من التعاون إلى المساءلة: مراجعة أوروبية شاملة لعلاقاتها مع "إسرائيل"
يواجه الاتحاد الأوروبي اختبارًا أخلاقيًا غير مسبوق، مع اتجاه متصاعد نحو مراجعة اتفاق الشراكة مع "إسرائيل" بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في غزة والضفة. التحول لا يقتصر على المؤسسات، بل يعكس تبدلًا في الضمير الجمعي الأوروبي.
-
من التعاون إلى المساءلة: مراجعة أوروبية شاملة لعلاقاتها مع "إسرائيل"
في لحظة فارقة من تاريخ العلاقة بين أوروبا و"إسرائيل"، يبدو اتجاه مستجد في بروكسل نحو مراجعة شاملة لاتفاق الشراكة مع تل أبيب، استناداً إلى مؤشرات موثقة لانتهاكات إسرائيلية خطيرة لحقوق الإنسان، لا سيما في غزة والضفة الغربية. لكن ما يبدو للوهلة الأولى إجراءاً تقنياً ذا طبيعة سياسية أو قانونية، يخفي خلفه تحولاً بنيوياً في الضمير الأوروبي الجمعي، وفي طبيعة العلاقة بين المجتمعات الأوروبية ومنظومة الاحتلال الإسرائيلي، بما يحمله ذلك من تحديات أخلاقية واجتماعية عميقة تهدد بإعادة تشكيل الوعي الأوروبي تجاه العدالة، الكرامة، ومعنى الشراكة ذاتها.
وكشفت مسودة أوروبية مسرّبة، نشرت تفاصيلها صحيفة "الغارديان"، عن نية مؤسسات الاتحاد فتح مراجعة جدية لبنود الشراكة التجارية مع إسرائيل، في ضوء ما يُعتقد أنه "إخلال صريح من جانب تل أبيب بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان"، لاسيما في قطاع غزة والضفة الغربية. وفي جوهر هذه المراجعة، تبرز خيارات قد تشمل تعليقاً كاملاً للتجارة مع "إسرائيل"، وهو ما سيكون –في حال اعتماده– تحوّلاً جذرياً في تاريخ العلاقات الأوروبية الإسرائيلية، التي طالما وُصفت بـ"المتينة برغم الخلافات".
من شراكة سياسية إلى صدمة أخلاقية
منذ توقيع اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" عام 1995، بنيت العلاقة الثنائية على افتراض مركزي نصّت عليه المادة الثانية: "احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية". لعقود، حافظ هذا الإطار على تماسك سطحي، حيث تغاضت أوروبا عن الانتهاكات المتكررة في الأراضي المحتلة مقابل وعود بإحياء عملية السلام، ومقايضات ضمنية في مجالات التكنولوجيا والأمن والتجارة.
لكن أحداث الحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، وما تبعها من انكشاف كارثي للواقع الإنساني، قلبت هذه المعادلة رأساً على عقب. مشاهد المستشفيات المدمرة، الأطفال الذين يموتون عطشاً أو جوعاً، وصور النازحين في المدارس، لم تعد مجرد وقائع إعلامية عابرة، بل تحولت إلى محفزات وجدانية واجتماعية داخل الوعي الجمعي الأوروبي.
هذه الصور انتقلت إلى شاشات الأسر الأوروبية، وإلى ساحات الجامعات، ومراكز العبادة، وحتى موائد الحوار العائلي. من هنا بدأ التحول: من سياسة صامتة إلى صرخة اجتماعية جماعية متصاعدة تطالب بالمساءلة.
وتطرح هذه اللحظة أسئلة وجودية على الهوية الأوروبية ذاتها: كيف يمكن لمجتمعات تأسست على معايير إنسانية عالمية، أن تواصل علاقات تجارية واستراتيجية مع كيان متّهم باستخدام التجويع كأداة حرب؟ ماذا يعني مفهوم "الشراكة" حين يصبح الطرف الآخر منتهكاً لحق الحياة الأساسي؟
إن حجم الغضب الشعبي في مدن مثل دبلن، برشلونة، بروكسل، وأوسلو، تجاوز الموقف الموسمي، ليعكس تياراً اجتماعياً متصاعداً يطالب بجعل القيم الأوروبية - من حقوق الإنسان إلى العدالة الاجتماعية - مُلزمة قانوناً ومؤسساتياً، لا مجرد شعارات انتخابية أو دبلوماسية.
