نوبي وسيوي وصعيدي.. التراث المصري باقٍ في الأشغال اليدوية

لا يزال التراث المصري الذي يصل عمره إلى آلاف الأعوام قائماً في عدد من المحافظات، ويجهد في إحيائه عدد كبير من الحريصين والمهتمين، وذلك من خلال الأشغال اليدوية والملابس وغيرها.

  • تعتبر صناعة الخوص من الصناعات اليدوية التي تشتهر بها النوبة
    تعتبر صناعة الخوص من الصناعات اليدوية التي تشتهر بها النوبة

في التراث المصري، لا شيء عبثيّ. قد تظن أن وجوده خطأ في عمل ما، سواء أكان ملابس أم اكسسوار أو مشغولات أخرى، لكنّ لكل شيء معنى ورمزاً، وقد تكون وراءه قصة أيضاً. والمؤكد هو أن التراث المصري الذي يصل عمره إلى آلاف الأعوام لا يزال باقياً ومستمراً، ولا يزال الحفدة يصنعونه وينقلون طريقته من جيل إلى آخر.

التلي السوهاجي للأميرات والفنانات 

في مدينة تبعد أكثر من 500 كيلومتر من القاهرة، هناك أشهر وأندر الصناعات التراثية المصرية، وهي صناعة التلي، ربما لا يسمع بها الكثيرون، لأنه لولا جهود بعض النساء الصعيديات حالياً، لإعادة إحياء تراث التلي، لكانت اندثرت هذه الصناعة.

التلي هو شغل التطريز بخيوط من الذهب أو الفضة، مُطعّمة داخل الملابس بموتيفات مصرية صميمة، كل قطعة منها هي قطعة فنية تحكي حكاية شعبية خاصة مع الرموز التي يجري رسمها عليه، وكل رمز له دلالة مثل منع الحسد أو جلب الزرق.

انتبهت إلى هذه الصناعة أخيراً بعض المشاهير في مصر، أمثال: يسرا، ومنى الشاذلي، وإسعاد يونس، أما من فنانات الزمن الجميل، فهناك أسمهان، وتحية كاريوكا، والملكة نازلي، وحديثاً الفنانة باربرا سترايسند، التي ارتدت فستاناً من تصميم كريستيان ديور بالتلي والأميرة سلمى ابنة الملك عبد الله ملك الأردن.

موطن التلي وطريقة صناعته

  • على جزيرة شندويل بـمحافظة سوهاج صعيد مصر، عرفت حرفة التلي إحدى الحرف اليدوية التراثية
    على جزيرة شندويل بـمحافظة سوهاج صعيد مصر، عرفت حرفة التلي إحدى الحرف اليدوية التراثية

كانت صناعة التلي فناً مصرياً مندثراً، أعاد إحياءه مرةً أخرى وجود أجانب في مصر قبل سنوات عديدة، إذ جلبوا معهم قطع قماش تراثية قديمة تعود إلى عهد الفراعنة، وكانوا يبحثون عن أي "خيط" يدلهم على معلومات حول هذا الفن، ومن صنعه، ومن يصنعه، حتى اهتدوا إلى محافظتي سوهاج وأسيوط، ثم أعيد إحياء هذا التراث، وفق السيدة ماجدة من محافظة سوهاج في حديثها إلى الميادين نت.

اقتصرت حرفة التلي فقط على الجدّات والأمهات في البيوت في أسيوط وسوهاج، وكانوا يصنعون فساتين وشالات من خيوط الفضة للابنة، خصوصاً للتي ستتزوج، على قماش أبيض، ويكون الفستان وطرحة الفرح هدية من الأم، وهو فن من أيام الفراعنة.

وقالت ماجدة إنّ تسويق هذا الفن كانت تكفله قديماً السفن التي كانت تمر على بلدتهم، وهي ذاهبة إلى مصر (تقصد القاهرة لكن باللهجة المحلية) لتسويقها هناك. وأضافت أنه قديماً كانت السيدات الثريات يصنعن قطعهن من التلي باستخدام خيوط الذهب، أو من الفضة الخالصة.

بحثت ماجدة، أين تجد القماش، وتوصلت إلى مصنع في القاهرة، واقتنت منه خيوطاً من الفضّة، ومع أول مؤتمر للسكان يُعقد في مصر عام 1994، عرضت ماجدة مشغولاتها فأعجب بها كثيرون، وبدأ عملها بالازدهار، حتى إنها نشرت هذه الصناعة في بلدتها، فكل سيدة تتعلّمه كانت تعلمه لعشر سيدات أخريات، وهكذا حتى أصبح هناك المئات من السيدات يحترفن هذه الصناعة مرة أخرى.

بعد فترة ذاع صيت السيدة ماجدة، وبدأت بإلقاء محاضرات تدريبية في هذه الصناعة التراثية مع مؤسسة "كنوز يدوية"، التي ساعدتهم على التصدير فيما بعد، وحضرت عدداً من مشاريع التخرج، خصوصاً في كلية الفنون الجميلة، ودربت وفداً من هولندا، وآخر من الدنمارك على صناعته من أجل تطريز الكراسي والكنبات وخزانات الملابس التي يصنعونها.

