مركز سُلطوي مُوازٍ.. نفوذ "الشيخ" يفرض واقعاً جديداً في سوريا
بعد سقوط نظام الأسد، برزت شخصية "الشيخ" كسلطة موازية في دمشق وريفها، تفرض قراراتها على المدنيين وتتحكم بالمؤسسات الحكومية. وتتعاظم المخاوف من صعود نفوذ ديني متشدد يقوّض بناء سوريا الجديدة.
-
مركز سُلطوي مُوازٍ.. نفوذ "الشيخ" يفرض واقعاً جديداً في سوريا
بينما كان "أبو علي" -اسم مستعار- يتفقد منزله شبه المدمّر في بلدة "المليحة" بريف العاصمة السورية دمشق، فاجأه مجموعة من المسلحين الملثمين الذين اقتحموا المكان مدججين بالأسلحة لمطالبته بعدم ترميم المنزل مجدداً، ولا حتى بيعه من دون الحصول على موافقة رسمية من "الشيخ"؛ وقال أحدهم بنبرة حادة: "وضعنا يدنا على المنزل، وإذا كان لديك أيّ اعتراض، عليك بمراجعة الشيخ!".
كان الحادث صادماً للرجل الخمسيني الذي انتظر انجلاء المعارك وانحسار الحرب، ليقوم بترميم منزله بعد سنوات طويلة من النزوح القسري، لذلك لم يكن بيد "أبو علي" حيلة إلا البحث عن "الشيخ" لمعرفة أسباب القرار والسعي للعدول عنه.
نجح "أبو علي" أخيراً في الوصول إلى مركز "الشيخ" عند أطراف "المليحة"، والذي كان محاطاً بالمسلحين الملثمين؛ وبعد انتظار دام ساعتين، سمح المسلحون بدخول الرجل لمقابلة "الشيخ" شرط ألا يتجاوز اللقاء 5 دقائق فقط.
في صدر الغرفة، جلس رجل ملتحي يرتدي ثياب رجال الدين واضعاً خلفه علم "هيئة تحرير الشام"، ولم يبدِ أيّ أهمية لدخول الرجل الخمسيني. "هذا منزل عائلتي منذ سنوات طويلة، واضطررت للنزوح بعيداً عنه نتيجة القصف العنيف خلال الحرب؛ واليوم لم يعد بمقدوري تحمل أعباء الإيجار المضنية"؛ حاول "أبو علي" ثني "الشيخ" عن قراره، لكن كلماته لم تلقَ آذاناً صاغية.
"الشيخ" طالب الرجل بتنفيذ أوامر المسلحين ومغادرة المنطقة وعدم العودة إلى المنزل مجدداً لأنه أصبح ملكاً للهيئة، فما كان من الرجل العاجز إلا الخروج منكسراً خائباً.
يقول "أبو علي" للميادين نت: "منذ العام 2013، غادرت المنزل بسبب اشتداد وتيرة العمليات العسكرية، وانتقلت للعيش بالإيجار في إحدى ضواحي دمشق، وبعد أيام علمت أن المنزل تعرض للقصف وتدمّر بشكل شبه كامل، وبعد توقف الحرب بدأت أقوم بزيارات أسبوعية إلى المليحة من أجل الاطمئنان عليه، وأقوم ببعض الترميم البسيط وإزالة الركام تدريجياً، لأني لا أملك القدرة المادية لشراء منزل جديد أو ترميم المنزل دفعة واحدة".
ويتابع: "منذ اليوم الذي غادرت فيه المنزل، وأنا أحلم باللحظة التي سأعود فيها، لكن ما جرى خلال الزيارة الأخيرة بخّر كل أحلامي، فالشيخ قال إن المنزل لم يعد لي، وهذا القرار لا رجعة فيه، ولن تستطيع أيّ جهة كانت وزارية أم عسكرية تغييره".
حال "أبو علي" كحال عشرات المدنيين السوريين الذين أجبرهم المسلحون على ترك منازلهم في بلدات وقرى الغوطة الشرقية لدمشق بقرار من "الشيخ". هذه الشخصية التي باتت توجد في معظم المراكز الأمنية التابعة للإدارة السورية الجديدة وتتخذ دور "المفتي" والمتحكم الفعلي بجميع القرارات على أرض الواقع.