وفي هذا السياق، لم يعد ممكناً تجاهل أن الضغط الاجتماعي أصبح دافعاً للمؤسسات الأوروبية لاتخاذ مواقف أكثر صرامة. فلم يكن تصريح كايا كالاس – المسؤولة عن السياسة الخارجية الأوروبية – ببحث إمكانية تعليق التجارة مع "إسرائيل" ليحدث لولا زخم اجتماعي غير مسبوق يطالب بأن تكون أوروبا "على قدر مبادئها".
أيرلندا: الذاكرة الجمعية تتكلم
الموقف الأيرلندي، والذي اتخذ شكل تشريع لحظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية، لا يمكن فهمه خارج الإطار الاجتماعي والتاريخي. فالمجتمع الأيرلندي، الذي عانى من الاحتلال والاستعمار والنزاعات الطائفية، يرى في ما يجري في فلسطين صدىً لتجربته الخاصة. لهذا، فإن التحرك التشريعي الذي قاده البرلمان الأيرلندي تحول إلى تعبير عن هوية ثقافية ومجتمعية تعتبر مناصرة الشعوب المقهورة جزءاً من العدالة التاريخية.
المفارقة أن هذا القانون –برغم محدودية أثره الاقتصادي (685 ألف يورو في أربع سنوات فقط) أحدث صدىً سياسياً هائلاً، لأنه كسر حاجز التواطؤ الرمزي، وتحدى الثقافة الأوروبية السائدة بالتردد في فرض أي مساءلة على "إسرائيل".
الدرس الأيرلندي أوضح أنه حتى الدول الصغيرة قادرة على تحريك موازين الوعي الأوروبي، عندما تتصرف من منطلقات أخلاقية لا حسابات براغماتية باردة.
علاقة مختلفة مع المخيال الفلسطيني
لم يكن صوت الضحية الفلسطيني حاضراً بقوة في الفضاء العام الأوروبي لعقود، نتيجة لتوازنات القوة، وهيمنة الرواية الإسرائيلية في الإعلام والسياسة. لكن تطورات السنوات الأخيرة –ومع تصاعد المنصات الرقمية، وتزايد الحضور الفلسطيني في الجامعات الأوروبية- أعادت تشكيل المخيال الجمعي الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية.
ولم يعد الفلسطيني هو "الآخر الغريب"، بل باتت صورته –في المخيلة الجماعية– صورة الإنسان الذي يُحرم من حق الحياة، الغذاء، التعليم، والكرامة. هذا التحول الاجتماعي هو ما يجعل مواقف مثل الموقف الأيرلندي قابلة للانتقال إلى دول أخرى، ويجعل الضغط الشعبي عنصراً حاسماً في إعادة هيكلة السياسة الأوروبية تجاه "إسرائيل".
سؤال أوروبي كبير: سياسة القيم أم اقتصاد المصالح؟
يسلك الأوروبيون اليوم بهدوء مساراً جديداً، تختبره برلماناته ومجالسه الوزارية، ويطال مستوى توافقهم الاجتماعي على أن الكرامة الإنسانية غير قابلة للمساومة. فإما أن يكون الاتحاد الأوروبي كتلة سياسية تُدافع عن نظام عالمي عادل، أو يصبح مجرد تكتل اقتصادي يُقايض القيم بالامتيازات.
الخيارات اليوم أكثر وضوحاً من أي وقت مضى:
تعليق التجارة مع "إسرائيل"، بناءً على انتهاكها لبنود الاتفاق، سيكون إعادة توازن أخلاقي في علاقات أوروبا الخارجية.
الإبقاء على الوضع الراهن يعني التخلي التدريجي عن كل ما ادّعاه الاتحاد من التزام بحقوق الإنسان.
أي خطوة وسطية –من قبيل "تحذير دون عقاب"– لن تكون إلا ترسيخاً لمعادلة الازدواجية الأوروبية التي يُدان بها الغرب أمام الرأي العام العالمي.
إن الحديث عن مراجعة الشراكة الأوروبية–الإسرائيلية لا يختزل في مفاوضات تجارية أو أوراق بيروقراطية. لأنه في جوهره سؤال حضاري عن معنى أن تكون أوروبا اليوم: هل تملك الشجاعة الكافية لأن تترجم مخزونها القيمي إلى فعل سياسي واجتماعي؟ وهل تستطيع أن تفصل بين المصالح وبين العدالة حين تُختبر في أكثر القضايا حساسيةً؟