وتجوب ماجدة محافظات مصر حالياً مع المجلس القومي للمرأة لتعليم السيدات الحرفة حتى لا تنقرض. 

فلاحي وسيناوي ومن كل المحافظات

من كل مكان حرفياً، هذه هي الحال مع إحدى المبادرات التي تقوم على تسويق المنتجات اليدوية التراثية المصرية، وهي مبادرة "كنوز يدوية"، التي أسّست عام 2012 لتساعد في ترويج المنتجات المصرية من كل مكان، ومن أماكن قد لا تظن أن أهلها يقومون بأشغال يدوية.

يقول سعد، مدير "كنوز يدوية" لـلميادين نت، إنّ الفكرة تعود إلى شقيقه الذي كان يعمل في وزارة البيئة، وطاف محافظات مصر، خصوصاً الحدودية ومنها حلايب وشلاتين، ووجد أنّ السيدات يقمن بصناعة مشغولات يدوية، لكنهن يفتقرن إلى التسويق، ووجد أن القيمة السوقية للقطعة أقل من القيمة الفعلية لها، فخرج بفكرة افتتاح شركة لتسويق هذه المشغولات وتشجيع النساء على مواصلة صناعتهن.

استفاد سعد من عمله الذي عرّفه بعدد من الحرفيين في مصر، فكان من السهل أن يتواصل مع أمهرهم في كل المحافظات، فهناك المهَرة في صناعة التلي من سوهاج، وهناك الخوص والخرز والجلد وخشب السرسوع من الصعيد، وهناك مشغولات فلاحية من عظام الجاموس من مدينتي دمنهور وأسيوط.

أما عن أكثر المنتوجات مبيعاً، فهي مشغولات الخشب والكليم والصوف والجلد الطبيعي والخوص والمشغولات الفلاحي والتلي، ومشغولات سيناوية والكروشيه والفخار.

الملابس السيوية لمنع الحسد وجلب الرزق

  • أزياء نساء سيوة
    أزياء نساء سيوة

تزخر مصر بالتنوع الثقافي، ليس بين شمالها وجنوبها فحسب، بل في كل مكان منها، وخاصة في واحة سيوة في قلب الصحراء الغربية على بعد نحو 700 كيلومتر من القاهرة، وهي مكان يتحدث أغلب أهله باللهجة الأمازيغية، ويعيشون في مجتمع مغلق يحافظون فيه على عاداتهم وتقاليدهم.

جذبت ثقافة أهل سيوة الشابة أماني الزواوي، التي قررت عام 2019 أن تذهب للإقامة في سيوة والتمتّع بالطبيعة البدوية الهادئة، فعملت بادئاً في أحد الفنادق، لكن جذبتها المشغولات اليدوية التي تشغلها نساء سيوة، وحينما بحثت في هذا الأمر وجدت أنه فن شعبي أوشك أن يندثر مثل كثير من الفنون الشعبية التراثية المصرية.

وبحسب تصريحاتها إلى الميادين نت، في بداية وجودها في سيوة كانت تساعد مالكة الفندق على الطبخ، وفي وقت الفراغ تساعد في الديكور. حينذاك، فكرت في إطلاق علامتها التجارية من المشغولات اليدوية السيوية، لكن مع خامات عملية أكثر مثل القطن، ولأنهم يستخدمون موتيفات كثيرة في التطريز فمن من الممكن أن يستغرق صنع قطعة واحدة من الملابس نحو عام، فحاولت حل هذه المشكلة بصنع ملابس مصنوعة يدوياً مستوحى تطريزها من التطريز السيوي، فخرجت كل قطعة كأنها لوحة فنية.

جذب انتباه أماني أن لكل قطعة من المشغولات السيوية، سواء في الحلي أو الملابس مثل عقد الصالحيات أو شال الزفاف، قصةً مثيرة، جعلت أماني تبحث كثيراً حولها. وبمرورك بصفحة العلامة التجارية الأولى الخاصة بها "نوارة" عبر فيسبوك أو إنستغرام، تجد قصة كلّ قطعة، فهناك قطع خاصة بالأفراح، وهناك قطع لمنع الحسد مثل الشنشونة التي كانت توضع فيها التعاويذ وغيرها.

تقول أماني إنها علمت أن فتيات سيوة حينما يصبحن في العاشرة يقمن بتطريز ملابسهن بأنفسهن متضمنةً رموزاً معروفة لدى أهل الواحة مثل قرص الشمس أو السمكة، وذلك لأن اللهجة الأمازيغية التي يتكلمون بها ليست مكتوبة، وإنما منطوقة، لذلك حاولوا رسم ما يدل عليها في تطريزهن.

هذه المبادرات الفردية تتوازي أيضاً ومبادرات رسمية عديدة تطلقها الدولة أخيراً لحماية التراث المصري من الاندثار، مثل مبادرة "أيادي مصر"، ومبادرة "أهل الكف"، ومعارض "تراثنا" و"ديارنا"، التي تقام سنوياً برعاية من المجلس القومي للمرأة، وعدد من الهيئات الرسمية كوزارة التضامن الاجتماعي.