محطّة نفسيّة | اضطراب ما بعد الصدمة: اللحظة التي لا نعود بعدها كما كنّا

يُعدّ "اضطراب كرب ما بعد الصدمة" أحد أنواع اضطرابات الصدمة والاضطرابات المرتبطة بالتوتر، ويمكن أن تبدأ الأعراض بالظهور بعد مدة طويلة من انتهاء حالة الخطر، فاضطراب "كرب ما بعد الصدمة" حالة نفسية خطيرة.

  • محطّة نفسيّة | اضطراب ما بعد الصدمة خارج العيادة: جرّدتني
    محطّة نفسيّة | اضطراب ما بعد الصدمة خارج العيادة: اللحظة التي لا نعود بعدها كما كنّا

"ايه اللي جابك هنا، إنت مكانك مش هنا، إنت مكانك في مستشفى طب نفسي عسكري، مش فرقة عسكرية".

كانت تلك أولى الكلمات التي تلقّيتها من قائدي حين انتقلت إلى وحدتي العسكرية حين أخبرته أنني طبيب نفسي، لم أكن أعلم أنني على موعد مع مرحلة جديدة من فهم الاضطرابات النفسية، لقد اعتدت مناظرة المرضى فى العيادة، اعتدت على رؤية الاضطراب النفسي بعد نشأته واستقراره في المريض، ولكن مع الحياة العسكرية أصبحت شاهداً على نشأة الاضطراب النفسي من الصفر. كنت شاهداً على تلك اللحظة التى ينتقل فيها المرء من السواء إلى الاضطراب، اللحظة التى لا يعود فيها المرء كما كان، اللحظة التى تتغيّر فيها إدراكاته وانفعالاته وتصرّفاته ليصبح داخل دائرة الاضطراب النفسي، لقد كانت لحظات صعبة بالنسبة لجندي اعتاد الرفاهية في الحياة المدنية، ولحظات أصعب بالنسبة لطبيب نفسي اعتاد مناظرة المرضى في العيادة.

أدركت هناك، في الحياة العسكرية، الخبرة الانفعالية وراء كلّ كلمة قرأتها فى الطب النفسي، لم يعد "الأرق" مجرّد عدم القدرة على النوم، لم يعد "فقدان الشهية" مجرّد عدم رغبة في الطعام، لم يعد "القلق" مجرّد خوف مبالغ فيه وغير مبرّر، لم تعد "الاندفاعية" مجرد سلوكيات متهورة غير محسوبة تبعاتها، لم يعد "الانتحار" مجرّد إنهاء إنسان لحياته، لم تعد كلمة "ضغوط" مجرّد ضغوط، إنها سلسلة من الأحداث التي تفوق طاقة الإنسان، إنها سلسلة من الأحداث التي على وشك أن تقحم إنساناً لديه استعداد وراثي داخل عالم الاضطرابات النفسية.

ومن بين الاضطرابات الأكثر تعقيداً والمرتبطة بشدة بالحياة العسكرية والحروب والإرهاب هو اضطراب "كرب ما بعد الصدمة"، لقد شاء القدر أن أكون هناك شاهداً على كل شيء، كانت لحظات مؤلمة على الجميع، ولكنها أكثر ألماً على طبيب نفسي يدرك تماماً أن الأمر لن يتوقّف عند مجرد "شهداء وناجين من هجوم إرهابي"، الكلّ ينظرون هنا إلى الشهداء وإلى أسرهم، ينظرون إلى ألم الفقد والخسارة، بينما أنا كنت أنظر إلى "الناجين"، أنظر إلى ألم النجاة المترافق بكلّ تلك الذكريات. 

لكن بالرغم من كلّ ما مضى وآسيته، إنني اليوم ممتن للحياة العسكرية ولكلّ التجارب المؤلمة التي جعلتني أعيد النظر فى تخصّصي، ومن قبل أعيد النظر في حياتي وأولويّاتي. ثم أدركت أنّ هناك مَنهجَين يمكن للمرء اكتساب الحكمة من خلالهما: من دون ألم عبر مُعلّم أو مع الألم عبر الحياة. لكن خيار اختبار الألم أرقى بما لا يقاس، كما أخبرنا الفيلسوف آلان دو بوتون في كتابه "كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك". 

