بوتين يربط مستقبل روسيا وعظمتها بالنساء... تشجيع الأمومة وإحياء القيم الأُسرية

سياسات بوتين تجاه الأسرة والمرأة تعد جزءاً مهماً من إرثه السياسي. وقد لخصتها النائبة البارزة في حزب روسيا الموحدة ماريا بوتينا بقولها: "بالنسبة إلينا، بلدنا هو طفلنا. يجب ألا تقف في طريق امرأة وطفلها، لأننا سنفعل أي شيء للدفاع عنهما".

  • الاستجابة النسائية لسياسات بوتين
    الاستجابة النسائية لسياسات بوتين

يُمعن الغرب منذ سنوات في تشويه صورة المرأة ومحاولة فصلها عن فطرتها وطبيعتها الإنسانية من خلال تجميل الشذوذ والمثلية والترويج لها، فضلاً عن التحريض على رفض فكرة الأمومة والأسرة التي تُعد من أهم المؤسسات الاجتماعية في معظم مجتمعات العالم، والتي تمثل عنصراً أساسياً في بناء المجتمع ووحدته، وتؤثر في تشكيل الهويات والقيم الثقافية للأمم والشعوب.

في هذا الوقت، تجهد روسيا للمحافظة على صورة المرأة، وتعمل على فرض تشريعات وقوانين لإحياء مفهوم العائلة وتحفيز المواطنين على التمسك بقيمها، مع الحرص على تقديس دور المرأة في الميادين كافة، خصوصاً داخل الأسرة، وحفظ حقها داخل المجتمع، وحمايتها بالتالي من استهدافات الحضارة الغربية المدمرة.

ولهذه الغاية، يستعين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالنساء عبر السعي الحثيث والدؤوب لزيادة عدد سكان بلاده، من خلال تشجيع سياسة الإنجاب لإعادة بناء بلاده كقوة عظمى متمسكة بالقيم الأسرية التقليدية، وهي حملة تواجه مقاومة شرسة من منظمات حقوق الإنسان والجمعيات النسوية، وخصوصاً الأميركية والأوروبية، بذريعة أنها تقلص فرص المساواة وتتناقض مع حريات النساء.

بوتين وإحياء القيم الأسرية

واجهت روسيا لعقود من الزمن، وحتى يومنا هذا، انخفاضاً مقلقاً في معدلات المواليد، وتراجعاً نسبياً في متوسط الأعمار القصير،  وهذا حال العديد من الدول الأوروبية أيضاً التي تعاني من تدني أعداد سكانها، لكن بوتين ميّز روسيا عن غيرها بربط جهودها تلك لزيادة الإنجاب بالأمن القومي وبالهجمة الأطلسية عليها المتمثلة بالحرب الأوكرانية.

إن الدافع وراء سياسات بوتين ليس المصالح الاقتصادية فحسب، بل أيضاً تشكيل مجتمع مبني على الوطنية والمسيحية الأرثوذكسية المحافظة في مواجهة الانحلال الأسري الغربي الذي يرعى المثلية ويروج لمجموعات LGBTQ كبديل من العائلة.

ولهذه الغاية، ظهر الرئيس بوتين مؤخراً على شاشة ضخمة من مكتبه في سوتشي في جنوب روسيا، وحث النساء الروسيات على إنجاب عائلات كبيرة، وقال: "إن إنقاذ وزيادة عدد سكان روسيا هو مهمتنا للسنوات القادمة. هذا هو مستقبل العالم الروسي - روسيا الأبدية الألفية".

وسبق ذلك قيام سيد الكرملين بتكريم النساء اللاتي يجسدن الصورة التاريخية للمرأة الروسية، وترقيتهن إلى مناصب رفيعة المستوى، مثل أمينة المظالم الوطنية للأطفال، ماريا لفوفا بيلوفا، التي لديها 10 أطفال، خمسة منهم بالتبني.