بدأ ظهور مصطلح "الشيخ" في سوريا بُعيد سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول الماضي، وسرعان ما وجد طريقه إلى مفاصل المؤسسات والهيئات الحكومية التابعة للإدارة السورية الجديدة، حيث باتت أيّ موافقة أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو إعلامية مرتبطة بموافقة "الشيخ".
"الشيخ" وتفجير الكنيسة
في شهر حزيران/يونيو الماضي، هزّ تفجير دموي العاصمة السورية دمشق استهدف كنيسة "مار إلياس" في منطقة "الدويلعة"، وبينما كان أحد الناشطين الإعلاميين يحمل هاتفه لتوثيق ما جرى قرب الكنيسة، فاجأه أحد عناصر الأمن العام بطلب الحصول على موافقة "الشيخ" قبل تصوير أيّ لقطة.
في وقت لاحق نشر الناشط مقطع فيديو وثّق ما تعرض له خلال مهمته الصحافية، وانتقد ارتباط العمل الإعلامي بـ"الشيخ" برغم حصوله سابقاً على موافقات من وزارة الإعلام.
وبُعيد التفجير أيضاً، نشر ناشطون مقطع فيديو يوّثق حديث جرى داخل الكنيسة بين المطران رومانوس الحناة مع أحد مسؤولي الأمن العام، حيث انتقد المطران دور "الشيخ" المتنامي في المجتمع قائلاً: "ما هذا الذي نعيشه؟ المسؤول عني الشيخ فلان، والشيخ علّان، لا يوجد شيء اسمه شيخ، هناك دولة، وإلا فليذهب كل شخص ويفتتح متجراً باسمه".
أطلق هذا التصريح الذي انتشر كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي جرس إنذار لما يمكن أن يحمله الدور المتنامي لرجال الدين المتشددين وتغلغلهم في مؤسسات الدولة السورية ومفاصلها، وإشرافهم على عمل الوزارات والهيئات المدنية والعسكرية بشكل كامل.
بدوره، يرى الناشط السوري كامل عبده يرى في حديثه للميادين نت أن انكفاء مؤسسات الدولة الحيوية وتفتتها عقب سقوط نظام الأسد قبل أشهر ساهم في صعود دور "الشيخ" كسلطة موازية في الدولة، وتحظى بامتيازات فوق القانون وخارج الدستور الذي تم إلغاء العمل به أصلاً من قبل الإدارة السورية الجديدة، لذلك لم يشترط في "الشيخ" أن يكون من أهل العلم أو الفقه، ولا أن يكون رجل دين تقليدي، وإنما مجرد شخص عادي يحظى بقاعدة نفوذ بين المسلحين الذين يأتمرون بأمره.
ويقول عبده: "إن السلطات الجديدة في البلاد لم تستطع حتى الآن الفصل بين العمل الشعبوي الذي كانت تقوم به قبل إسقاط النظام وبين عمل الدولة القائم في الوقت الحالي، لذلك نرى التدخل الكبير من رجال الدين في العمل الوزاري والمؤسساتي، وهذا ما تؤكده بعض المصادر التي تشير إلى أن الشيخ هو صاحب الكلمة الفصل في الهيئات والمؤسسات الحكومية، وسلطته أقوى من سلطة الوزير أو المدير".
وبرغم نفي الإدارة السورية الجديدة لدور "الشيوخ" في العمل الحكومي، إلا أن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك تماماً، فلا يكاد يخلو أيّ حيّ من أحياء دمشق من وجود "شيخ" يتبع له مجموعة من المسلحين، تكون مهمتهم الحفاظ على أمن المنطقة، حسب ما يُقال للأهالي.
تؤكد المعطيات أن بناء سوريا الجديدة يشكّل تحدياً كبيراً يتطلب مشاركة جميع السوريين في نهضة وطنهم مجدداً، مع ضرورة إبعاد الوجوه المتشددة التي تتحكم بدائرة صنع القرار عن المشهد العام، إضافة إلى التركيز على تعزيز مفهوم المصالحة الوطنية وتعزيز الأمن والسلم الأهلي، وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وهذا الأمر يتطلب وجود رؤية شاملة للمستقبل تتضمن وجود مؤسسات قوية وشفافة تعمل على تعزيز الثقة مع المواطنين في سبيل تجاوز آثار الحرب المدمّرة.