تفجير كنيسة "مار  إلياس" يرفع مستوى القلق لدى الأقليات في سوريا

شهدت كنيسة "مار إلياس" في دمشق مجزرة مروّعة نفذها انتحاري تابع لتنظيم داعش، وسط تقاعس رسمي أثار ذعر الأقليات. يترافق الهجوم مع تصاعد خطاب طائفي وتحريض علني على مواقع التواصل، وغياب الردع الأمني في وجه الخلايا المتشددة.

  • تفجير كنيسة
    تفجير كنيسة "مار  إلياس" يرفع مستوى القلق لدى الأقليات في سوريا

في "الحميدية"، أحد أشهر الأسواق وأقدمها داخل سوريا، تفاجأ الأهالي خلال الأيام الماضية بوجود علم تنظيم "داعش" الإرهابي يُباع علناً في المحلّات، من دون أيّ تحرك من محافظة دمشق أو الجهات المعنية لإزالته.

ذلك العلم؛ اختبأ خلفه منفذو الهجوم الإرهابي الدموي على كنيسة "مار إلياس" في منطقة "الدويلعة" بدمشق، والذي راح ضحيته أكثر من 27 شهيداً ونحو 60 جريحاً من أبناء الطائفة المسيحية، حيث أعلنت وزارة الداخلية السورية أن الهجوم نفّذه أحد أعضاء تنظيم "الدولة الإسلامية".

وقالت الوزارة في بيان لها: "أقدم انتحاري يتبع لتنظيم داعش على الدخول إلى كنيسة القديس مار إلياس، وأطلق النار على الحاضرين، ثم فجّر نفسه بواسطة سترة ناسفة"، وتابع البيان: "هذه الأعمال الإرهابية لن توقف جهود الدولة السورية في تحقيق السلم الأهلي، ولن تثني السوريين عن خيار وحدة الصف في مواجهة كل من يسعى للعبث باستقرارهم وأمنهم".

لاحقاً، أعلنت وزارة الداخلية السورية تنفيذ عمليات دقيقة في حرستا وكفربطنا، استهدفت مواقع لخلايا إرهابية مرتبطة بتنظيم داعش، تم خلالها القبض على مسلّحين مرتبطين بالهجوم على الكنيسة. 

حادثة الدويلعة أثارت رعباً كبيراً بين السوريين، وخاصّة الأقليات، وسط مخاوف من تكرارها في المستقبل، مع انتشار الفكر المتشدد في البلاد، وعجز السلطات الأمنية عن كبح جماح الخطاب التحريضي المنتشر بكثرة عبر منصات التواصل الاجتماعي.

مجزرة في الكنيسة

أشلاء متناثرة، وجثث هامدة، وصرخات أطفال تطلب النجدة، هكذا بدا المشهد في كنيسة "مار إلياس" بُعيد التفجير الدموي، الذي استهدف المصلين، من دون مراعاة لأيّ حرمة دينية أو أخلاقية لدور العبادة.

ناشطون تداولوا مقطع فيديو للإرهابي الذي فجّر نفسه، أثناء دخوله إلى الكنيسة، حيث سار مسرعاً نحو المدخل الرئيسي، قبل أن يُسمع صوت إطلاق رصاص كثيف، ثم يدوي انفجار عنيف، وتبدأ بعدها صرخات النساء والأطفال تعلو من داخل الكنيسة.

فادي المرعي صاحب أحد المحلّات المجاورة للكنيسة أكد للميادين نت أن الأمور قرب الكنيسة كانت طبيعية كالعادة، ولم يُلاحظ أحد وجود شيء غريب، حيث توافد المصلون إلى الكنيسة، وبعد بدء القداس بدقائق سُمع صوت إطلاق رصاص من داخل الكنيسة، ولدى خروجنا لتفقد ما يجري، دوى انفجار قوي، وأرخت الصدمة بظلالها على الجميع.

