النمو البطيء يضغط على المجتمعات: الفقر يرتفع والفوارق تتسع
يحذّر تقرير صندوق النقد الدولي من أن تباطؤ النمو العالمي إلى 3.2% في 2025 قد يتحول إلى أزمة اجتماعية عميقة، مع ارتفاع البطالة، وضغط متزايد على الحماية الاجتماعية، واتساع للفوارق في الدول النامية.
-
النمو البطيء يضغط على المجتمعات: الفقر يرتفع والفوارق تتسع
نشر صندوق النقد الدولي في تشرين الأول/أكتوبر تقريره "World Economic Outlook October 2025" تحت عنوان فرعي: "الاقتصاد العالمي في حالة تَغيُّر، وما زالت الآفاق قاتمة". وهو يُشير إلى أن النمو الاقتصادي العالمي يرتقَب أن ينخفض إلى 3.2% عام 2025 ثم إلى 3.1% عام 2026، بعد أن بلغ نحو 3.3% في 2024. أما في الدول النامية التي كانت تعرف نمواً أعلى، فيُتوقع أن يبقى النمو فوق 4% فقط.
لكن التأخير أو البطء في النمو يحمل في ثناياه تداعيات اجتماعية عميقة، من فرص العمل والبطالة إلى الضغط على أنظمة الحماية الاجتماعية، ومن تفاقم الفوارق إلى تبلور إحباط جيل كامل.
والجانب الأكثر لفتاً للانتباه في أبعاد مضامين هذا التقرير هو النظر إلى هذه التحدّيات من منظور اجتماعي، إذ يمكن للتحوّل الاقتصادي البطيء أن يولّد أزمات اجتماعية، أكثر من كونه يعتبر مؤشراً عن أرقام اقتصادية صرفة.
المعطيات الرئيسية للتباطؤ
بحسب التقرير، يتباطأ النمو العالمي بعد التعافي من صدمات ما بعد الجائحة، لكن بوتيرة غير كافية لإحداث تحوّل نوعي في مستويات معيشة الشعوب. وفيما تواجه البلدان المتقدّمة نمواً ضعيفاً (≈1.5-1.6%)، تبقى البلدان النامية عند نحو فوق 4% فقط من النمو.
من جهة المخاطر، يشدّد الصندوق على أن "عدم اليقين بات هو الوضع الطبيعي الجديد"، وأن الحوافز الاقتصادية العالمية ما زالت عرضة لصدمات، مثل الحروب، التغييرات التكنولوجية، والحمائية التجارية.
وقد رفع الصندوق توقعاته الطفيفة للنمو في 2025 إلى 3.2 %، بيد أن هذا التحسّن لا يخفّف من حقيقة أن النمو أقل مما هو مطلوب لإحداث تغيّر هيكلي. من هذه المعطيات يتبيّن أن النموّ المترنّح أصبح واقعاً وليس احتمالاً، ومعه تطرح التساؤلات الكبيرة، والمخيفة الآن، حول الأبعاد الاجتماعية لهذا الواقع، وكيفية تأثيرها على المجتمعات، خصوصاً في العالم الجنوبِي والدول النامية.
أولوية فرص العمل والبطالة
إن أحد أبرز التأثيرات الاجتماعية للنموّ البطيء هو نقص توليد فرص العمل. ففي الدول النامية، لا يكفي النمو عند 4% عادة لاستيعاب الزيادات السكانية، والتوسّع في دخول سوق العمل، والتحوّل من العمل الزراعي أو غير الرسمي إلى وظائف مأجورة ذات إنتاجية أعلى.
ذلك أن تباطؤ النمو، يؤدي إلى تراجع الاستثمار من القطاعين الخاص والعام، ويُبطَئ تحسّن البُنى التحتية (وهي أساسية لتحسين البيئة الاستثمارية)، ويمنع القطاع الخاص من توسيع قدراته. وهذا يعني في تداعياته غير البعيدة أن الشباب يدخلون سوق العمل بتوقعات عالية، لكن الواقع يكون محبطاً.
ثم إن هذه المعطيات، ترسّخ البطالة أو بالحد الأدنى التشغيل غير اللائق، وزيادة العمل الهش أو الاقتصاد غير الرسمي، ما يضع حداً لقدرة التعليم والتدريب على تحويل رأس المال البشري إلى وظائف منتجة.
وإذا عجز النموّ عن خلق وظائف كافية، فإن ذلك ينعكس على مستويات الفقر، على الأجور، وعلى الإحساس الاجتماعي بالإنصاف والمشاركة، وهو ما يُنبّه إليه تقرير الصندوق من خلال تأكيده أن النموّ الحالي أقل مما نحتاج.
