الفاشر المنكوبة: شهادات الناجين من الإعدامات الميدانية

شهادات مروّعة تخرج من مدينة الفاشر بعد سيطرة قوات "الدعم السريع" عليها، إذ تحوّلت المدينة إلى ساحة إعدامات ميدانية وعمليات تصفية عرقية، فيما يعيش عشرات الآلاف من النازحين أوضاعاً إنسانية كارثية في محلية طويلة المجاورة.

0:00
  • الفاشر المنكوبة: شهادات الناجين من الإعدامات الميدانية
    الفاشر المنكوبة: شهادات الناجين من الإعدامات الميدانية

رشيدة صالح، سيدة في العقد الرابع كُتبت لها النجاة من مجازر واسعة نفّذتها قوات "الدعم السريع" في مدينة عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان، ووصلت إلى منطقة طويلة الآمنة نسبياً في الإقليم، في رحلة نزوح قاسية سيراً على الأقدام، شاهدت خلالها شلالات الدماء، وباتت على حواف الموت، قبل أن تنقذها العناية الإلهية.

تروي رشيدة إلى الميادين نت، أنها تركت خلفها جثامين القتلى من المواطنين ملقاة على الطريق، تقول: "كان مُسلّحو قوات الدعم السريع يطلقون علينا الرصاص الحي أثناء هروبنا، ويطالبون بالركض إذا كنا لا نريد الموت، هناك مرضى وكبار في السن، لم يتمكّنوا من الجري، فأصابتهم النيران وماتوا.. لقد عشنا لحظات مرعبة".

وتحت وابل من الرصاص تمكنت هذه السيدة من الخروج من الفاشر يوم الأحد الماضي مع اندلاع الهجمات، وظلّت تسير بقدميها هي وطفلاها لمدة يومين من دون طعام أو مياه شرب، ومع ذلك كان المسلحون يوقفونهم في نقاط التفتيش، ويعرضونهم إلى شتى أنواع الإذلال ونهب ما يحملونه بما في ذلك الهواتف النقالة، وفق حديثها.

وبعد رحلة قاسية، وصلت رشيدة صالح إلى محلية طويلة التي تبعد عن الفاشر نحو 70 كيلومتراً، بصحبة طفليها اليتيمين، إذ قتل زوجها في وقت سابق من اندلاع الحرب، وهي تقيم في العراء حالياً، تُمنّي نفسها بخيمة تأوي إليها، وغطاء وملابس، وقبل ذلك الطعام ومياه الشرب، حتى تواصل ما تبقى من حياتها.

إعدامات ميدانية

وفي صباح الأحد الماضي، استيقظ سكان مدينة الفاشر على وقع هجمات عنيفة شنّتها قوات "الدعم السريع"، وبعد لحظات تمكنت من السيطرة على مقر الفرقة السادسة مشاة، وهي آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، وبدأ السكان في النزوح بشكل جماعي نحو محلية طويلة، وهي منطقة آمنة نسبياً تخضع إلى سيطرة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور.

وقالت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بيان الثلاثاء، إنّ "ما يُقدر بنحو 26 ألف شخص غادروا الفاشر في الأيام الأخيرة، واضطر المدنيون إلى الفرار من القتال وهم في حالة من الرعب، متنقلين ما بين نقاط التفتيش المسلحة، ومعرّضين للابتزاز، والاعتقالات التعسفية، والاحتجاز، والنهب، والمضايقة، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أثناء محاولتهم الوصول إلى برّ الأمان".

وخلال عمليات فرارهم، احتجزت قوات "الدعم السريع" المئات من المواطنين، ونفّذت بحقهم إعدامات ميدانية وتصفيات على أساس عرقي، وفق ما وثّقته فيديوهات منشورة، وأكدته جهات حقوقية دولية، من بينها مفوّضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

وأعلن مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في بيان صحفي أمس الثلاثاء، تلقيه تقارير متعددة ومثيرة للقلق تفيد بأن قوات "الدعم السريع" ترتكب فظائع، بما في ذلك إعدامات بإجراءات موجزة، بعد سيطرتها على أجزاء كبيرة من مدينة الفاشر المحاصرة، شمال دارفور، ومدينة بارا في ولاية شمال كردفان في الأيام الأخيرة.

ويواجه النازحون الذين وصلوا من الفاشر إلى طويلة أوضاعاً إنسانية سيئة، فهم يقيمون في العراء حالياً بلا مأوى وبلا طعام، ما يتطلب تدخلاً عاجلاً لإغاثتهم، وفق ما يقوله المتحدث الرسمي لمنسقية النازحين واللاجئين في دارفور آدم رجال إلى الميادين نت.

ويضيف رجال: "كانت منطقة طويلة تؤوي آلاف النازحين حتى قبل النزوح الأخير من الفاشر، ما أحدث تكدساً كبيراً، في ظل إمكانيات محدودة لهذه البلدة. النازحون الذين وصلوا مؤخراً بينهم نساء حوامل وأطفال وكبار في السن، ومن بينهم مصابون بجروح وإعياء بسبب الجوع والعطش بعد المسافات الطويلة التي قطعوها، وهم بحاجة إلى رعاية طبية وإغاثة بصورة عاجلة".

وتابع: "الوضع في طويلة أصبح كارثياً مع تزايد تدفّق النازحين، نناشد المجتمع الدولي والمنظمات المعنية بالتحرك العاجل لإنقاذ حياة آلاف المدنيين الفارّين من جحيم الحرب".

