أبناء القمح وخير المواسم يتشبّثون بالبقاء في قرى جنوب لبنان الحدودية

اختلفت أسباب صمود أهالي جنوب لبنان ظاهرياً، لكن جوهر البقاء واحد، فبين هذه الأرض وأبنائها تاريخٌ من النضال والتضحيات، تحبّهم ويحبّونها، تحمل تعب أيامهم وعرق جبينهم، وبين ذرات ترابها تحتضن أجسادهم.

  • أبناء القمح وخير المواسم يتشبّثون بالبقاء في قرى جنوب لبنان الحدودية
    أبناء القمح وخير المواسم يتشبّثون بالبقاء في قرى جنوب لبنان الحدودية

تجلسُ يُمنى العبد أمام منزلها الكائن في قرية الناقورة الحدودية، حولها أبناؤها وأحفادها الصغار الذين بقوا معها طيلة مدّة الحرب ولم يفارقوها أبداً. البقاء في القرية بعد نزوح معظم سكانها يعدّ خطراً للغاية، لكن "الله هو الحامي"، تقول مُطمئنّة.

النزوح ليس خياراً مطروحاً ليمنى، استطاعت باليسير أن تعيل نفسها وعائلتها حتى لا تضطرّ للخروج من البلدة. فابنها يعمل في مطعم  قريب، يعيل العائلة وأطفاله وخاله أيضاً المقيم معهم. لم يكن تأمين الاحتياجات بالنسبة إليها أمراً مستعصياً، فهي تؤمّن غذاء العائلة من "حواضر البيت"، وتتعاون مع جيرانها في تأمين ما يلزم من حاجيات عبر شرائها من خارج القرية، في حال تمكّن أحدهم من التنقّل.

قصة يُمنى هي واحدةٌ من قصص كثيرة لأبناء القرى الصامدين فيها منذ ثمانية أشهر، على امتداد الخط الحدودي مع فلسطين المحتلة، وهم برغم خطر الموت والغدر الإسرائيلي الذي يهدّد حياتهم في كلّ لحظة، لم يتركوا أرضهم ولم ينزحوا منها.

لا شيء يعوّض الأرض

بنت جبيل العصيّة، حارسة جبل عامل وعاصمته، مدينة الشهيد خالد بزي الذي أذاق الاحتلال طعم الذل والانكسار، لم يتركها الكثير من أهلها منذ بداية الحرب، وأصرّوا على مواجهة العدوان بالتحدّي والصبر. وفيقة حرب، ابنة المدينة التي لم تفارقها أبداً لأن "هذه أرضنا التي ارتوت بدماء الشهداء لا يمكننا التخلّي عنها، لدينا رجال تحمينا وقائد عظيم أطال الله بعمره".

تقول حرب إن الحياة في البلدة شبه طبيعية، أبواب المحال التجارية تفتح يومياً وكلّ مستلزمات الحياة متوفّرة، تمتلك هي وعائلتها محلاً لبيع الألبسة وتذهب إلى عملها بشكل يومي، لافتةً إلى أن العمل الاجتماعي في حزب الله يتابع أمورهم ويقدّم الدعم المادي والعينيّ لهم، وحتى خدمات الاستشفاء.

لا يخفت صوت الدعاء من بيت حرب، تُتمتم طوال الوقت بكل الأذكار التي تحمي المجاهدين وتترحّم على الشهداء، تجد في ذلك حجاباً واقياً وحصناً يحميها وعائلتها وأبناء بلدتها من أيّ اعتداء.

على بعد أمتارٍ لا تتعدى المئة من الحدود مع فلسطين المحتلة، تقع بلدة الضهيرة (قضاء صور)، التي لا يفصلها عن نصفها الآخر المسمّى بعرب العرامشة في أراضي فلسطين المحتلة عام 48، سوى جدار إسمنتي عملاق. ابن البلدة، وأقدم مزارعيها، نادر أبو ساري، أبى أن يترك رزقه وأرضه وأن يرحل بعيداً عنها.

أشهرٌ ثمانية قضاها أبو ساري في زراعة أرضه ورعي المواشي، "زرعت الفول والعدس والتبغ خلال فصل الشتاء، بعدها جهّزت الأرض لزراعة القمح"، إلا أنّ المواسم لم يكتمل معظمها، فحقول التبغ تعرّضت للقصف المباشر، أما حقول القمح والبالغة مساحتها 15 دونماً، فقد احترقت بأكملها منذ أيام.