الضغوط على أنظمة الحماية الاجتماعية
في هذا المنحى، يضع تأخّر النمو أنظمة الحماية الاجتماعية، التي غالباً ما تكون هشة أصلاً في دول الجنوب أو البلدان الناشئة، تحت ضغط مضاعف. فعندما لا يكفي النمو لتوسيع قاعدة الموارد الضريبية أو الإيرادات العامة، تتراجع قدرة الحكومات على تمويل شبكات الأمان: الرعاية الصحية، التأمينات، معاشات كبار السن، برامج الإعانة والدعم، والخدمات الأساسية.
إلى ذلك، غالباً ما تعمد الحكومات إلى سياسات تقشّف أو إعادة توجيه الإنفاق إلى أولويات رقابية أو ديون خارجية، وهو ما يقلّص قدرة الدولة على تلبية الانتظارات الاجتماعية، مما يضعها في مأزق شرعية، يفضي بدوره إلى خلل في الانتظام السياسي، وفي حالاتٍ كثيرة إلى إضعاف الاستقرار العام، خصوصاً أن هذه التطورات تحدث في بيئة غير مثالية في تلك الدول التي تعاني من أزمات مركبة، في غالب الأحيان.
إن الضغوط على الحماية الاجتماعية تعني أن الفئات الأكثر هشاشة ستجد أن المعالجات التي كانت تبدو احتياطية أو استثنائيات، قد أصبحت أساسية، لكنها غير مُمَوَّلة كفاية أو يتأخر تنفيذها. وهذا يزيد من التفاوت الاجتماعي والتهميش، ويولد شعوراً بأن النمو لا يخدم الجميع.
تفاقم الفوارق الاجتماعية والجيوبوليتيك الاجتماعي
يبطيء النموّ المترنّح الواقع الاقتصادي برمته، وهو يُعدّ محفّزاً لتفاقم الفوارق. من جهة، الفئات ذات الموارد أو الوصول الأفضل إلى التعليم والتدريب تتمكّن من انتهاز فرص أفضل، بينما الفئات الهامشية، ومنهم النساء، الأرياف، الأقليات والشباب، فتبقى محرومة أو معرضة لأشكال أكبر من البطالة أو الدخل المنخفض.
عندئذٍ، لا تكتمل أركان الانتقال الاجتماعي التي يعدّها التعليم أو التدريب المهني، بل تُحجم وتتقلص. ويُصبح النموّ ليس وسيلة لاحتواء التفاوت بل عاملاً في اتساعه. من الناحية الجغرافية للتوزيع الاقتصادي، فإن الفوارق الداخلية بين المدن والريف، أو بين الجنسين، وبين الأجيال... أو بين بلدان الجنوب والشمال، تشكّل مدخلاً لتوتر اجتماعي، وربما لاضطرابات سياسية. ويشير التقرير الجديد لصندوق النقد إلى أن بقاء الانتعاش ضعيفاً يُضخّم المخاطر، لأن الأزمات لا تنتج بالضرورة انكماشاً كبيراً فقط، بل أيضاً ركوداً مطولاً ينهك الشبكات الاجتماعية.
المستقبل في خطر
وفي خضم ذلك، يكون الشباب هم الفئة الأكثر تأثراً بهذا النمو البطيء، مع تأخر تسجيل دخولهم سوق العمل، أو اضطراب مساهمتهم في عملية الإنتاج. ولا تكون البدائل كافيةً أو مرضية، ما يدفعهم بالضرورة إلى البطالة أو إلى الاشتغال في الاقتصاد غير الرسمي أو بأجور منخفضة، وهذا يعني أن التعليم والمهارات التي دفعت فيها موارد ثمينة (وأحياناً شحيحة) قد لا تستثمر بالكامل، ما يؤدي إلى استنزاف أجيالٍ متوالية، وضياع طاقات كثيرة منها.
وإذا نظرنا إلى جانب آخر من هذه القضية، فإننا نرى أنّ المؤسسات الاجتماعية (الأسرة، المجتمع المدني، الدولة) قد تفقد قدرتها على تضمين هؤلاء الشباب؛ مما يرفع احتمال مشاركتهم في الحركات الاحتجاجية أو الميل إلى الهجرة أو العمل غير الشرعي.
النمو تحت مستوى الترقي الاجتماعي الطبيعي
في السياق التنموي، كانت دول الجنوب تحتاج إلى نموّ أسرع لتحقيق قفزات نوعية في التنمية. ومع هذه التقديرات السلبية، تجد نفسها الآن محاصَرة بآفاق غير مشجعة، بينما كانت نسب أعلى قابلةً لتوجيه رسائل مبشرة لتلك الدول. وهذا يعني أن الفجوة التنموية مع الدول المتقدمة أو حتى بين مناطق داخل البلد الواحد، لن تُغلَق، بل إنها قد تتسع.
