حمص تستعيد كوابيس الحرب: جريمة تُوقظ شبح الفتنة وجراحاً لم تندمل

عودة شبح الفتنة إلى حمص بعد جريمة مروّعة في زيدل أشعلت هجمات انتقامية، وسط محاولات رسمية وشعبية لاحتواء الغضب ومنع الانزلاق إلى صراع طائفي جديد.

0:00
  • حمص تستعيد كوابيس الحرب: جريمة تُوقظ شبح الفتنة وجراحاً لم تندمل
    حمص تستعيد كوابيس الحرب: جريمة تُوقظ شبح الفتنة وجراحاً لم تندمل

على وقع ذاكرة حرب لم تندمل جراحها بعد، عادت مدينة حمص لتدقّ ناقوس الخطر. جريمة قتل مروّعة في بلدة زيدل بريف حمص الشرقي ارتكبها مجهولون، ليدفع ثمنها سكّان حيّ بأكمله لا ذنب لهم سوى أنّ شرارة الفتنة أحاطت بهم كالنار في الهشيم، بعدما ظنّت قلوبهم المتعبة أنّها خمدت تحت سلطان الوعي والقانون.

صباح الأحد، 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، استيقظت البلدة على فاجعة مقتل رجل وزوجته من عشيرة بني خالد، في جريمة تضمنت التمثيل بالجثث وحرقها، وتلطيخ جدران المنزل بعبارات طائفية كُتبت بالدم.

لم تقف الحادثة عند حدود الجريمة الجنائية، بل تحوّلت إلى شرارة أشعلت ردود فعل غاضبة وسريعة. مجموعات مسلّحة من أقارب الضحيتين هاجمت حيّ المهاجرين والأحياء المجاورة ذات الغالبية العلوية في مدينة حمص، في هجوم انتقامي تضمن إطلاق نار عشوائي وحرقاً للمنازل والسيارات والمحال التجارية، ما خلّف 18 جريحاً وحالة من الذعر أعادت إلى الأذهان سنوات الحرب القاسية.

"الفتنة نائمة"

تحرّكت السلطات السورية سريعاً لاحتواء الموقف. وأصدرت وزارة الداخلية حزمة بيانات متلاحقة في محاولة لإنقاذ الوضع، أكدت خلالها أنّ التحقيقات الأولية تشير إلى أنّ الدافع وراء جريمة زيدل "جنائي بحت"، وأنّ العبارات الطائفية التي وُجدت في مسرح الجريمة "وُضعت بهدف التضليل وإثارة الفتنة".

وقال المتحدث باسم وزارة الداخلية، نور الدين البابا، إنّ "الدولة اليوم ترفض انتشار السلاح المنفلت وتعمل عبر المجالس والمؤسسات للسيطرة عليه ووضعه بيد الدولة ومؤسساتها الرسمية". وفي ما يخص أعمال العنف التي تلت الجريمة، كشف البابا أنّ "الجريمة خلّفت جرائم شغب وستتم محاسبة المتورطين فيها، وقد تمّ إيقاف 120 شخصاً متهماً بتنفيذ انتهاكات"، مشدداً على أنّ يد القانون ستطال الجميع.

على الأرض، كانت الرواية مغمسة بالخوف والألم، وقلق يعتري جميع سكان الحيّ من مستقبل مجهول وأفق قاتم. تقول "أم علي" للميادين نت، وهي سيدة خمسينية تقطن في حيّ المهاجرين: "اختبأنا في أقبية المنازل كما كنا نفعل أيام الحرب. أحرقوا سيارة جاري أمام عيني، وهو رجل مسنّ لا حول له ولا قوة. ما ذنبنا نحن؟ هل أصبح الانتماء إلى حيّ أو طائفة جريمة؟".

تحركات لرأب الصدع وتمكين خطاب العقل

بعدما انفجر الغضب والجدل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت المنصات إلى ساحة لتبادل الاتهامات والتحليلات والدعوات لانتفاضات واسعة ومسيرات سلمية في كل أنحاء البلاد، انطلقت محاولات محدودة حتى الآن لرأب الصدع، كان أبرزها تصريحات مفتي مدينة حمص، الشيخ عصام المصري، خلال خطبة الجمعة في المسجد النوري الكبير، موجهاً رسالة مباشرة إلى أهالي المدينة:

"يا أهلنا في حمص، يا أبناء الوطن الواحد. إن دماء السوريين جميعاً حرام، وإن الفتنة أشد من القتل. ما حدث هو مصاب جلل، والمجرم الحقيقي هو من يسعى لتمزيق نسيجنا الاجتماعي الذي صمد لقرون. أدعوكم إلى التمسك بحبل الله، وإلى تحكيم العقل والضمير، وإلى تفويت الفرصة على أعداء هذا الوطن الذين يتربصون بنا. ثقوا بمؤسسات دولتكم، ولا تنجرّوا وراء دعوات الانتقام التي لا تورّث إلا الدمار".

وعلى الوتيرة نفسها، أصدرت قبائل محافظة حمص، وعلى رأسها قبيلة بني خالد، إلى جانب وجهاء وشيوخ المحافظة، بياناً مصوراً حذّرت فيه من محاولات إشعال الفتنة. وشدّد البيان على ضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار، معرباً عن الدعم الكامل لإجراءات الدولة الأمنية لضبط الجناة. واستنكرت القبائل الجريمة بشدة، ووصفت أسلوب تنفيذها بأنه "لا يمتّ للإنسانية بصلة"، مؤكدةً أنّ استخدام عبارات استفزازية يكشف أنّ الهدف هو "إشعال الفتنة وخلق شرخ مجتمعي". وطالب البيان الجهات المختصة بكشف الجناة، كما دعا جميع أبناء المحافظة إلى "ضبط النفس" والتحلّي بالمسؤولية الوطنية للحفاظ على السلم الأهلي وحق الجوار.

أيضاً، تداول الناشطون مقطع فيديو يظهر فيه عنصر أمن وهو ينادي على أهالي حيّ المهاجرين الخائفين بكلمات بسيطة وعفوية: "أنتو بحمايتنا، لا تخافوا". وقد حصد المقطع ردود فعل إيجابية واسعة، واعتبره الكثيرون رمزاً لنبذ الطائفية وتأكيداً على أنّ واجب الدولة هو حماية جميع مواطنيها، ما خلق شعوراً بالارتياح وشجع على الثقة بدور السلطات في مواجهة الفوضى.

اختبار جديد لوحدة سوريا

برغم عودة الهدوء الحذر إلى شوارع حمص واستمرار التحقيقات، تقف المدينة، ومعها سوريا كلها، أمام اختبار جديد. الرهان اليوم مزدوج: على وعي المجتمع المحلي وقدرته على الاستماع لصوت العقل ورفض دعوات الفتنة، وعلى قدرة الدولة على فرض هيبتها وتأكيد أنّ دماء أبنائها جميعاً غالية، وأنّ العدالة ستأخذ مجراها لكشف الجناة الحقيقيين ووأد الفتنة في مهدها. ويبقى السؤال الأهم: هل ستكون الإجراءات الأمنية والقضائية كافية لردع تكرار مثل هذه الجرائم، أم أنّ جذور التوتر تحتاج إلى معالجات سياسية واجتماعية أعمق؟

اخترنا لك