ملاجئ الأطفال: حماية للرضع أم تشجيع على التخلي؟

تثير "ملاجئ الأطفال" جدلاً واسعاً بين من يعتبرها ملاذاً آمناً ينقذ المواليد من الخطر، ومن يراها أداة تشجع على التخلي عنهم بدل معالجة أسباب الفقر والعنف والعزلة الاجتماعية.

0:00
  • ملاجئ الأطفال: حماية للرضع أم تشجيع على التخلي؟
    ملاجئ الأطفال: حماية للرضع أم تشجيع على التخلي؟

في قلب النقاش المعاصر حول حقوق الطفل وحماية الأسرة، تبرز ظاهرة "نوافذ الأطفال" أو "المهَد المحمي" بوصفها حلاً إنسانياً يُقدَّم للنساء اللواتي يجدن أنفسهن في أوضاع مأساوية: فقر مدقع، حمل غير مرغوب فيه، علاقات عنيفة، أو عزلة اجتماعية مطلقة. 

الفكرة في ظاهرها بسيطة: مكان مجهَّز وآمن يمكن أن تترك فيه الأم مولودها من دون مساءلة أو عقاب، لتأخذ المؤسسات الرسمية على عاتقها رعايته أو توفيره للتبني. غير أنّ هذه المبادرة، التي تسوَّق أحياناً بوجهها الرحماني، تطرح في العمق أسئلة شائكة: أليست هذه النوافذ أداة لإعادة إنتاج الإقصاء بدل معالجته؟ ألا تُكرّس التخلي كخيارٍ مشروع وسهل، بدلاً من معالجة جذور الأزمة الاجتماعية والاقتصادية؟

جذور الظاهرة

عرفت المجتمعات القديمة التخلي عن الأطفال كظاهرةٍ اجتماعيةٍ منذ القدم. ففي روما القديمة، سُجّل أنّ الجنود كتبوا لزوجاتهم يوصونهن بالاحتفاظ بالمولود إن كان ذكراً والتخلص منه إن كان أنثى. وفي أوروبا القرون الوسطى، انتشرت "عجلات اللقطاء" في جدران الكنائس، حيث يوضع الطفل وتدار الأسطوانة ليلتقطه الرهبان بعيداً من أعين الفضوليين.

كانت تلك الممارسات تعكس بنية اجتماعية واقتصادية غير قادرة على استيعاب جميع المواليد، ومتصالحة مع فكرة أن حياة بعض الأطفال "يمكن التضحية بها". ومع تطور الرعاية الصحية وظهور أنظمة الحماية الاجتماعية، تراجعت هذه الظواهر تدريجياً، لتحلّ محلها مقاربات تعزز بقاء الطفل داخل أسرته أو في رعاية بديلة رسمية. إلا أنّ عودة "نوافذ الأطفال" في القرن الحادي والعشرين، تحت عناوين مختلفة، تثير القلق. فهل نحن أمام رجوع مقنَّع إلى الماضي تحت غطاء إنساني جديد؟

بين الحماية وتشجيع التخلي

يجادل أنصار هذه المبادرات بأنها تنقذ الأرواح. على خلفية أن طفلاً موضوعاً في نافذة مجهزة أفضل من طفل يُترك في مكبّ نفايات أو يُقتل في سرية. من الناحية النظرية، يبدو هذا الطرح مقنعاً، لكن التجارب الميدانية تكشف تناقضات جوهرية، منها:

- غياب البيانات الحاسمة، إذ لا توجد دلائل قاطعة على أنّ وجود هذه النوافذ يقلّص فعلاً معدلات القتل أو الإهمال القاتل للرضع. ففي بولندا وسويسرا مثلاً، انخفضت نسب وفيات الأطفال في العقود الأخيرة لأسباب مرتبطة بتحسن المعيشة والرعاية الصحية، لا لظهور هذه النوافذ.

- الخطر النفسي على الطفل. فحتى وإن نجا الرضيع، فإنه يبدأ حياته بجرح هوياتي عميق. حيث أن الحق في معرفة الأصل البيولوجي جزء من حقوق الطفل كما نصت عليه اتفاقية الأمم المتحدة، والتخلي المجهول يحرم المولود من هذا الحق. وهنا تكمن المفارقة، حيث ينقَذ الجسد، لكن تُمحى الجذور.

- تطبيع فعل التخلي، إذ إنه حين يتكرس في الوعي الجمعي أنّ هناك مكاناً مجهزاً وآمناً للتخلي، فإن حاجز الرهبة الأخلاقية ينكسر. إذ يصبح القرار أقل فداحة نفسياً للأهل، وربما أكثر سهولة للتكرار. بهذا المعنى، تتحوّل المبادرة من أداة إنقاذ استثنائية إلى قناة تشجع على الاستغناء عن الطفل بدل البحث عن حلول داعمة للأمومة.

معالجة الأعراض وإهمال الجذور

الوجه الأخطر لهذه الظاهرة يتكشف في أنّها تزيح النقاش عن جوهر المشكلة، وهي تتلخص بأسئلة جوهرية: لماذا تُترك النساء ليواجهن الحمل في عزلة مطلقة؟ لماذا تُجبر بعضهن على اختيار الشارع أو المجهول، بدلاً من الحصول على دعم اجتماعي ونفسي وقانوني؟

وحين تستثمر الدول والمنظمات في "نوافذ الأطفال"، فإنها تركّز على المرحلة الأخيرة من الأزمة، وهي لحظة التخلي، في حين تتجاهل سلسلة المراحل السابقة التي كان يمكن فيها التدخل لمنع الوصول إلى هذا الحد. هي إذن استجابة طارئة للأعراض، لا علاج للأسباب.