المريب في الأمر أن المحكمة الجنائية الدولية اتهمت بيلوفا، إلى جانب بوتين، بارتكاب جرائم حرب بسبب الترحيل القسري للأطفال الأوكرانيين، لكنها لم تحرك ساكناً إزاء ما ترتكبه "إسرائيل" من إحراق أكثر من 20 ألف طفل فلسطيني بغزة بنيران الأسلحة الأميركية والغربية.

ليس هذا فحسب؛ ففي عام 2022، اعتمدت وزارة العمل الروسية استراتيجية تهدف إلى تحقيق "المساواة الفعلية" بين النساء والرجال. وفي العام التالي (أي 2023)، تم تقليص قائمة الوظائف التي كانت محصورة بالرجال فقط، من 450 إلى 100 وظيفة، ما سمح للنساء بقيادة القطارات أو العمل بحّارات.

في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وقّع بوتين مرسوماً أعلن فيه أن القيم التقليدية هي مسألة أمن قومي، متهماً الولايات المتحدة والمنظمات غير الحكومية الأجنبية وبعض المجموعات والمواطنين الروس بأنهم يعززون "الأيديولوجيا المدمرة" التي تهدد وجود روسيا.

كما أعاد بوتين جائزة "الأم البطلة" السوفياتية لعام 1944 للأمهات اللاتي لديهن 10 أطفال أو أكثر، إضافة إلى تجديد منح "وسام المجد الأبوي". وحرصاً منه على متابعة ملف الأسرة الدقيق والحساس، عقد بوتين في 30 أيار/مايو الماضي مؤتمراً عبر الفيديو من مكتبه في الكرملين مع 9 عائلات كبيرة في جميع أنحاء روسيا فازت بمثل هذه الجوائز. وأثناء المحادثة، أكد أن إنجاب الروس "أكبر عدد ممكن من الأطفال هو الهدف الأساسي لسياسة دولتنا".

وعلى المنوال ذاته، عندما خاطب النساء في الثامن من آذار/مارس لمناسبة اليوم العالمي للمرأة، وقف بوتين إلى جانب "مزهرية" ضخمة تحتوي على باقات من الزهور، وذكّرهن بأنهن جميلات وساحرات، وأن وظيفتهن الأكثر أهمية هي الإنجاب، وتوجه إليهن قائلاً: "أيتها النساء العزيزات، أنتن قادرات على تغيير العالم بجمالكن وحكمتكن وكرمكن الروحي، ولكن قبل كل شيء، بفضل أعظم هدية وهبتكن إياها الطبيعة، وهي إنجاب الأطفال. الأمومة هي مصير مذهل بالنسبة إلى المرأة".

وأعلن بوتين عام 2024 عاماً للأسرة. وفي نيسان/أبريل الفائت، أمر بإحياء مسابقة سوفياتية سابقة تُسمى "هيا يا فتيات"، إذ تتنافس الشابات لإعداد أفضل حساء، أو التنظيف بالمكنسة الكهربائية، أو الرقص، أو ترديد أغنية شعبية، أو الإجابة عن أسئلة حول أعمال الطبخ.

الاستجابة النسائية لسياسات بوتين

حظيت رؤية بوتين الأسرية بتأييد العديد من النساء الروسيات البارزات، مثل يكاترينا ميزولينا التي تلقت تعليمها في لندن، وهي نموذج يحتذى به من قبل الشباب الروسي، وهي ابنة أحد أعضاء مجلس الشيوخ الروسي، وتترأس حالياً "رابطة الإنترنت الآمن"، وهي منظمة رقابية رسمية.

حاربت ميزولينا المشاهير الناشئين المتأثرين بالغرب، وشرعت في إغلاق حانات المثليين، وحجبت مواقع الإنترنت الخاصة بمجتمع المثليين. وعندما سُئلت في إحدى المقابلات عن رأيها في الحركة النسوية، أجابت بشكل قاطع: "أنا لا أفكر في ذلك".

