القاهرة لم تعد حلماً: حكايات العودة إلى الريف وهجرة المدينة

يشهد المجتمع المصري تحوّلاً ملحوظاً في الهجرة العكسية من المدن إلى الريف، حيث دفعت الضغوط الاقتصادية والنفسية أبناء الريف الذين هاجروا سابقاً بحثاً عن فرص أفضل، إلى العودة لقراهم بحثاً عن الاستقرار والكرامة.

0:00
  • القاهرة لم تعد حلماً: حكايات العودة إلى الريف وهجرة المدينة
    القاهرة لم تعد حلماً: حكايات العودة إلى الريف وهجرة المدينة

القاهرة بعنفوانها وضجيجها وأضوائها الساحرة التي خطفت الشاب الثلاثيني أحمد محمود خليل، للانتقال إليها وترك الريف، لم تعد كذلك في ناظريه، بعد قضاء 10 سنوات في المدينة الصاخبة يحارب العثرات وضيق الحلم في الدروب المزدحمة، ليختار العودة إلى قريته في صعيد مصر، حيث أنس الأهل ونبض التراب بحكايات الأجداد.

على ضفاف نهر النيل من الجهة الغربية تقع قرية "الوصلية" في محافظة المنيا بصعيد مصر، عزلاء منسيّة شوارعها بلا أسماء، إلّا أنّ عودة "خليل" إليها برغم رتابة الريف وتوقّف عقارب الزمن على قوارع طرقاته، كانت بسبب الضغوط النفسية التي تعرّض لها وشظف العيش في المدينة التي نهشت أحلامه.

وسجّلت الهجرة الداخلية 8 ملايين مصري بين المحافظات، وكانت القاهرة الوجهة الأولى، وإن كانت حالياً تشهد هجرة عكسية ملحوظة إلى الريف، بحسب إحصائيات الحركة الجغرافية للسكان عام 2023.

معاناة وضغوط الحياة

كان الزواج من ابنة عمه "فاطمة" الدافع الأساسي لترك "خليل" الريف، لكن بعد غربة في القاهرة - مثلما يسمّيها الريفيون- عمل خلالها سائقاً في إحدى شركات النقل الخاص، عاد الأب لطفلين إلى قريته بعد معاناة مع الأسعار التي تتغيّر يومياً وشقة متواضعة إيجارها يلتهم نصف راتبه.

وبرغم محاولاته الترقّي في الحياة والالتحاق بوظيفة عمومية لأنه يحمل شهادة إجازة في الفلسفة، فشل هذا الريفي، وابتعد حلمه عنه، وبنبرة تحمل الشجن، روى، للـميادين نت، كيف راودته أحلام في القاهرة لم يستطع تحقيقها، "فتلك المدينة تضيق على الريفيين مثلي بعد أن تبهرهم بأضوائها، ليعودوا كما بدأوا، لكنّ الريف برغم سُكون الحياة فيه ورتابتها وإيقاع زمنه البطيء، إلا أنه أرض طيبة بعيداً من تجار المدن والعيش مهموماً".

في 2021، أظهرت بيانات رسمية، أنّ أسباب الهجرة الداخلية في مصر كانت للزواج أو الدراسة أو العمل، وجاءت الهجرة للعمل بالمرتبة الأولى. أما في 2024، ففاق تعداد الريفيين سكان الحضر، إذ سجّلت الأسر الريفية نحو 14.5 مليون أسرة في مقابل 11.7 مليوناً في المدن من إجمالي عدد الأسر المصرية البالغ نحو 26.2 مليوناً على مستوى البلاد.

من جهته، يقول الأستاذ في جامعة عين شمس سامح ندا إنّ العودة إلى الريف تعكس "أزمة هوية" في المدن، فالمدينة باتت "فضاءً استهلاكياً يهمّش الفرد"، ويوضح للـميادين نت أنه "في الريف، يجد الناس انتماءً اجتماعياً وشعوراً بالقيمة الذاتية". 

يشير ندا إلى أنّ تحسّن البنية التحتية في القرى عزّز الهجرة العكسية للريف، لكنه يحذر من أنّ "استمرار الظاهرة يتطلّب استثمارات في التعليم والصحة لضمان استدامتها".

البطالة وغلاء المعيشة 

تواجه المدن الكبرى مثل القاهرة والجيزة تحدّيات تؤثّر على جودة حياة السكان تتراوح من الازدحام المروري الذي يستهلك وقتاً طويلاً من حياة الأفراد والضغوط النفسية التي تصيب نحو 70% من السكان، وارتفاع تكاليف المعيشة والتي بلغت 65% مقارنة في الرّيف.

في أحضان تلك المدن، أحياناً كثيرة يختنق الحلم بضجيج الشوارع وأعباء المعيشة، فيجد الملايين آمالهم قد تحطّمت، في أماكن تتبدّل بنظرهم بعد أن كانت يوماً وعداً بالرفاه والترقّي، هذا ما دفع الطبيب خالد محمود (29 عاماً) إلى العودة لقريته صفط اللبن بالمنيا، بعد عمله في مستشفى خاص بالقاهرة، لكنّ ضغوط المدينة، من زحام وغلاء السكن، جعلته يشعر بالإجهاد النفسي برغم عمله بأكثر من دوام، لكنّ دخله لم يكفِ متطلّباته الحياتية في المدينة التي تفوق فيها النظرة المادية للأشياء، وفق حديثه للـميادين نت.

