فسيفساء ثقافية مهدّدة.. كيف تدير ماليزيا تنوعها العرقي والديني؟
قدّمت ماليزيا للعالم تجربةً فريدةً في إدارة التعدد العرقي والديني، إذ حوّلت فسيفساء الاختلافات إلى مصدر قوة وريادةٍ بدل أن تكون سببًا للتفكك. وبرغم الهشاشة الكامنة، ظلّ العقد الاجتماعي المتجدد سرّ نجاحها في تحقيق "تعايش مُدار" يحافظ على الاستقرار والتنوع.
-
فسيفساء ثقافية مهدّدة.. كيف تدير ماليزيا تنوعها العرقي والديني؟
تمثل ماليزيا نموذجًا معقدًا وملهمًا في آنٍ واحد، في التعامل مع التعدد العرقي والديني واللغوي والثقافي والاجتماعي والجغرافي، وقدرتها على احتواء هذه الفسيفساء المهددة تحت مظلة منظومة حاكمة واحدة، ودمجها بما يُسهم في تطور هذه المنظومة وريادتها ومنافستها لمحيطها، لا تفتيتها.
فالدولة التي تقع في جنوب شرق آسيا، وتتكون من صفيحتين جغرافيتين إحداهما "شبه جزيرة الملايو" التي تشترك فيها مع تايلاند، والأخرى "ماليزيا الشرقية" التي تشترك فيها مع إندونيسيا وبروناي، وجدت نفسها عشية الاستقلال من الاستعمار البريطاني أمام واقع عرقي وديني ولغوي واجتماعي مربك، لا يشبه تاريخها المتجانس.
فقبل الاستعمار كانت البوتقة كلها تُعرف بـ"الملايو الكبرى" أو العالم الملاوي"، وينطق سُكانها لغة البهاسا -التي كانت تُكتب بحروف عربية- وغالبيتهم مسلمون، بشرتهم تتراوح بين القمحي إلى البني الداكن، عيونهم لوزية مع أنفٍ عريض، وبنية متوسطة إلى نحيلة.
لكن الاستعمار البريطاني، فالهولندي، والفرنسي، وخلال سعيه لوضع اليد على الثروات الماليزية، ضرب هذا التجانس من خلال نقل الصينيين والهنود إلى قلب العالم الملاوي، للعمل في مناجم القصدير ومزارع المطاط وتعبيد السكك الحديدية وتسيير الأشغال العامة، فنقلت ما بين القرن الـ19 عشر وأوائل القرن العشرين، عشرات الألوف منهم.
ونتيجة لذلك وجدت السلطنات التي أعادت بريطانيا وهولندا وفرنسا تقسيمها جغرافيًا إلى ماليزيا وسنغافورة وبروناي وتايلند والفلبين، وجدت نفسها ملزمةً باستيعاب العرقيات الجديدة، وتأسيس نظامٍ يمنحها الجنسية ويدمجها في المجتمع الناشئ بعد الاستعمار، ما اضطرها لإعادة هندسة نظامها الاجتماعي بما يتناسب مع المكونات الجديدة فيه.
وهو ما فعلته ماليزيا عام 1957، حين مضت في مسارٍ سياسي واجتماعي يؤسس لعقدٍ اجتماعي جديد، يتجاوز المكتوب إلى المتفق عليه، عُرف في الأدبيات الماليزية بالعقد الاجتماعي الماليزي Malaysian Social Contract، جمع النخب السياسية للمكونات الثلاث، الملايو والصينيون والهنود، على توائم ضمني يتيح تشكيل ثلاثة أحزاب سياسية، هي؛ حزب الملايو (UMNO)، والحزب الصيني (MCA)، والحزب الهندي (MIC)، تتكاتف جميعها في إطار "تحالف الاستقلال" الذي قاد البلاد نحو الاستقلال من الاستعمار.
-
تُوفّر القطارات وسيلةً سلسةً وسهلةً للتنقل في شبه جزيرة ماليزيا.
وفقًا لهذا العقد الضمني، حصل الصينيون والهنود على الجنسية الكاملة وحقوق المواطنة، في حين جرى الاعتراف بالمكانة الخاصة للملايو ومنحهم امتيازات في مجالات التعليم والتوظيف وامتلاك الأراضي والسياسات الاقتصادية. وبرغم أنّ العقد لم يُصَغ في نص قانوني مكتوب، إلا أنّ الدستور الماليزي كرسه وأعطاه الصفة الرسمية.