حماية الأرزاق لم تكن سبب البقاء الأوحد، بل رفْض الأهالي أن يُدفن أحد الشهداء أو الأموات خارج القرية هو سبب آخر، لذلك كان لا بدّ من وجود جماعة تهتم بمراسم الدفن داخل البلدة، برغم كلّ القصف المتعمّد الذي قد يلحق بالسكان الموجودين فيها.

يعتمد أبو ساري في تدبّر أموره على المنتوجات الزراعية بالمقام الأول، ويحاول الوصول إلى القرى الخلفية كلما سمحت الفرصة للتزوّد بالاحتياجات الأساسية والعودة مجدداً، باستثناء المساعدات المقدّمة من العمل الاجتماعي في حزب الله، مشيراً إلى أن لا أحد من الجمعيات الأهلية والدولية وحتى المؤسسات الرسمية التفت إلى حالهم، وأن كل المساعدات التي وعدت بها هذه الجمعيات كانت "حبراً على ورق".

"ما بقي للنصر إلا القليل"

في قرية الطيبة قضاء مرجعيون، أو "كعبة جبل عامل" كما كانت تلقّب سابقاً، لكونها منبعاً لعدد كبير من العلماء والمثقّفين، تدير الحاجة زينب فرَيْدي محلّاً لبيع الخضار، إلى جانب زوجها الذي يمتلك دكّاناً لبيع المواد الغذائية. 

لم تنتظر فريدي السؤال لتجيبنا. بقاؤها في قريتها يرتبط قبل كل شيء بحبها لهذه الأرض، "ونحن مش أغلى من المجاهدين حتى نتركهم ونروح". تؤكد فريدي للميادين نت أن السكان الصامدين في القرية لا ينقصهم شيءٌ من غذاء ومتطلّبات الحياة على اختلافها، عدد من محال الخضار واللحوم والدكاكين ما زالت تعمل منذ ثمانية أشهر.

لكنها لم تُخفِ أمنيتها بأن تلتفت مؤسسات الدولة المعنية لما يعيشه أبناء الجنوب الصامدين والنازحين أيضاً، لأنّ "الجنوبيين يدافعون عن كل لبنان وليس فقط عن بلداتهم"، وتوجّهت بالدعاء بالنصر لكلّ المجاهدين المرابطين، ولأبناء القرى المضحّين الصابرين كذلك.

عيترون جارة فلسطين، أرض التبغ و"خزّان المثقّفين" كما يسمّيها أبناء الجوار، هي إحدى القرى الأكثر تعرّضاً للقصف والغارات الإسرائيلية منذ بداية الحرب في أكتوبر الماضي. في أحد أحياء البلدة المواجهة لما يعرف بالـ"القرى السبع" اللبنانية المحتلة، لا يزال مفيد مراد يقيم هناك، يعمل في الأرض نهاراً، يزور جيرانه في الحي مُطمئناً عليهم، ويشاهد الأخبار عبر التلفاز ليلاً.

مراد ابن الأرض، يزرعها بشتول البندورة والخس والبقدونس وغيرها من الخضراوات ليؤمّن قوت يومه، كحال سكان القرية الموجودين فيها حالياً، وكان قد زرع الفول والحمص أيضاً في موسمهما، إضافةً إلى الزعتر الجنوبي البلدي ليحضّر من خلاله مؤنة سنة كاملة له ولعائلته.

وفقاً لمراد، فإنّ بقاءه في البلدة له سببان، الأول "أننا على حق، وأن رزقنا في هذه الأرض"، أما السبب الآخر فهو "ثقتنا بقول السيد نصر الله بأن المدني مقابل المدني، ما جعلنا مطمئنين لا نخاف تهديدات العدو"، وأكد بدوره وقوف بلدية عيترون إلى جانب أهلها الصامدين، وتوجّه بالشكر "للمقاومة الشريفة، أي لأهلنا وأحبائنا الذين قدّموا الدماء والتضحيات"، متمنّياً من الأهالي الذين نزحوا من قراهم قسراً أن يتحلّوا بالصبر والثبات، "فقد ذهب الكثير وما بقي للنصر إلا القليل القليل". 

اختلفت أسباب صمودهم ظاهرياً، لكن جوهر البقاء واحد، فبين هذه الأرض وأبنائها تاريخٌ من النضال والتضحيات، تحبّهم ويحبّونها، تحمل تعب أيامهم وعرق جبينهم، وبين ذرات ترابها تحتضن أجسادهم، لذا؛ فإن صمودها من صمودهم وكرمى لأرض جبل عامل؛ تُبذل أرواحهم.