لا ميلاد جديداً والقطاع خلف الجنائز.. كنائس القدس تُصلي من أجل غزة

يسود الهدوء حارة النصارى في البلدة القديمة في القدس، بالقرب من باب الحديد، وهو أحد أبواب سور القدس الذي يمتلئ عادةً في هذا الوقت من العام بأصوات قرع الأجراس وضحكات الأطفال ولهفة الأهالي لإضاءة شجرة الميلاد، لكن أصوات صراخ أطفال غزة هذا العام كان أشد وطأة.

  • لا ميلاد جديداً والقطاع خلف الجنائز.. كنائس القدس تُصلي من أجل غزة
    لا ميلاد جديداً والقطاع خلف الجنائز.. كنائس القدس تُصلي من أجل غزة

لا احتفالات بعيد الميلاد المجيد تشهدها مدينة القدس هذا العام، فشجرة الميلاد لم تُقم، واكتفت الكنائس بإقامة الصلوات من أجل طلب الرحمة لشهداء قطاع غزة، وأملاً بانتهاء الحرب الجارية منذ ثلاثة شهور.

هناك، في الشطر الآخر من الوطن، حالة هدوء تسود حارة النصارى في البلدة القديمة في القدس المحتلة، بالقرب من باب الجديد، وهو أحد أبواب سور القدس الذي يمتلئ عادةً في هذا الوقت من العام بأصوات قرع الأجراس وضحكات الأطفال ولهفة الأهالي لإضاءة شجرة الميلاد، لكن أصوات صراخ أطفال غزة هذا العام كان أشد وطأة وأكثر تأثيراً في نفوس الفلسطينيين باختلاف ديانتهم وأماكن وجودهم. 

فمنذ اندلاع الحرب الجارية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر لعام 2023، تحوّلت مدينة القدس المحتلة إلى سجن كبير، وتحوّل المقدسيون إلى أسرى لحالة عجز وقمع غير مسبوقة، فلا معنى للأفراح أو الأعياد في ظل كثافة الموت ورائحته المنتشرة في أنحاء البلاد.

  • منذ 7 أكتوبر تحوّلت مدينة القدس المحتلة إلى سجن كبير، وتحوّل المقدسيون إلى أسرى لحالة عجز وقمع غير مسبوقة
    منذ 7 أكتوبر تحوّلت مدينة القدس المحتلة إلى سجن كبير، وتحوّل المقدسيون إلى أسرى لحالة عجز وقمع غير مسبوقة

في هذا السياق يشرح الأب أمجد صبّارة وهو كاهن رعية اللاتين في القدس المحتلة؛ اختلاف مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد هذا العام؛ نظراً لخصوصية الأوضاع التي يُعايشها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة تحديداً وعموم فلسطين.

فالحرب لا تزال جارية، وشلال الدم لم يتوقّف بعد، لهذا "اتخذت الكنيسة برؤسائها هنا في القدس قرار الاهتمام بالأمور الروحية هذا العام، أي البحث عن جوهر العيد وهو الاحتفال بميلاد يسوع المسيح من خلال الصلوات والتأمل بالتراتيل، والخروج من القشور والاحتفالات الخارجية المتمثلة بالزينة. الاحتلال يستهدف الإنسان من خلال قصفه للكنائس والمساجد في قطاع غزة، 20 ألفاً ماتوا  وهذا أكثر ما آلمنا".

 ويُضيف: "عادةً كلّ عام، نبدأ العمل من أجل الأعياد في بداية الشهر الـ 12، نعمل على إضاءة الأشجار بالطريقة الرسمية، وتزيين شوارع البلدة القديمة، ونعمل على افتتاح أسواق الميلاد في كل مكان، إضافة إلى الاحتفالات الخارجية التي تضيف البهجة للمدينة وللأطفال على وجه الخصوص. جميع هذه الأمور تم استثناؤها هذا العام".