عاد الطبيب الشاب إلى قريته، ويقول: "كنت أعيش لأدفع فواتير لا لأحقّق حلمي ورسالتي، الآن أشعر بالارتياح النفسي برغم رتابة الريف وإيقاعه البطيء"، ويستطرد: "عيادتي المتواضعة لخدمة أهالي بلدي، بأسعار رمزية، أعالج عشرات المرضى يومياً، وأجني دخلاً يكفيني مقارنة بالعيش في الريف والآن لم تعد الفواتير تشكّل لي هاجساً".

الفرار من إرهاق المدن والإجهاد النفسي

في 2019 أطلقت الحكومة المصرية مبادرتي "حياة كريمة" و"تكافل وكرامة" لتطوير 4500 قرية وتمّ الانتهاء من تطوير 100 قرية بتكلفة كلية 21 مليار جنيه ما ساعد في تحسّن مؤشّر "معدّل إتاحة الخدمات الأساسية" من كهرباء ومياه نظيفة أو طرق ومدارس، وجعل الريف أكثر جاذبية، وفق وزارة التخطيط المصرية. 

كان ضمن تلك المبادرات قرية "أم دومة" في محافظة سوهاج، والتي ينتمي إليها محمود رضوان، الرجل الخمسيني، الذي سرقت المدينة بزخمها وتفاصيلها المعقّدة حياته منذ سن الخامسة عشرة حين سافر إلى القاهرة للعمل في مخبز للعيش البلدي، وفق حديثه للـميادين نت.

بملامحه التي صبغتها سمرة النيل وشمس صعيد مصر الحارّة، وجسده النحيل الذي تكسوه علامات الشقاء، يقول رضوان: "بعد سنوات من العمل الشاق والضغط النفسي والإرهاق عدت إلى قريتي لأعيش حياة هادئة بعيداً من صخب المدينة وضجيجها، بعد تزويج أولادي في منطقة إمبابة الشعبية".

وتبرز في الصعيد أزمة التكدّس البشري بشريط ضيّق يتدلّى من جنوب مصر إلى شمالها، في جغرافيا خاصة جعلته وادياً ضيّقاً بين هضبتين شرقية وغربية، يشقّها نهر النيل ليروي أراضي زراعية تتناقص بفعل الزحف العمراني.

وتحتلّ محافظتا سوهاج وقنا، صعيد مصر، المرتبتين الأولى والثانية في نسب الفقر والهجرة، أما بحسب بيانات رسمية، فيبلغ سكان الصعيد ثلث تعداد المصريين، بينما سكان القاهرة الكبرى (القاهرة - القليوبية - الجيزة) سجّل عام 2024، أكثر من 22 مليون نسمة (20 بالمئة من سكان مصر)، وتبوّأت القاهرة المركز السادس عالمياً بتقرير المدن الأكثر ازدحاماً بالسكان، وفق هيئة مراجعة سكان العالم، أما محافظة القاهرة فقط فتستضيف نحو 10.4 ملايين نسمة وتتبوّأ المركز الأول سكانياً على المستوى المحلي.

تؤكّد أمل عبد الرحمن، خبيرة ديمغرافيا سكانية، أنّ مبادرة "حياة كريمة" قلّلت الفجوة بين الريف والمدينة، حيث ارتفعت نسبة الخدمات الأساسية في القرى، لكنها تحذّر من أنّ "نقص فرص العمل المتخصصة قد يعيق استمرار اتجاه الهجرة العكسية للريف".

العمل والزواج والتعليم.. أبرز دوافع الهجرة للمدن 

وليس هناك تباين واضح في الأحوال المعيشية لساكني الصعيد عن أبناء شمال مصر حيث قرى الدلتا والقناة، فحلم الرجل الستيني سالم عبد الحليم، من إحدى قرى كفر الشيخ، حين سافر إلى القاهرة تبخّر مع الأيام بعد قضاء 40 عاماً، ليجد نفسه بائعاً متجوّلاً في شوارع القاهرة للمفروشات تارة، وأخرى يعمل في المطاعم والمقاهي، ويقول: "كنت أعمل قرابة 12 ساعة في اليوم الواحد، لدوامين مختلفين، لأنّ لديّ أسرة تحتاج إلى العيش الكريم".

ومع ذلك، عاد "عبد الحليم" إلى قريته حيث استثمر مدخراته المتواضعة في زراعة الأسماك، التي تشتهر بها محافظته، فصنع مزرعة صغيرة بمشاركة أحد أبناء قريته، والآن يشعر ببعض الراحة بعيداً من إرهاق المدن وإجهادها النفسي.

ويقول عمرو سعيد (39 عاماً)، مهندس مدني من كوم حمادة بالبحيرة، شمال مصر، إنه انتقل إلى القاهرة بحثاً عن فرصة عمل في إحدى شركات المقاولات الكبرى، ليجد نفسه عالقاً في وظيفة متواضعة كمراقب لمواقع الإنشاءات، يعمل ساعات طويلة مقابل أجر زهيد.

يضيف "سعيد" بنبرة تحمل مرارة الخيبة: "أحلامي تبخّرت وسط المنافسة القاسية"، مضيفاً: " عدت إلى قريتي والآن أبني بيوتاً، وأشعر أنني وجدت نفسي".

بدوره، يلفت أشرف ميلاد، الباحث في شؤون الهجرة، إلى أنّ الإحصاءات تظهر أنّ 42 بالمئة من أسباب الهجرة بسبب العمل وأخرى متعلّقة بالتعليم، بينما 47 بالمئة من هجرة الإناث بسبب الزواج.

اخترنا لك