ويضعف النمو البطيء أيضاً قدرة الحكومات على الاستثمار في البُنى التحتية الأساسية، وتحسين التعليم، وتوسيع الحماية الاجتماعية، وهو ما ينعكس مباشرة في المؤشرات الاجتماعية: الفقر، الهشاشة، الفوارق، الصحة، والتعليم. فتصبح السياسات التنموية مجرد إدارة للتدهور بدلاً من تحقيق انتقال اجتماعي سلس مبني على التعليم وبناء القدرات.
ومن جهة أخرى، فإن هذا البطء في النمو يعزّز اعتماد الدول على الإنتاج الأولي أو الموارد الخام، بدلاً من قفزات التصنيع أو الاقتصاد المعرفي، ما يُشوّه إمكانات الاقتصاد الاجتماعي، ويحدّ من فرص العمل ذات الإنتاجية العالية.
مفارقة دالّة: النمو الاقتصادي والاجتماعي ليسا مترابطين آلياً
ومن المهمّ تأكيد أن النمو الاقتصادي ليس تلقائياً مترادفاً بتحسّن اجتماعي شامل؛ فالبنية التي يُحقَّق ضمنها النمو (أي نوعية الاستثمار، توزيع المكاسب، تكامل السياسات الاجتماعية والتعليم والصحة) هي التي تحدد الأثر الاجتماعي. وإذا كان النموّ ضعيفاً، ففرص إصلاح هذه البنى تتقلّص.
التقرير ذاته يشدّد على أن السياسات التي تدعم التعليم، البحث، البُنى التحتية، الحوكمة والابتكار هي "مسار أقل كلفة" من الاعتماد على سياسات صناعية تقليدية بحتة. وفي غياب هذه السياسات، يصبح النموّ البطيء عاملاً مهدّداً للتماسك الاجتماعي أكثر منه عامل تمكين.
لذلك، فإن تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري حيوي لأي سياسات عامة ناجحة، وفي ظروف نموّ بطيء، يصبح الاستثمار في التعليم والتدريب المهني والتحول نحو مهارات المستقبل أمراً جوهرياً. لكن ينبغي أن يقترن بتوجيه خاص نحو الفئات الشابّة الهشة، والمعرّضة للبطالة أو للانتقال السلبي.
ثم إن إصلاح أنظمة الحماية الاجتماعية يدخل أيضاً مساحة الضرورة الحاسمة، ومع نمو ضعيف ليس بإمكان الحكومات الاعتماد على توسّع الموارد الضريبية الكبيرة. لذلك يجب تحسين كفاءة الإنفاق الاجتماعي، استهداف الفئات الأشد هشاشة، وتركيز السياسات على شبكات الأمان التي تمنع الانزلاق الاجتماعي أو الفقر المزمن.
وهذا ما تؤكده أرقام صندوق النقد في تقرير آخر صدر أيضاً في أكتوبر، هو "Fiscal Monitor October 2025"، وفيه تشديد على "إنفاق أكثر ذكاء"، كخيار ضروري في هذا الظرف.
ومن الحلول المفيدة في هذا السياق أن يزيد الاهتمام بسياسات تشغيل نشِطة للشباب، تتجاوز الفكرة التقليدية حول خلق الوظائف، لتشمل تدريباً، دعم ريادة الأعمال، تسهيل انتقالهم من التعليم إلى العمل. كما ينبغي أن تضع السياسات عينها على المناطق المحرومة والريفية، وعلى الفئات التي تعاني نقصاً هيكلياً في الوصول إلى الخدمات.
وفي هذه الأحوال، يصبح من الضروري تحقيق نمو نوعي، أي تحسن الإنتاجية، الابتكار، الاقتصاد الأخضر، الاقتصاد الرقمي.. ما يسهم في خلق فرص عمل ذات إنتاجية عالية ودخل أفضل، وليس مجرد توسيع الأنشطة ذات الهامش المنخفض. ثم إنه من الأهمية بمكان أن تُواصل الحكومات والمجتمعات المدنية العمل على الشفافية والمشاركة في صياغة السياسات الاجتماعية، وإقامة حوار حول كيفية توجيه الموارد والفرص، لتجنّب حالة إحباط جماعي أو تراجع شرعية المؤسسات.
ولا بد أيضاً من النظر إلى مسألة تباطؤ النمو من منظار أنها مؤشرات ماكرويّة تُقرأ في تقارير اقتصادية من جهة؛ لكنها أيضاً وبأهمية أعلى، قضية اجتماعية مركزية من جهةٍ ثانية، لأنهما يمسّان القدرة على خلق فرص عمل، وتحسين الخدمات، وتقوية أنظمة الحماية، وتقليل الفوارق، وتحقيق الانتقال الاجتماعي.
لذا، فإن السياسات التي تُطمِح إلى تحقيق تنمية بشرية شاملة لا يمكن أن تكتفي بالتركيز على الأرقام؛ بل يجب أن تبدّل "سرعة النموّ" إلى "جودة النموّ"، الذي يولد فرصاً، ويعزّز إنصافاً، ويُشكّل شبكة أمان للمجتمعات.