نتيجة لذلك، وخلال الأعوام الثلاثة الأولى بعد الاستقلال، مُنحت الجنسية لعددٍ كبير من العرقيتين الصينية والهندية، وسُمح لهم بالمشاركة في الحياة السياسية الاقتصادية، بينما تبنت الدولة الناشئة نظامًا تعليميًا يمنح العرقيات خصوصيتها في منظومة متعددة، فرُخصت المدارس الصينية والهندية الابتدائية، ودُعمت جُزئيًا من الدولة، بينما التزمت المدارس الوطنية التعليم باللغة المالاوية.
أصبح واضحًا آنذاك أنّ المجتمع الماليزي الجديد يشكّل لوحةً فسيفسائية من التعددية الواسعة؛ إذ يشكّل الملايو ما بين 55 و60% من السكان ويتمتعون بأفضلية البيوميبوترا (Bumiputera) أو "أبناء الأرض"، بينما يشكّل الصينيون ما بين 23 و25%، والهنود ما بين 6 و7%. وعلى المستوى الديني تداخلت عقائد الإسلام والبوذية والمسيحية والطاوية والهندوسية، فيما توزعت اللغات بين المالاوية والصينية والتاميلية والإنجليزية إلى جانب لغات محلية أخرى.
جهودٌ حكومية للتعايش
-
تحظى السفريات الداخلية بشعبية كبيرة بين الماليزيين
لم تلبث هذه الأنماط من التعددية قليلًا حتى بدأ تباينها يظهر بعد فترة وجيزة من الاستقلال الماليزي، فبينما قاد الصينيون القطاع التجاري والصناعي، بدأ الهنود يتجاوزون نمطية العمل الخدماتي في الزراعة والتعدين إلى مجالات الطب والقانون والتعليم، فيما حافظت السياسات الحكومية على سيطرة الملايو على الأراضي والسياسة، كما ضبطت التوسع الاقتصادي بما يقلل الفجوة بين العرقيات.
وعلى الصعيد الاجتماعي أطلقت الحكومة برامج للوحدة الوطنية، وأنشأت مؤسسات لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات، واعتمدت تقويمات رسمية ومدرسية تعترف بمناسبات وأعياد جميع الأديان، لكن ذلك لم يخفف من حالة الاحتقان العرقي التي انفجرت في 13 أيار/مايو 1969، حين شهدت ماليزيا أعمال شغب بين الملايو والصينيين، أودت بحياة 196 شخصًا، وتسببت في إحراق مئات المنازل والمتاجر، وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وحلّ البرلمان وتعليق الحياة الديمقراطية مؤقتًا.
لتتم بعدها إزاحة تونكو عبد الرحمن، أول رئيس وزراء للبلاد، وفرض رقابة إعلامية شديدة، وتأسيس مجلس العمليات الوطني (NOC)، وإطلاق سياسة اقتصادية جديدة تهدف لتقليص الفجوة الاقتصادية بين الأعراق مع زيادة تمكين الملايو اقتصاديًا وتعليميًا بما لا يؤدي إلى تجاوزهم على المدى البعيد.
وبرغم سلسلة التغييرات التي رافقت ما بعد 13 أيار/مايو، وانحسار المدى الجغرافي للأحداث في العاصمة كوالالمبور وحدها، إلا أنها مثلت صدمة وطنية كشفت هشاشة التحالف العرقي السياسي القائم، لا سيما مع شعور الملايو بأن موقعهم الاقتصادي لا يتناسب مع حصتهم السياسية ولا الديموغرافية، في المقابل شعر الصينيون باللامساواة الوطنية برغم دورهم الكبير في الاقتصاد، وهو ما أطاح بفكرة تونكو عبد الرحمن: "الوحدة في التعدد".
التعايش المُدار
-
أدغال منتزه تامان نيجارا الوطني
لاحقًا تأسست مرحلة من "السلام العرقي"، كانت فيها الدولة تُبقي العرقيات الثلاث تحت سقف المواطنة المشتركة، لكنها في الوقت ذاته تُنتج وتُعيد إنتاج سياسات التمييز الإيجابي على أساس العرق، فالمدارس ما زالت موزعة عرقيًا (مدارس صينية، تاميلية هندية، وملايوية)، والأحزاب السياسية ذات تمثيل عرقي معلن UMNO للملايو، وللصينيين MCA، وللهنود MIC، والإعلام كذلك موزّع وفق اللغة والانتماء.
