المقايضة بدلًا من المال: اقتصاد البقاء في غزة تحت الحصار
في غزة المحاصرة، تصبح المقايضة وسيلة حياة، حيث يُبادل الناس العدس بالطحين، والحليب بالدواء، وسط انهيار القيمة النقدية وشبح المجاعة. فاقتصاد الضرورة لا يعرف الأثمان، بل تحكمه الحاجة، وتخطّه كرامة لا تُقايض.
-
المقايضة بدلًا من المال: اقتصاد البقاء في غزة تحت الحصار
هنا في غزة، لا صوت يعلو فوق أزيز الطائرات ولا ظلّ إلا للموت والحصار، يعود أهل الأرض إلى بدائيتهم القسرية، فيبتكرون وسائل للبقاء لا تخطر على البال. هنا، لا تُقاس قيمة الأشياء بالمال، بل بما يُشبع جوعًا، أو يُسكت ألمًا، أو يُبقي صغيرًا على قيد الحياة. في مشهد يعيد ذاكرة الشعوب إلى زمن ما قبل السوق، يتبادل الغزيون الطحين بالسكر، والدواء بالحليب، والزيت بالتمر والعجوة.
تآكلت العملة من الأيدي، لا لقِدمها، بل لانعدام معناها وتوفرها. فالسوق بات فضاءً بلا أثمان، تقوده الحاجات، ويعقده الألم. المقايضة، هذه الكلمة التي طالما سكنَت كتب التاريخ، تنهض من سباتها لتصبح عنوان يوميات الغزيين، بعدما حوّلت الحرب جيوبهم إلى فراغ، ورفوف متاجرهم إلى شواهدٍ على المجاعة.
اقتصاد الضرورة
في أحياء جنوب غزة المكتظّة بالنازحين، حيث الأيدي خالية إلّا من الصبر، يروي الشاب يوسف رضوان كيف وجد في المقايضة طوق نجاة من الجوع، بعدما أُغلقت في وجهه أبواب العمل والمساعدة. نزح من معسكر جباليا إلى جنوب القطاع، واصطدم بواقع قاسٍ، لا يوفّر عملًا ولا طعامًا، ولا حتى سحبًا من البنك في ظل شح السيولة وارتفاع عمولات السحب.
يقول رضوان إنه بدأ يعتمد على ما تبقّى لديه من مواد غذائية جاءت من المساعدات، فيبادر إلى مقايضتها بما ينقصه من احتياجات أساسية: "تسلّمت كيسًا من الأرز في إحدى الكابونات، لكن لم يكن لدي زيت أو طحين. وفي الوقت ذاته، كنت أملك علبة حليب أطفال، لكن لا خبز ولا طحين، فبدأت أبادل ما لدي بما يحتاجه الآخرون، والعكس، تحوّلت السوق إلى مساحة لتبادل البقاء، لا للربح أو التجارة، لم يعد المال هو المعيار، بل ما تملكه من طعام".
الطحين أغلى من الذهب
ومن مشهد الشاب المحاصر إلى أمٍّ تسعى لتأمين وجبة لطفلها، تروي لينا المغربي، وهي أم لطفل صغير، كيف دفعتها الحاجة إلى استبدال الفائض من العدس والبقوليات بالطحين والبسكويت، بعدما أصبح سعر الطحين يفوق قدرة زوجها اليومية على الشراء.
"لم يعد بإمكاننا شراء الطحين بالكيلو كما كنا نفعل سابقًا، فأسعاره ارتفعت بشكل جنوني، كان لدينا فائض من العدس والأرز، فبدأت أستبدل جزءًا منه بالطحين أو بسكويت لابني الصغير".
وتؤكد لينا أن عملية المقايضة لا تتم بعشوائية، بل تُراعي أسعار السوق، فمثلاً: "كيلو الأرز سعره حوالى 10 دولارات، والطحين حوالى 20، لذلك أبادل 2 كيلو من الأرز مقابل كيلو طحين، حتى تكون المبادلة عادلة ومتوازنة".
أما الشاب محمد المدهون، فيروي قصته مع المقايضة من زاوية أخرى؛ زاوية الحاجة إلى الزيت النباتي – أو كما يُعرف محليًا بـ"السيرج" – الذي بات سعره يلامس 30 دولارًا للزجاجة الواحدة، وبسبب بطالته وقلة النقد المتوفر لديه، لم يكن أمامه خيار سوى اللجوء إلى مقايضة مخزونه من العدس والأرز بزجاجة زيت واحدة.
شبكات التواصل تنقذ الجياع
يقول المدهون: "لدي قرابة 40 كيلو من العدس والأرز حصلت عليها من مساعدات أثناء الهدنة السابقة، فعرضت على فيسبوك استبدال بعض الكميات بزيت نباتي، خلال ساعات، تواصل معي شخص لديه مخزون من السيرج، ويبحث عن بقوليات، فتفقنا على اللقاء في مكان عام، وتمّت المقايضة".
إرادة لا تُقايض كرامتها
لا تُقاس الحياة هنا بعدد الوجبات، بل بعدد الأيام التي ينجو فيها الناس من الجوع بأقل الإمكانيات، وأكثرها بدائية، المقايضة ليست ترفًا اقتصاديًا، بل فعل بقاء يومي في معركة مع الحصار والمجاعة، وبين كيس طحين وقارورة زيت، تتحدّث شوارع غزة لغة لا يفهمها إلا من عاش الألم، وابتكر من فقره سبلًا للعيش.
وإن كان العالم يعجز عن إيصال رغيف خبز إلى يد طفل، فإن الغزيين – كما في كل مرة – يثبتون أن الكرامة لا تحتاج مالًا لتبقى، بل إرادة لا تقايض إنسانيتها بأي شيء.