ما هو "اضطراب كرب ما بعد الصدمة"؟

يُعدّ "اضطراب كرب ما بعد الصدمة" أحد أنواع اضطرابات الصدمة والاضطرابات المرتبطة بالتوتر، ويمكن أن تبدأ الأعراض بالظهور بعد مدة طويلة من انتهاء حالة الخطر، فاضطراب "كرب ما بعد الصدمة" حالة نفسية خطيرة يمكن أن تحدث بعد تعرّض الشخص نفسه لظرف مُفزع أو موقف فيه تهديد لحياته، مثل مواجهته لصدمة وفاة شخص يحبّه، أو إصابته بحادث خطير، أو تعرّضه للعنف، وغيرها.

ويمكن أن يحدث الاضطراب فى أعقاب أحداث مثل الحرب، الظلم الاجتماعي، التعذيب (وتشمل الإبادة الجماعية)، الحوادث؛ مثل حوادث الطائرات والسيارات وحوادث العمل. الإساءات؛ وتشمل الإساءة البدنية واللفظية والإهمال النفسي فى الصغر والإساءة للمسنّين. العنف؛ ويشمل الاغتصاب والعنف المنزلي والتعرّض لتنمّر متكرّر والملاحقة والتحرّش والاختطاف. وأخيراً الكوراث الطبيعية؛ مثل حرائق الغابات والهزات الأرضية والفيضانات والأعاصير.

وتتزايد مخاطر التعرّض للإصابة باضطراب كرب ما بعد الصدمة كلما كان الحادث الصادم أكثر تهديداً للحياة، وكلما قلّ تأهّب الإنسان لاستيعاب الحادث، وكلما زاد شعور الإنسان بعجزه عن الهروب، وكلما تأخّر الوقت في الحصول على المساعدة اللازمة.

وهناك عوامل شخصية مسبقة إذا توفّرت لدى الضحايا الذين تعرّضوا للحوادث الصادمة، ستزداد احتمالية إصابتهم باضطراب كرب ما بعد الصدمة، وهذه العوامل المهيّئة تشمل المستويات المرتفعة من الضغوط، والاستجابة لها بشكل سلبي تخلو من المواجهة والصمود، كذلك وجود خلل مسبق في النُّظم المعرفية لدى الشخص، وخلل في الشخصية، وحدّية في الانفعال لأتفه الأسباب، وعدد كبير من المعتقدات السلبية حول الآخرين والمستقبل، بالإضافة إلى اتباع أساليب سلبية لحلّ المشكلات الناتجة عن الضغوط، كالهروب والتجنّب والعزلة، وحلّ المشكلات بالعنف والعدوان، أو الانسحاب، أو إدمان المخدرات والكحول والإدمانات السلوكيّة، ولا ننسى وجود تاريخ أُسريّ سابق قبل الإصابة بهذا الاضطراب، عبر وجود أقارب عانوا من اضطرابات نفسية، فيساهم ذلك في ارتفاع احتمال إصابة الشخص نفسه بالاضطراب. 

تتفاوت ردود الفعل والآثار النفسية بين الأشخاص الذين تعرّضوا للصدمة لعدّة أسباب، منها: نوع الصدمة، وتوافر عوامل الدعم والفروقات الفردية بينهم. ومن الآثار النفسية التي تُخلّفها الصدمة: التبلّد العاطفي والقلق والحزن والبكاء والغضب، وجميعها تُعدّ ردود فعل طبيعية لموقف صادم وقاسٍ.

وإذا لم تختفِ أعراض اضطراب التوتر الحاد خلال شهر، فتُشخّص الأعراض على أنها اضطراب كرب ما بعد الصدمة، ولهذا فإن وعي أفراد الأسرة والأصدقاء وانتباههم لأي تغيّر في سلوك قريبهم مهم جداً لتوفير أو طلب المساعدة من المختصّين إن اقتضى الحال. فالتدخّل المبكر قد يقلّص حجم الضرر النفسي الذي يتعرّض له الفرد، وعلى العكس تماماً فإن عدم تلقّي العلاج الفعّال من قبل المختص سيزيد من حدّة الأعراض.