يتابع المرعي: "بعد لحظات، ومع تصاعد الصراخ من داخل الكنيسة دخلنا مسرعين، لنجد مشهداً دموياً لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، فهو أشبه بالمجزرة حرفياً، لكن المشهد الأكثر تأثيراً كان لطفلة تبكي قرب جثة والدها، ومعالم الخوف والعجز بادية على وجهها، كما كان مشهد الأشلاء المتناثرة على جدران الكنيسة مرعباً بكل ما تحمله الكلمة من معنى".

إلى ذلك، أثارت التغطية الإعلامية من وسائل الإعلام السورية الرسمية انتقادات لاذعة، خاصّة بعد وصف الضحايا بـ"القتلى" وليس "الشهداء"، إضافة إلى ظهور الضيوف والإعلاميين على قناة "الإخبارية السورية" وهم يتبادلون الضحكات أثناء الحديث عن الهجوم الدموي، ما أثار غضباً كبيراً بين الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي.

أما الحدث الأكثر إثارة للجدل، فكان توجيه أحد ضيوف قناة "الإخبارية السورية" أصابع الاتهام لأبناء الأقليات الأخرى من العلويين أو الدروز أو الكرد بأنهم يقفون خلف التفجير، ما يعكس طبيعة الخطاب الإعلامي الطائفي التحريضي المنتشر في سوريا حالياً.

الخطاب التحريضي المنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وتبنيه من قبل الإعلام الرسمي، بات يشكل مصدر قلق كبير للأقليات، الذين يؤكدون أن هذا الخطاب يقدّم تبريرات للاعتداء عليهم، وربما تنفيذ هجمات إرهابية مشابهة في أماكن تواجدهم ومراكز عباداتهم.

التحريض لم يبدأ اليوم

قبل ساعات من التفجير الإرهابي في منطقة الدويلعة بدمشق، هاجم مسلحون ملثمون كنيسة مار إلياس في بلدة "كفربو" بريف حماة وسط البلاد، وكتبوا عبارات طائفية على جدران الكنيسة؛ بينها عبارة: "جاييكم الدور"، في إشارة تهديد لأبناء الطائفة المسيحية.

وخلال الأسابيع الماضية، سجّلت مدينة حمص عدة هجمات ضد الكنائس التاريخية، حيث أقدم مسلحون على إلقاء قنـبلة صوتية قرب الكنيسة الإنجيلية في حي "العدوية"، وقبل ذلك، هاجم مسلحون ملثمون كنيسة "أم الزنار" في حي "الحميدية" وأطلقوا النار على جدرانها.

كما سجّلت أحياء عديدة ذات طابع مسيحي في دمشق وحمص وحماة انتشاراً لسيارات الحملات الدعوية التي تدعو المسيحيين لاعتناق الإسلام، وسط سخط كبير من الأهالي الذين رأوا في تلك الحملات تضييقاً على التنوع الديني في سوريا، وتهديداً مبطناً ضد أبناء الأقليات.

وقبل أيام، سجّلت منطقة "السيدة زينب" بريف دمشق، حادثة إطلاق نار على مئذنة المقام أثناء أذان المغرب، قبل أن يقتحم مجموعة من المسلحين المقام ويطلقون تهديدات للمصلين بالقتل، ما أثار حالة من التوتر الأمني في المنطقة، ومخاوف من أن تتكرر الانتهاكات في شهر محرم، الذي يشهد حلول ذكرى "عاشوراء" عند أبناء الطائفة الشيعية.

وترافقت حادثة ريف دمشق، مع استمرار عمليات القتل والخطف والابتزاز التي تطال أبناء الطائفة العلوية في عموم مناطق الساحل السوري، من دون أيّ تدخل حكومي جاد للحد منها، وسط حالة متفاقمة من الغضب الشعبي ومطالبات مستمرة بإلقاء القبض على العصابات المنتشرة في الساحل أمام أعين الجهات الأمنية الحكومية.

