الآن سنُطفئ الضّوء حتى لا يرى البيت كيف نُغادره

تُجمع غالبية الذين خرجوا أو تهدّمت بيوتهم في لبنان أنّها ليست أثمن من أرواح الرجال الذين يقاتلون للدفاع عنها وعن أرضهم وأرواح الناس، "كلّها أضرار جانبية أمام حركة الشباب بأمان وحريّة، من دون أن يقلقوا علينا ويخافوا من استهدافنا".

0:00
  • الآن سنُطفئ الضّوء حتى لا يرى البيت كيف نُغادره
    الآن، سنُطفئ الضّوء حتى لا يرى البيت كيف نُغادره

لم تخرج غالبية النازحين في لبنان من بيوتها والطرق سويّة أمامها. كانت الأجساد تهرع تحت النار برؤوس تنظر إلى الخلف ويلفحها هواء مُعاكس. لم يؤرّق القصف الإسرائيلي من كل الاتجاهات لحظات توديع النازحين لمنازلهم. بمقدار هذا التعلّق كان الألم، فجِلدة الناس هنا منصهرة بأمكنتها، وبالحيّز الجغرافي الذي عاشوا فيه وحملوا صفاته. 

منذ صباح يوم الاثنين لم تهدأ حمم النار الإسرائيلية على قرى وبلدات جنوب لبنان والبقاع، بالإضافة إلى غارات متفرقة في ضاحية بيروت الجنوبية، ما اضطرّ الناس للخروج إلى أماكن أكثر أمناً. فشهدت البلاد، ولا تزال، حركة نزوح كثيفة غالبيتها كانت نحو العاصمة بيروت وجبل لبنان والشمال. في وقت لا يزال هناك عدد كبير من المواطنين في مدنهم وبلداتهم تحت النار، إما لقرار ذاتي منهم بالصمود ورفض الخروج، أو لعدم توفّر أماكن بديلة، بسبب الضغط الكبير على مقارّ النزوح أو الطلب لاستئجار البيوت.

يتشابه مشهد الخروج الكبير مع مشاهد حرب تموز عام 2006، حينها، كانت الناس تعلم قبل أي شيء أن العودة ليست احتمالاً، إنما هي قرار، ولو على أنقاض البيوت، لأن منازل الجنوبيين والبقاعيين وأهالي الضاحية الجنوبية لبيروت ليست بسقوف آمنة وألفة متراكمة في قلوبهم وحسب، إنما هي الموقف الثابت، الدعامة الصلبة، الـ"لا" المتينة، في وجه النار والقتل ومحاولات كسر أرواح راكمت حقداً عميقاً وثأراً يطول. ثم "نحن بالجنوب منقول: راجعين، ما منقول: معقول ما نرجع!"، تؤكد ساحرة فقيه.

"البيوت؟ أديش عزيزة وغالية البيوت؟ بس بعمرها ما كانت أغلى من الشباب"، تقول فاطمة عيسى، وتضيف: "في كتير عالم تركت بيوتها بالجنوب، وتركت مفاتيحها بالأبواب. في نسوان طبخت وتلّجت الأكل وعبّت قناني الغاز قبل ما تفل، وفي نسوان فتحت خزاين المونة اللي موّنتها". تحكي فاطمة عن بيتها الذي غادرته أول مرّة، ثم عادت إليه في المساء، لتضطرّ في الصباح للخروج بسبب اشتداد القصف من حولهم. لكنها حتى اللحظة لا تزال مُصرّة على لحظة هدنة واحدة حتى تعود. تصف الجنوب كلّه على أنه كتلة واحدة ينتمي إليها الناس، لأنّ توحّد الهدف اليوم في هذه البقعة الجغرافية، ووجودها عند الحدود مع فلسطين، يعزز فيها انتماء رحباً وأوسع.

تُجمع غالبية الذين خرجوا أو تهدّمت بيوتهم أنّها ليست أثمن من أرواح الرجال الذين يقاتلون للدفاع عنها وعن أرضهم وأرواح الناس، "كلّها أضرار جانبية أمام حركة الشباب بأمان وحريّة، من دون أن يقلقوا علينا ويخافوا من استهدافنا"، تقول مريم النازحة من ضاحية بيروت الجنوبية إلى منطقة المدينة الرياضية. تتحدث وهي تنظر بطرف عينها إلى نازحة تجلس في جوارها وتمسك بيدها، في محاولة لتهدئتها من قلق الأخبار غير الدقيقة التي تصل عن أحبابها في الجنوب، قائلة: "ابحثوا عن تاريخ كل بلدة من البلدات التي تتعرض للقصف الآن، ستجدون فيها تاريخاً مشرّفاً في القتال والمقاومة. ابحثوا عن أسماء رجالنا الشهداء وستعلمون بقيّة الحكاية. كل هذا الحقد مصبوب على من ينتزع اليوم الاعتراف المسلوب منهم، هم لا يقاتلوننا سوى لأننا نُهدّد بقلّتنا وجودهم، وهذا ما يستفزّهم".

في كلّ مرّة يستهدف الاحتلال البيوت يهرع أصحابها مباشرة إليها، كأنها باتت منابر لصرخة واحدة وأبدية: "فدا المقاومة". على الرغم من الألم، ومن دقّة اهتمام الناس بأصغر تفصيل من تفاصيل بيوتها، من صناعة الذكريات، تخزين الأصوات، النداءات الاستثنائية بكلّ عائلة، رائحة الطعام خلف النار وتندّر الأطفال عن الطبخة، تشييد الجنائن، حرث الأرض وحصاد خيرها، مواسم الزيتون، والماء الملتمع تحت أشعة الشمس لغسل الديار، لكن كل ذلك "يهون" حين تكون هي الفدية عن المُهج الفريدة. يكتب الشاعر والأكاديمي محمد ناصر الدين عبر فيسبوك: "اليوم هدموا بيتنا يا مهدي، سووه بالأرض. هذا بيت جدك مهدي محمد ناصر الدين، بناه بالتعب وعرق الجبين حجراً حجراً، ووردة وردة نثرتها نورا في الحديقة.. ستهدمون بيوتنا للمرة الألف وسنعمرها، سنعمّر مرجوحة الأطفال، ومكتبة البيت، والسطيحة التي نودّع منها الأحبّة ونستقبلهم. فداء للجنوب، ولمن يذودون عنه، البيت والروح والمهج".

لا يكتفي الناس الذين يغادرون بيوتهم استثنائياً أو أبداً بعد هدمها بمواساة أنفسهم بذلك، بل يُحوّلون الفقد إلى اعتراف حميميّ بالحق. الحق الممتلئ بالتضحيات، فيُفرحهم أنهم باتوا من أهلها، أكثر من مجرد الاعتراف الكلاميّ بذلك. يقول الكاتب والباحث حسام مطر في فيسبوك: "هذا منزلي ومنزل إخوتي في بلدة اللوبية، دمّره طيران العدو. وسام كبير وعظيم منحنا إياه العدو الغبي. الآن، أكثر ثباتاً وثقة وعزاً منذ أي وقت مضى.. نواسي ببيتنا المدمر أهلنا وشعبنا وفداء لناسنا وقضيتنا وللمقاومة وأبطالها وسيدها... شخصياً، صرت بقدر شوي (شوي ما كتير) أحكي عن الصمود بلا ما كون مكبّل بالخجل".