقبلاً. لهذا، تعد الغواصة الثانية المدشنة حديثاً "Arighat" الوسيلة التي دخلت نيودلهي من خلالها إلى عالم الغواصات النووية.

تعمل البحرية الهندية حالياً على تنفيذ تجارب الإبحار الخاصة بالغواصة الثالثة من هذه الفئة، وتسمى "Aridaman"، إذ بدأت هذه التجارب أواخر عام 2021، ويتوقع أن تدخل الخدمة بشكل رسمي مطلع العام المقبل، في حين تجري حالياً عمليات بناء الغواصة الرابعة من هذه الفئة، وتمت تسميتها بشكل مؤقت باسم "S4". النقطة الهامة في ما يتعلق بالغواصتين الثالثة والرابعة أن تصميمهما تم تعديله، بحيث سيتم تزويدهما بمفاعلات نووية ذات قدرات أكبر تسمح بزيادة إزاحتهما الكلية إلى 7000 طن.

كما تمت إطالة البدن الخاص بهما، ليسمح بزيادة أنابيب الإطلاق الصاروخي من 4 إلى 8، ليصبح تسليح الغواصتين المقبلتين من هذه الفئة مكوناً من 24 صاروخاً باليستياً من نوع "k-15" أو 8 صواريخ عابرة للقارات قصيرة المدى من نوع "k-4". ويتوقع أن تمتلك الغواصات الجديدة من هذه الفئة القدرة على إطلاق الصواريخ العابرة للقارات الجاري تطويرها حالياً، ويمكن إطلاقها من تحت سطح الماء، وهي الصاروخ "k-5"، وهو صاروخ باليستي ثلاثي المراحل، يستخدم الوقود الصاروخي الصلب، ومن المخطط أن يبلغ مداه ما بين 5000 و6000 كيلومتر، وكذلك الصاروخ "k-6"، وهو صاروخ بالستي عابر للقارات، من المخطط أن يبلغ مداه ما بين 10000 و12000 كيلومتر.

الغواصات النووية الهندية من منظور استراتيجي

من حيث الشكل، تعد هذه الفئة من الغواصات واحدة من أخف فئات الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية في العالم، إذ تبلغ إزاحتها 6000 طن فقط، كما تتسم بأقصر مدى اشتباك من أي نوع من الغواصات القادرة على حمل صواريخ بالستية، إذ لا يتجاوز مدى صواريخ "K-4" في أفضل الأحوال 3500 كيلومتر، وهذا كان دافعاً أساسياً للبدء بتطوير صواريخ بالستية عابرة للقارات، لتمكين البحرية الهندية من امتلاك القدرة على الاستخدام الفعال لقوة غواصاتها النووية في المستقبل، لكن في الوقت الحالي توفر صواريخ "K-15" تغطية لمعظم مناطق باكستان، في حين تغطي صواريخ "K-4" كل الأراضي الباكستانية، كما يمكن لها أن تستهدف العاصمة الصينية، فقط إذا تمركزت في أقصى نقطة في خليج البنغال.

من حيث المضمون، يمكن النظر إلى دخول نيودلهي إلى مجال الغواصات النووية من اتجاهين أساسيين، الأول يرتبط بعمليات التحديث الجارية منذ فترة في سلاح البحرية الهندي - الذي يضم حالياً حاملتي طائرات، و12 فرقاطة للصواريخ الموجهة، و12 مدمرة للصواريخ الموجهة، و12 سفينة إنزال برمائي - والتي لا تشمل سلاح الغواصات فحسب، بل تشمل أفرع سلاح البحرية كافة، إذ تعمل نيودلهي حالياً على بناء 64 سفينة متنوعة، وتخطط لامتلاك ما بين 155 و160 سفينة حربية جديدة بحلول عام 2030، على أن يصل هذا العدد إلى 175 سفينة بحلول 2035. ولعل من أبرز أمثلة عمليات التحديث التي تمت أو التي تجري حالياً، إدخال حاملة الطائرات "Vikrant" إلى الخدمة في أيلول/سبتمبر 2022، لتصبح ثاني حاملة طائرات تمتلكها الهند.

الاتجاه الثاني يرتبط بمساعي نيودلهي لإكمال المنظومة النووية الخاصة بها، إذ يمثل امتلاك الهند غواصات نووية حاملة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات ذات الذخيرة النووية خطوة أساسية يكتمل بموجبها الثالوث النووي الخاص بها، فالهند تمتلك حالياً نحو 172 رأساً نووياً، وكانت حتى عام 2003 تمتلك منه ضلعاً واحداً فقط، وهو الجناح الجوي، عبر امتلاكها 16 مقاتلة من نوع "MIRAGE-2000H" و32 مقاتلة من نوع "JAGUAR"، تمتلك جميعها القدرة على تنفيذ ضربات باستخدام ذخائر نووية.

امتلكت نيودلهي بعد هذا التاريخ القدرة على تنفيذ ضربات نووية باستخدام صواريخ عابرة للقارات، سواء من خلال سلسلة صواريخ "PRITHVI" قصيرة المدى التي يتراوح مداها بين 150 و600 كيلومتر، أو عائلة الصواريخ العابرة للقارات "AGNI" التي يتراوح مداها بين 700 و8000 كيلومتر. وتعمل نيودلهي حالياً على تطوير نسخة جديدة من هذا النوع يصل مداها إلى 12 ألف كيلومتر.

من منظور استراتيجي، يمكن النظر إلى التحركات الهندية في الإطار النووي في إطار محاولة خدمة عدد من الأهداف، منها منافسة البحرية الصينية، ومحاولة مواكبة التطور المتسارع الذي تحرزه بكين في هذا الصدد، ومحاصرة واستباق الجهود الباكستانية في مجال التحديث البحري، ورفع مستوى القوة البحرية الهندية لمواكبة طموحات نيودلهي على المستوى البحري، والتي تستهدف إيجاد دوائر نفوذ في الممرات البحرية التجارية الاستراتيجية وتأمين استمرارية "حالة الردع النووي" الهندية.

في الخلاصة، يمكن القول، رغم أهمية الخطوة الهندية الأخيرة بشأن دخول ثاني غواصاتها النووية إلى الخدمة، إن أهمية هذه الخطوة لن تتبلور بشكل كامل إلا في حالة تم إدخال الصواريخ العابرة للقارات "K-5" و"K-6" إلى الخدمة الفعلية، لأنها ستمثل إضافة إستراتيجية تجعل من الممكن للهند الاستفادة بشكل فعال من قدرات غواصاتها النووية، ناهيك بأن العدد الحالي للصواريخ الذي يمكن أن تحمله الغواصتان النوويتان الحاليتان في البحرية الهندية يمثل عدداً ضئيلاً جداً، وهو الوضع الذي سيتحسن مستقبلاً مع دخول الغواصتين الإضافيتين اللتين تتسمان بتصميم محسن وتسليح أكبر.