أعراض اضطراب "كرب ما بعد الصدمة" 

أ- أعراض الذكريات الاقتحامية، أو ما يُسمّى بتكرار الشعور بالتجربة الصدمية. إنّ تلك الذكريات المباغتة ليست مجرد ذكريات وحسب، بل إنها مشاهد حيّة وشديدة الدقّة بتفاصيلها المتعبة ومحتواها المجهد، تهجم بشكل خاص قبل النوم أو في الحالة التي يكون فيها الشخص مُجهَداً نفسياً، وقد يكون تأثيرها أشدّ ألمًا من الحدث الصادم نفسه في كثير من الأوقات، ولا يقتصر الأمر على الذكريات المقتحمة بل يمتد كذلك ليشمل الأحلام المزعجة (الكوابيس) .

ب- أعراض التجنّب. غالباً ما يحاول الأشخاص المصابون باضطراب "كرب ما بعد الصدمة" كبت الأفكار وتجنّب المواقف والأشياء التي تُذكّرهم بالحادث الصادم بشكل شعوري أو لا شعوري، وذلك من أجل تجنّب الشعور بالخوف والغضب والتجمّد والقلق والتوتر، وحماية الذات من الضغوط التي قد تنتج من تذكّر الحادث الصادم، حيث  نجدهم يرفضون تلبية الدعوات، ويتخلّون عن واجباتهم وهواياتهم، ويُلاحَظ وجود انخفاض واضح في الاهتمام بالمشاركة في النشاطات الاجتماعية والدينية بعد تجربة الحادث.

ج- أعراض فرط الإثارة والاستثارة الدائمة. فنجد الشخص يفزع بسرعة وعُرضة للاستثارة كثيراً، فيغضب بشكل مبالغ فيه، أو يرتعش باستمرار، أو يجد صعوبة في التركيز، كما أنّ البعض يجد صعوبة فى الاسترخاء ويشعر كأنه على حافة الهاوية. وبسبب فرط الاستثارة والمستمر بشكل طويل، يعاني الشخص من مشكلات في النوم أو مشكلات جسدية، كالصداع المزمن أو ألم في المعدة.

أساليب العلاج النفسي لاضطرابات كرب ما بعد الصدمة 

أولاً: أساليب التعرّض؛ وهذه الأساليب تتطلّب من المصابين بهذا الاضطراب مواجهة المواقف المخيفة والأفكار المرعبة، والتصدّي لها بشكل مقصود ومتعمّد على المستوى التخيّلي، ثم على المستوى الطبيعي في الحياة.

ثانياً: أساليب العلاج المعرفي؛ ويتضمّن هذا النمط من التدخّلات العلاجية المعرفية تعليم هؤلاء المرضى تحدّي أفكارهم وتبديلها بأفكار ومعتقدات إيجابيّة، وتقديم تفسيرات بديلة تفرغ الحادث الصدمي من مضمونه، وتُفقده معناه، مثل: "ليس مروري بحادث صادم معيّن ما يعرّفني أو ما يحدّد حالتي ولا هو محور حياتي، لأن ذلك أمراً طبيعياً وجزءاً من أحداث الحياة التي يمكن أن يمرّ بها أي شخص"، أو "سأتعلّم من مُعالجي كيف أعود إلى حالتي الطبيعية، وعلاجي سيكون فرصة لتعلّم كيفية التغلّب على مثل هذه الأحداث فى المستقبل، مهما كانت كارثيّة"، أو "ليس منطقياً أن تنقلب حالتي النفسية رأساً على عقب لمجرّد مروري بحادث صدمي يمكن أن يمرّ به أيّ شخص آخر".

 

* د. عمرو شامة، طبيب نفسي مصري مقيم في الإسكندرية