ومن وصلوا إلى طويلة، يواجهون واقعاً معيشياً قاسياً في العراء بلا مأوى وبلا طعام، وهو وضع يتفاقم كل ما استعادوا ملامح وتفاصيل اللحظات المؤلمة التي عاشوها، بينما واجه المدنيون الذين لم يستطيعوا الفرار من الفاشر بسبب مرضهم أو إصابتهم، مصير القتل الجماعي، بعدما تحوّلت المدينة إلى ساحة تنتشر فيها آلات الموت.

تصفية المرضى

وقالت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر في تعميم صحفي اليوم الأربعاء، إن قوات "الدعم السريع"، صفّت جميع الجرحى والمصابين داخل المستشفى السعودي وعنابر درجة أولى والجامعة والداخلية في المدينة المنكوبة، بطريقة بشعة، قُتلوا وهم بين الحياة والموت، في زمن لم يعد فيه للإنسانية مكان، حسب وصفها.

وأضافت: "لم يتبقّ للجرحى فرصة للنجاة، أولئك الذين كانوا ينتظرون يداً تمتد إليهم، غابت عنهم الرحمة قبل أن يصل إليهم الدواء، والمستشفيات سقطت في صمت مرعب لا يُسمع فيها سوى أنين انقطع فجأة". كما أكدت لجنة أطباء السودان تصفية قوات "الدعم السريع" جميع المرضى والمصابين في المراكز الطبية في الفاشر.
 
ونشر مسلحو قوات "الدعم السريع" اليوم الأربعاء، مقطع فيديو يظهرهم يقومون بقتل المرضى ومرافقيهم داخل مستشفى السلاح الطبي بالفاشر، ومن حولهم المئات من جثامين الموتى.

وتقول حواء داؤود وهي صحفية من الفاشر – تقيم خارجها حالياً – إنّ أكثر ما يؤرق أهل الفاشر في هذه الفاجعة، هو وجود آلاف المفقودين لا نعرف مصيرهم، أحياء كانوا أم أمواتاً، في ظل حالة العنف المنتشرة في المدينة لثلاثة أيام متتالية. بعض المفقودين وجدنا هواتفهم بحوزة مسلحي الدعم السريع عندما اتصلنا بهم، ما زاد قلقنا".

وتضيف: "لم تتبق حياة في الفاشر، لقد هرب الجميع نحو طويلة، ومن لم يتمكن من المغادرة تم قتله، حيث استباح المسلحون المدينة بشكل كامل، وبعضهم يمتطون الجمال، لقد قتلوا حتى المرضى داخل المستشفيات بلا رحمة".

وتشير إلى أن النازحين الذين وصلوا إلى طويلة يعيشون أوضاعاً إنسانية كارثية، فهم بحاجة ملحّة إلى الغذاء والدواء، إلى جانب دعم نفسي عاجل، لتخفيف الصدمات التي تعرضوا لها.

عالقون في طريق النزوح

من جهته، قال محي الدين شوقار وهو متطوع غادر الفاشر قبل أيام قليلة من سقوطها في يد قوات "الدعم السريع"، إلى الميادين نت، إن الأولوية الآن يجب أن تكون لمئات النازحين من الفاشر الذين تقطعت بهم السبل في الطريق إلى طويلة، وهم عالقون في العراء بلا طعام ولا مياه للشرب، وحياتهم مهددة إلى حد بعيد.

وذكر أنه تلقّى العديد من الاتصالات من نازحين عالقين في الطريق وليس بحوزتهم أي شيء يعينهم على الوصول إلى محلية طويلة، لافتاً إلى أن بين العالقين مرضى ومصابين لا يستطيعون الحركة، ما يستوجب المبادرة بجمع تبرعات عاجلة وإرسالها لهم عبر التطبيقات المصرفية، حتى يتمكنوا من الوصول إلى طويلة.

وحصدت الانتهاكات بحق المدنيين في الفاشر إدانات محلية ودولية واسعة. وقالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" في منشور على صفحتها الرسمية في فيسبوك الثلاثاء؛ إن وابلاً من الفيديوهات تُظهر قوات الدعم السريع في السودان وهي تنفذ إعدامات ميدانية وتهاجم مدنيين مفترضين كانوا يفرون من الفاشر، بعد استيلائها على المدينة، داعية إلى تحرك دولي عاجل لحماية المدنيين.

وقال باحث السودان في هيومان رايتس ووتش، محمد عثمان وفق المنشور إن "صور المدنيين المستهدفين، بمن فيهم الفارّون من الفاشر، تظهر حقيقة رهيبة: تشعر قوات الدعم السريع وكأنها حرة في ارتكاب الفظائع من دون عواقب تُذكر. على العالم التحرك لحماية المدنيين من المزيد من الجرائم الشنيعة".

وقال الاتحاد الأوروبي في بيان صحفي إن "استيلاء قوات الدعم السريع على الفاشر، يُمثل نقطة تحول خطيرة في الحرب، ويُهدد بتفاقم الوضع الإنساني المتردي أصلاً. ويُبرز استهداف المدنيين على أساس عرقي وحشية قوات الدعم السريع"، داعياً جميع الأطراف المتحاربة في البلاد إلى التهدئة، والعودة إلى طاولة التفاوض. 

اخترنا لك