كما تستمر حالة الفلتان الأمني في السويداء وريفها جنوب البلاد، مع تسجيل عشرات حوادث القتل والخطف بحق أبناء الطائفة الدرزية شهرياً، وسط غياب كامل للأجهزة الأمنية عن المحافظة، ما يعزز من انتشار الجريمة.

الناشطة فرح خير الله تقول للميادين نت إن ما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي من حملات تحريضية تطال مكونات سوريّة بحد ذاتها، ينذر بخطر كبير في قادم الأيام، خاصّة أن لغة التحريض تتصاعد منذ 6 أشهر بدون تحرك حكومي للسيطرة عليها، بينما تعمل وسائل الإعلام الرسمية على تغذية الخطاب التحريضي من خلال طريقة عرضها للأخبار والتقارير.

وتتابع خير الله: "أمام هذا الواقع يجد أبناء الأقليات أنفسهم أمام خطر محدق، وسط مخاوف من تكرار سيناريو كنيسة مار إلياس، وربما بطريقة أكثر دموية إذا ما استمرت الخطابات الطائفية بالانتشار، إضافة إلى وجود تهديدات حقيقية من قبل التنظيمات المتطرفة بشكل علني، وهو ما يفرض على الحكومة التحرك سريعاً لقطع الطريق على تلك التنظيمات قبل تحقيق أهدافها وإراقة المزيد من الدماء".

تهديدات علنية للأقليات

قبل أسابيع من الهجوم الدموي على كنيسة "مار إلياس" بدمشق، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي تهديدات علنيّة من قبل تنظيم "داعش" حول نيته استهداف المراكز المدنية والحيوية في البلاد لإثارة الفوضى، كما خرج تنظيم "أنصار السنّة" المتشدد بعدة بيانات تؤكد نيته استهداف الأقليات داخل سوريا باعتبارهم "كفّار"، إلا أن المريب في القضية كان عدم تحرّك الجهات الأمنية السورية بشكلٍ سريع واتخاذ إجراءات مشددة لتأمين دور العبادة الخاصّة بالأقليات، أو تتبع العناصر المتطرفة التي أطلقت تلك التهديدات بشكل علني، مما أثار تساؤلات عديدة بين السوريين.

وحول هذه النقطة، أكد المرصد السوري لحقوق الإنسان في تقرير له أنه حذّر خلال الأسابيع الماضية من تغلغل الفكر الجهادي المتطرف في مؤسسات الدولة السورية، بما فيها وزارة الدفاع، في ظل وجود عناصر يعتنقون هذا الفكر داخل صفوفها، بينهم مهاجرون غير سوريين انضموا إلى القوات النظامية.

كما كشف التقرير عن التحذير سابقاً من تصاعد خطر تنظيم "الدولة الإسلامية" داخل سوريا، في ظل نشاط خلايا نائمة تابعة للتنظيم داخل عدد من المناطق، على رأسها العاصمة دمشق ومحيطها، مع احتمالات متزايدة لتنفيذ هجمات إرهابية وشيكة تستهدف مكوّنات دينية ومدنية.

وذكر المرصد أنه نشر مقاطع مصوّرة تُظهر عناصر من داخل المؤسسة العسكرية السورية وهم يوجهون تهديدات صريحة للمسيحيين في البلاد، وطالبوهم بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية، وحذروهم من رفع الصليب في العاصمة دمشق، في مؤشر خطير على تنامي مظاهر التطرف داخل بنية النظام الجديد بحد ذاته.

إن ما جرى في كنيسة مار إلياس وسط دمشق يكشف هشاشة الوضع الأمني في سوريا وصعوبة التحديات التي تواجه الحكومة الجديدة في حماية الأقليات، في ظل التهديد المتنامي باستهدافهم من جهات مختلفة، وهذا ما يفرض على الحكومة اتخاذ خطوات جادّة وسريعة لإيقاف حملات التحريض الطائفي المنتشرة على الإنترنت من جهة، والتحرك على الأرض لمهاجمة الخلايا النائمة التابعة للتنظيمات المتطرفة في مختلف المحافظات السورية.

اخترنا لك