  • الأب أمجد صبّارة: اتخذت الكنيسة برؤسائها في القدس قرار الاهتمام بالأمور الروحية هذا العام بدلاً من الاحتفالات

وبيّن الأب صبّارة أهمية ما تقدّمه الكنيسة في هذه اللحظة للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، وذلك من خلال وقوفها أمام التحديات التي يمر بها الشعب من ناحية مادية ومعنوية، "فالكنيسة اللاتينة اليوم تقدّم مساعدات لأكثر من 4000 شخص فقدوا أعمالهم، نعمل ذلك لكي نحوّل الألم بمساهمتنا إلى قدرة على العيش بطريقة كريمة، نتكاتف ونتعاون لنحقّق مع بعضنا البعض رسالة الميلاد".

 وخلال السبر في الحارات المحاذية لباب الجديد، صادف وجود عيسى أنيس وهو شاب مقدسي يبلغ من العمر 45 عاماً، اتخذ عهداً على نفسه أن يحمل رسالة حبّ لأطفال القدس المحتلة، مؤدّياً دور السانتا كلوز خلال الأعياد. كان عيسى مرتدياً الزي الخاص بسانتا كلوز ينتظر الأطفال المارين ليضفي البهجة على قلوبهم ويستمر في نقل رسالته من القدس إلى العالم أجمع.

تحدث عيسى عن رسالته لهذا العام، وأسباب وجوده هنا، قائلاً: "رسالتي هي الحب والأمل والسلام من الأراضي المقدسة وتحديداً من القدس إلى العالم أجمع، فإذا حصل سلام في القدس، سيحصل سلام في العالم. أنا موجود هنا من أجل الأطفال، فنفسياتهم متعبة وقلقة وألاحظ أنهم مكتئبون، لذلك قرّرت أن أُعطيهم الأمل والبهجة. في كلّ عام أستقبل ما يزيد عن عشرين ألف زائر خلال الأعياد، لكن هذا العام الوضع مختلف، ومع ذلك يحاول الأطفال من المدن المختلفة في الضفة الغربية مثل بيت لحم ورام الله الوصول إلى القدس بالرغم من صعوبة الحواجز والطرق".

  • الشاب المقدسي عيسى أنيس: إذا حصل سلام في القدس، سيحصل سلام في العالم
    الشاب المقدسي عيسى أنيس: إذا حصل سلام في القدس، سيحصل سلام في العالم

وعلى بُعد أمتارٍ قليلة من باب الجديد، وفي أزقة حارة النصارى، تقطن عائلة الأسير المقدسي جون قاقيش، هذه العائلة تنتظر ابنها منذ تسع سنوات، لم تحتفل معه بعيد الميلاد خلالها، فقد اعتقلته قوات الاحتلال عام 2015 بتهمة طعن مستوطن في البلدة القديمة، ليحكم بالسجن لمدة 11 عاماً، وهو اليوم موجود في سجن ريمون الصحراوي، منقطع بشكل كامل عن الاتصال والتواصل مع المحامين أو مع الأهل، حاله كحال جميع الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال، منذ السابع من أكتوبر لعام 2023.

زار الميادين نت منزل العائلة، محاولاً تسليط الضوء على حال العائلات المسيحية التي تعيش في القدس المحتلة وتعاني من ويلات الاحتلال وجرائمه المستمرة. 

خلال اعتقاله، خضع جون للتحقيق لطيلة أسابيع ومن ثمّ منع على مدى عدة أشهر من زيارة ذويه، وعندما سأله أحد المحققين الإسرائيلين باستفزاز عن سبب قيامه بتنفيذ هذه العمليه على الرغم من أنه مسيحي، فكان جوابه حازماً قاطعاً بقوله: "أنا مسيحي الديانة.. ومسلم الهوى وفلسطيني الهوية والانتماء.. والدفاع عن الوطن والشعب هو واجب على كل الفلسطينيين بغض النظر عن الديانة أو العرق أو الاعتقاد".