بمرور الوقت، حاولت الدولة الماليزية الخروج من هذا القيد البنيوي، وتفكيكه من خلال برامج مختلفة، فجاءت "رؤية ماليزيا 2020" التي أطلقها مهاتير محمد عام 1991، لتدعو إلى بناء "مجتمع ماليزي بالكامل" (Bangsa Malaysia) يكون فيه الانتماء الأول للهوية الوطنية وليس العرق.
الرؤية، وبرغم طموحها، لم تتحقق بالكامل بحلول 2020، وبقيت مظاهر الفصل العرقي قائمة، وإن بدرجات متفاوتة، تبعها إطلاق حكومة نجيب رزاق شعار "1Malaysia" عام 2009، في محاولة لتعزيز الوحدة الوطنية، بدون المساس بالامتيازات الدستورية للملايو، وبالرغم من الخطاب الجامع الذي رفعته هذه المبادرة، إلا أنها ارتبطت لاحقًا بفضائح فساد، ما أضعف مشروعيتها المجتمعية.
ومع مجيء أنور إبراهيم إلى السلطة عام 2022، عاد الحديث عن تجاوز سياسات المحاصصة العرقية لمصلحة مقاربة أكثر شمولًا، تحت شعار "Malaysia Madani" (ماليزيا الحضارية)، ومن خلاله تسعى الحكومة الحالية إلى إحياء قيم العدالة الاجتماعية، الإصلاح المؤسساتي، والنهوض بالهوية الجامعة، مع التركيز على المواطنة المتساوية بدل الامتيازات الموروثة، لتُقدَّم اليوم بوصفها مشروعًا سياسيًا–ثقافيًا، لا مجرد شعار إداري، يربط التنمية بالقيم الإنسانية، ويعيد الاعتبار للمساواة أمام القانون والفرص.
هذه الهندسة الاجتماعية الجديدة، تتم من خلالها تقليص مستويات الفقر، وإعادة هيكلة المجتمع بما يدمجه في مختلف القطاعات الوظيفية، ويؤدي إلى تقليل "التعرف العرقي بالوظيفة" أو ربط العرق بالوظيفة والعكس، إضافة لترسيخ العدالة التوزيعية بإنتاج خطابٍ وطني رسمي يساند التعدد، لكن بأطر منضبطة لا تُختل بالتوازن القائم.
الخطاب الجديد هُنا، لا يترك مجالًا لأي نقاش عرقي في المجال العام، لكنه يوفر الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي الذي يمنح ماليزيا مكانتها المتفوقة على محيطها، وهو أيضًا ما يضيف لمجتمعها طبقة وسطى متعددة الأعراق، وانخراطًا مشتركًا في المؤسسات الوطنية.
في المحصلة، تُظهر التجربة الماليزية أن التعدد لا يتحوّل بالضرورة إلى تهديد، لكنه يحتاج إلى عقد وطني يتجدّد بمرور الزمن، بدل أن يُعامل كوثيقة مغلقة، فبين أحداث 13 مايو وصيحات Malaysia Madani، سارت ماليزيا في خط دقيق بين الحدّ من الانفجار وبين تحقيق اندماج فعلي.
في هذا السياق، تغدو ماليزيا ممثلة لحال كثيرٍ من الدول بعد الاستعمار، خاضت صراعات، وبعضها ما زالت تخوضها، للوصول إلى إدارة وازنة للتعدد العرقي بها، ومنها يمكن الاستنتاج أن التفاؤل الساذج بالتعايش والرومانسية الحالمة بمجتمع ملونٍ كقوس قزح، يتمايل معًا لرسم لوحة بهية لنظام اجتماعي واحد يمكن "عقلنته" بتوازن حذر، تدفع فيها الدولة جهدها لإعادة تشكيل المجتمع عبر أدوات اقتصادية وقانونية، بدون أن تتأمل اقتلاعًا نهائيًا لجذور الشك والمظلومة واللامساواة.
بهذا، يمكن تحقيق "تعايشٍ مُدار" كالذي حققته ماليزيا، لكنه مُحاط بالريبة والخوف من انكساره ما لم يتم ترسيخه بمنطق مواطنة جامعة، بدلًا من محاصصة عرقية، تبدأ في المحاصصة التعليمية وتنتهي عند أطباق الطعام، ولغاتٍ متعددة تُرسخ التمايز أكثر من التعايش.