وبالمثل، وفي أيلول/سبتمبر 2022، أطلقت إحدى المواطنات النخبويات، وتدعى يكاترينا كولوتوفكينا، مشروع "زوجات الأبطال"، وهو معرض لصور النساء والفتيات اللواتي قاتل أو مات أبناؤهن أو أزواجهن أو آباؤهن في الحرب، إذ ترتدي سترات الجيش الخاصة بالرجال. عُرض المشروع في أنحاء روسيا، وصمم لاستبدال حزن وغضب النساء بالفخر والاعتزاز وجذب اهتمام بوتين الشخصي. وأوضحت كولوتوفكينا في تصريح أن "روسيا كانت تستورد القذارة من الغرب.. الآن استفقنا.. الآن أرى هذه روسيا الجديدة التي يبنيها رئيسنا فلاديمير بوتين".

تاريخ روسيا في جهود رفع مكانة المرأة

ثمة تشابه كبير بين جهود بوتين لزيادة عدد سكان روسيا وسياسات الرئيس الأسبق جوزيف ستالين، الذي فرض ضريبة على عدم الإنجاب عام 1941، وأدخل جائزة "الأم البطلة" عام 1944، إضافة إلى قيادته حملة دعائية مكثفة حثت النساء السلافيات على إنجاب العديد من الأطفال. وكان ستالين قد أصدر مرسوماً عام 1936 أعلن فيه أن المرأة لم تحصل في أي بلد آخر على "مثل هذه المساواة الكاملة في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والعائلية".

جاءت هذه الإجراءات تتويجاً لما كان القادة الروس قد بدأوه بعد الثورة البلشفية عام 1917. حينها، تدفقت النساء السوفياتيات إلى سوق العمل، وتم تقنين الإجهاض عام 1922، في سابقة عالمية.

ومع تقدم السنوات، أثبتت الروسيات جدارتهن في تحمل المسؤولية والقيام بالمهمات العائلية الوطنية أثناء الأزمات والحروب. ولهذا، قادت النساء السوفياتيات، بما في ذلك مجموعة تُعرف باسم "ساحرات الليل"، بعض الطائرات القتالية خلال الحرب العالمية الثانية، وحافظن على تشغيل المزارع الحكومية والمصانع. وعام 1963، أصبحت فالنتينا تيريشكوفا أول امرأة تطير إلى الفضاء.

تحديات تواجهه خطط بوتين

لا شك في أن ظروف الحرب في أوكرانيا والعقوبات الأميركية والغرب على روسيا ساهمت في منع روسيا من تحقيق خططها التنموية بشكل كامل، ومنها الخطط الاجتماعية المتعلقة بتمكين المرأة وتعزيز دورها ورفع معدلات الإنجاب وغيرها، وخصوصاً أن الحرب ساهمت أيضاً في مقتل عدد من الرجال وإصابة آخرين، كما أن جهود بوتين لتشكيل هذا المجتمع المحافظ، اصطدمت برفض بعض الروسيات إنجاب عدد أكبر من الأبناء، وهذا بشكل أساسي بسبب الأوضاع الاقتصادية والفروقات في الرواتب، وهذا دفع وزارة العمل الروسية في أواخر عام 2022 إلى اعتماد استراتيجية وطنية تهدف إلى تحقيق "المساواة الفعلية" بين النساء والرجال، مع وضع أهداف مثل سد فجوة الأجور بين الجنسين وزيادة التمثيل السياسي للنساء. 

ووفقاً لتقرير "الفجوة بين الجنسين" الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2021، وهو العام الأخير الذي تم إدراج اسم روسيا فيه، تبلغ رواتب النساء الروسيات في المتوسط 60% من رواتب الرجال. أما على صعيد خطوات سد الفجوة الإجمالية المتعلقة بالأجور، فقد سجلت موسكو نجاحات كبيرة، إذ احتلت المرتبة 81 من بين 156 دولة، فيما حلّت الولايات المتحدة في المركز الثلاثين.

في المحصلة، فإن سياسات بوتين تجاه الأسرة والمرأة تعد جزءاً مهماً من إرثه السياسي. وقد لخصتها النائبة البارزة في حزب روسيا الموحدة ماريا بوتينا بقولها: "بالنسبة إلينا، بلدنا هو طفلنا. يجب ألا تقف في طريق امرأة وطفلها، لأننا سنفعل أي شيء للدفاع عنهما".

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.