يقول والد جون قاقايش في حديث للميادين نت، وقد كان يُخبّئ الدموع في عينه مانعاً إياها من الظهور علناً: "إحنا مش معيدين، بالرغم من أهمية هذا العيد، لكونه يجسّد ذكرى ميلاد المسيح عليه السلام، ولكن وكما أعلنت بطركية دير اللاتين لا يوجد عيد ميلاد، وسنقتصر العيد بالصلاة لشهداء غزة. وبالنسبة لابني جون، فنحن لا نعرف عنه شيئاً منذ بداية الحرب، فش أخبار من السجن، فش زيارات، آخر زيارة كانت لنا عند جون قبل ثلاثة أشهر وكل ما نعرفه عنهم نعرفه من خلال الإعلام، نسمع عن وجود شهداء في السجون وعن حالة التنكيل والقمع المستمرة بحق الأسرى".

ويضيف: "نتأمل أن تحصل صفقة تبادل بين إسرائيل وحركة حماس في القريب العاجل، ويخرج جميع الأسرى من السجن، هناك أسرى في السجن منذ أربعين عاماً، لا يرون أحداً، وقبل كلّ ذلك نتمنّى أن تتوقّف الحرب على غزة، وكل واحد فينا هنا معرّض للموت، إذ إنّ بن غفير يطالب بقتل كل الفلسطينيين سواء أكانوا مسلمين أو مسيحين، هو يريد قتل كل الشعب الفلسطيني".

  • والد الأسير المقدسي جون قاقيش: نتأمل أن تحصل صفقة تبادل للأسرى ويخرج جميع الأسرى من السجن بينهم جون

بينما تصف، والدة جون قاقيش، السيدة خالدة، وأنبوبة الأوكسجين إلى جانبها، فهي مريضة منذ سنوات، وقلبها يتألم لغياب ابنها القسري عنها، ولصعوبة الظروف التي يعايشها المقدسيون في هذه الأيام، الشعب الفلسطيني في القدس المحتلة؛ بأنه" شعب مُقيّد ومقهور". تقول خالدة : "أولاً نقول الرحمة لشهداء غزة، نحن نصلي من أجل أن تتوقّف هذه الحرب عن الأطفال والنساء والرضع والأجنة في بطن أمهاتهن، وبما يخص الأسرى، فهم يتعرضون لحالة تعنيف ممنهجة داخل السجون، واحنا الأهالي نعيش على أعصابنا، وما بأيدينا إلا الصلاة!" 

وتُضيف: "لا يوجد عيد، أنا لا أستطيع أن أعيّد وأنا لا أعرف شيئاً عن ابني، ولا أعرف شيئاً عن صحته، وأتوقّع أنه نزل ما بين 20-30 كيلو في الوزن في ظل حالة التجويع الممنهجة التي يتعرّضون لها، وبالنسبة لحالنا نحن أهل القدس، فنحن مقيّدون، لا نستطيع أن نتكلم ولا نذهب لأي مكان، نبقى في بيوتنا نراقب شرطة الاحتلال، ونخاف من اقتحام مفاجئ، فكل شيء هنا مستهدف حتى شجرة الزيتون، وقد حوّلتنا إسرائيل إلى مهجّرين داخل بلادنا".

مع مرور خمسة وسبعين عاماً على استعمار فلسطين، وما يقارب ثلاثة شهور على جرائم القتل الجماعي وحرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، واستشهاد ما يزيد عن 20 ألف شخص، واستمرار قوى الاستعمار والامبريالية في العالم أجمع متحالفة في فرض وحشيتها، واضطهادها للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة، متجرّدة من مبادئ القيم الإخلاقية والإنسانية.

ومع اقتراب نهاية عام محمّل بالألم والأمل، بالبطولة والوجع، بالفقد واللجوء والخذلان، سيستقبل قطاع غزة عامه الجديد بوابل من الغارات الصهيونية والأميركية المتواصلة، برّاً وبحرّاً وجواً، يعوّض صوتها أطنان مفرقعات العالم.

سيستقبل العالم السنة الجديدة بالقُبلات والضحكات والأُمنيات، في حين تحرم الأمهات في قطاع غزة من تقبيل أولادهن الذين قضوا في القصف، ولا يجد الأطفال دفء أحضان أُمهاتهن، وبينما تخنق العتمة ليل غزة، تضيئه القذائف والصواريخ رُعباً وموتاً.