فإن كان السبب هو الفقر، يكون البديل الحقيقي في سياسات دعم اجتماعي ومعونات للأمهات. وإن كان السبب هو الوصمة الاجتماعية للأم العزباء، فالمطلوب حملات تغيير ثقافي وتشريعي. أما إن كان السبب هو العنف الأسري أو الاغتصاب، فالجواب يكمن في حماية المرأة ودعمها لا في فتح نافذة للتخلي عن مولودها.

الأم المتروكة والطفل المتروك

وبالقياس على تجارب كثيرة، تدخل النقاش العام أفكارٌ من قبيل أن"الأم التي تترك طفلها، هي نفسها متروكة من المجتمع". وهي فكرة تكثف البعد الرمزي للمسألة. فالنافذة لا تنقذ فقط طفلاً مهملاً، بل تكشف في الوقت ذاته عن إهمال مزدوج، يطال الأم هذه المرة، إذ إنه إهمال للأم التي لم تجد من يرافقها في محنتها، وإهمال للبنية الاجتماعية التي جعلت الأمومة عبئاً لا يُحتمل.

في الواقع، النافذة هي انعكاس لانهيار دوائر الدعم: الأسرة الممتدة التي تخلّت، المؤسسات التي قصّرت، المجتمع الذي حكم، والدولة التي لم توفر الأمان. وفي هذا السياق، لا تعود "النوافذ" سوى مرآة للعجز البشري الجماعي، مموّهة برومانسية "الرحمة والحماية".

ومن منظور حقوقي بحت، الطفل الذي يُترك في نافذة هو ضحية ثلاثية الأبعاد:

- في البعد الأول، هو ضحية أم فقدت القدرة على الاحتفاظ به.

- وفي الثاني، هو ضحية مجتمع فضّل الحل السهل على مواجهة تعقيداته.

- أما في الثالث، فهو ضحية نظام قانوني يساوم بين الحق في الحياة والحق في الهوية.

وقد أثبتت دراسات نفسية أنّ كثيراً من الأطفال المتبنّين بعد التخلي المجهول يعيشون أزمة هوية حادة في مراحل لاحقة من حياتهم، إذ يطاردهم سؤال الأصل والسبب. وهنا يتجلّى الخطر البعيد، وفيه أن إنقاذ الحياة الجسدية لا يكفي إذا كان الثمن تمزيق البنية النفسية.

الخطابان الديني والسياسي

اللافت هنا هو أنّ أغلب المبادرات التي ترعى هذه النوافذ كانت تنطلق من مؤسسات دينية أو جمعيات محافظة ترفض الإجهاض. بالنسبة لهؤلاء، أي بديل أفضل من إنهاء الحمل. غير أن هذا الموقف يطرح إشكالية مضاعفة، إذ يعارض الإجهاض من جهة، ولا يقدّم من جهة أخرى حلولاً شاملة لدعم الأمومة أو تخفيف كلفة الإنجاب. وبالنتيجة، تتشكل منظومة تدفع النساء إلى الاستمرار في الحمل، ثم تمنحهن نافذة يتخلصن عبرها من الثمرة.

أما على المستوى السياسي، فإن هذه المبادرات تُستخدم أحياناً كدليل على "رحمة الدولة" و"حرصها على الحياة"، بينما هي في الحقيقة غطاء لعجز السياسات العامة عن معالجة الفقر والعنف والتمييز.

الوقاية كبديل إنساني

إن النقد الجوهري يدور حول منافعه من أجل قضية عادلة وإنسانية حيوية، ومن أجل الفائدة، وليس إنكاراً لوجود حالات قصوى تستدعي حلولاً عاجلة، بل رفض لأن يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة. يحيث تظهر ضرورة نقل الجهد من "لحظة التخلي" -كبدايةٍ للمشكلة- إلى "ما قبلها بكثير"، وهذا يفضي إلى تغيير في طبيعة الحلول المقترحة، مثل:

- إنشاء شبكات دعم نفسي واجتماعي للنساء في أزمات الحمل.

- تأمين ملاذات آمنة للضحايا بعيداً من العنف الأسري.

- حملات تثقيفية حول الحقوق الإنجابية وخيارات الدعم، أي إحداث أو دعم تغيير في النظرة الثقافية والمجتمعية لجذور المشكلة.

- تشريعات تحمي الأم العزباء وتزيل الوصمة.

وبهذا، يمكن الحديث عن جهدٍ نافعٍ للحد من ظاهرة التخلي، لا أن يتم تكريسها تحت ضغط الضرورة الطارئة التي تتحول إلى دائرةٍ مفرغة، تتكرر فيها الممارسات التي تؤدي إلى تعميق المشكلة وتحافظ على استدامتها، بتكريسها كأمر طبيعي ومؤسسي.

إن هذه "النوافذ" قد تبدو للوهلة الأولى علامات إنسانية مضيئة، لكنها في الجوهر نوافذ تُطلّ على عجز أعمق، هو عجز المجتمعات عن حماية الأمهات قبل أن يصلن إلى حافة اليأس، وعجز الدول عن بناء سياسات اجتماعية وقائية. وهي تتحول إلى عرضٍ لمرضٍ اجتماعي أبعد مدى. وهكذا فإن الرحمة الحقيقية تعبّر عن نفسها بمنظومةٍ تحمي الأم من الانكسار، والطفل من أن يُستقبل إلى العالم عبر نافذة تُغلق خلفه إلى الأبد.

اخترنا لك