الكتب والثياب عوضاً من الحطب.. نازحو غزة يحرقون ذاكرتهم لإعداد الطعام

في خيام نُصبت فوق ركام البيوت شمال غزة، يُحرق النازحون كتب أطفالهم وملابسهم لطهي الطعام وسط انعدام الحطب والغاز. ذاكرة الغزّيين تتحول إلى رماد في معركة البقاء اليومية.

0:00
  • hالكتب والثياب عوضاً من الحطب.. نازحو غزة يحرقون ذاكرتهم لإعداد الطعام
    الكتب والثياب عوضاً من الحطب.. نازحو غزة يحرقون ذاكرتهم لإعداد الطعام

بالرغم من أنّ الشّمس لا تغيب عن سماء غزة هذه الأيام، إلّا أنّ حرارة الصيف لم تكن كافية لتدفئة البطون الخاوية، ففي خيام نُصبت فوق ركام البيوت المدمّرة، يعيش نازحون من جباليا وبيت حانون تجربة أقسى من اللجوء ذاته؛ بعد انعدام الحطب والغاز، فلم يتبقَّ للناس سوى أن يحرقوا ما تبقّى من أغراضهم كي يُعدّوا وجبة.

في قلب هذا المشهد، تتكرّر الحكاية ذاتها، وإن اختلفت الأصوات، خليل حمودة، محمد عبد ربه، وأم يوسف أبو عودة... ثلاثة مواطنين يعيشون في مخيم نازحين، يتشاركون الغصة ذاتها: كيف تحوّلت الكتب والملابس وحتى الأثاث إلى وقود.  

أحرقت كتاب ابني كي أطبخ له

من بين الخيام التي نصبت على عجل شمال قطاع غزة، يتحدّث خليل حمودة، نازح من شرق جباليا، وهو يقف إلى جوار فرن بدائي صنعه بنفسه من بعض الحجارة وصفائح معدنية.

يقول خليل: "لم يكن أمامي خيار، اضطررت لحرق كتاب الرياضيات الخاص بابني كي أطبخ له الغداء، هذا الكتاب تحديداً، كان يدرُس فيه خلال الهدنة الأخيرة، بعد سنة ونصف السنة من الانقطاع عن المدرسة، حين وضعته في النار، شعرت كأنني أحرق مستقبله بيدي".

وبينما يحاول توفير الحد الأدنى من الحياة لأسرته، يؤكد أنّ أيّ شيء في الخيمة يُمكن أن يتحوّل إلى نار، فيقول: "نحرق كلّ ما يمكن أن يشتعل، قطع خشب من أثاث مكسور، كراتين، ملابس مهترئةـ، حتى بقايا غرفة النوم التي أخرجت بعض قطعها من تحت منزلي المدمّر، لم تسلم. صارت النار بالنسبة لنا أهم من الذاكرة."

ويتابع بحرقة: "إذا استمر هذا الحال، فالمشكلة ليست فقط في الجوع، بل في أنّ أولادي سيكبرون وهم لا يعرفون الأمان، ولا التعليم، ولا الراحة، وأكبر مخاوفي كأب أن يعيشوا حياتهم وهم يقاتلون يومياً من أجل البقاء فقط".

ثيابي عوضاً من الحطب

من المخيم نفسه، يتحدّث محمد عبد ربه، شاب نازح أيضاً من شرق جباليا، محاولاً أن يبدو متماسكاً وهو يسرد تفاصيل يومية باتت جزءاً من الواقع.

يقول محمد: "نحن الآن نعمل بمنطق البقاء، الحطب لم يعد متاحاً، وسعره فوق طاقتنا، والغاز مفقود، لهذا، نبحث عن أيّ شيء يمكن إشعاله، من خشب الشارع إلى بقايا أثاث مكسّر من المنازل المقصوفة".

ويضيف: "في أحد الأيام، لم أجد شيئاً نستخدمه للنار، فاضطررت لحرق معطفي الشتوي الذي كنت قد نزحت به أول مرة من منزلنا في 10 أكتوبر 2023، الجو الآن صيف، صحيح، لكنّ المعطف كان شيئاً ثميناً بالنسبة لي، لكن لم يكن هناك بديل".

وبنبرة واقعية يقول: "كلّ ما حولنا يُستخدم، لم نعد نميّز بين ما نحتفظ به، وما نحرقه، لأنّ الحاجة اليومية للطهي أقوى من كلّّ العواطف".

أطبخ على نار الذكريات

من بيت حانون، جاءت الحاجة أم يوسف عودة إلى المخيم مع ابنها وحفيدين وبعض الأغطية، واليوم، تصنع طعامها من نارٍ أشعلتها بالكتب وملابس الأحفاد.

تقول أم يوسف: "لم نعد نملك لا غاز ولا حطب، كلّ يوم، يخرج الأولاد ويدورون في أرجاء المخيم يبحثون عن كرتونة، أو خشبة، أو حتى كرسي مهترئ من البلاستيك، كي نطبخ عليه".

وتُضيف بنبرة متعبة: "حرقت كتب أولاد ابني، وحرقت ملابسهم التي لم يعودوا يلبسونها، وحتى بطانية استخدمناها لتسخين فرن الطين.. ما ضلّ شيء إلا واستخدمناه".

ثمّ تختتم حديثها بحسرة موجعة: "الحلم ما صار رجوع الغاز... الحلم اليوم صار طبخة دافئة، حتى لو على نار كرتونة، فقط وجبة واحدة مشبعة تكفي لتشعرنا بأننا لا نزال على قيد الحياة".

نيران بلا دخان... وواقع بلا بدائل

برغم أنّ حرارة الشمس حارقة في الصيف، إلا أنها لم تنضج طعاماً، ولم تُشعل ناراً في مواقد الخيام، النازحون في غزة لا يطلبون ترفاً ولا غازاً، بل أصبحوا يطالبون فقط بحقّهم في نارٍ لا تلتهم كتبهم وذكرياتهم.

لقد تحوّلت الكرامة اليومية إلى رماد، وسط صمت دولي مطبق، وغياب حلول عاجلة، وعجز عربي ودولي عن إيقاف الإبادة الجماعية بحقّ غزة، أما خليل، ومحمد، وأم يوسف، فينتظرون فقط أن يأتي يوم لا يُضطرّون فيه لاختيار ما بين الجوع... أو الحريق.

اخترنا لك