المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال

المراهنات على كرة القدم تحوّلت من تسلية وإدمان سلوكي إلى تطبيع تدريجي واعتياد رمزي على الاحتلال الإسرائيلي.

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
    المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال

لم يكن مشهدًا عاديًا، عندما أخذ سائق سيارة أجرة في العاصمة اللبنانية بيروت هاتفه، ليحدّث صديقه عن الأموال التي ربحها من المراهنات على مباريات كرة القدم. لكن الصدمة الحقيقية كانت عندما قال له إنّ معظم النقاط التي حصل عليها كانت من رهانه على الدوري الإسرائيلي. 

تدخّل راكب في تلك اللحظة ليسأله: "وهل الأمر عادي بالنسبة لك؟"، ليردّ: "إيه عادي"، قبل أن يكون السؤال الثاني من أحد الركّاب: "وكيف تعرف الفرق واللاعبين؟"، ليجيب السائق ببساطة: "ندخل إلى Google ونبحث عن المباريات ونتابع قائمة الهدافين والصانعين، ونبحث عن روابط بث لمشاهدة المباريات... عم نتسلّى منها، قصة شو عم نحكي معهم نحن".

هذا المشهد الذي قد يبدو بسيطًا للوهلة الأولى يلخّص ظاهرة أخطر بكثير من مجرد تسلية أو ربح سريع، إذ يختزن بداخله تحوّلًا في القيم والمعايير، وتسللًا تدريجيًا للتطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي عبر بوابة الرياضة والمقامرة.

خلفية تاريخية عن المراهنات على كرة القدم وانتشارها عالميًا

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
     تحوّلت كرة القدم إلى صناعة ترفيهية ضخمة، ساهمت في ولادة ما يُعرف بنظم المراهنات المنظمة

منذ نشأة كرة القدم الاحترافية في أوروبا أواخر القرن الـ19، بدأت المراهنات تأخذ طابعًا منظمًا، خصوصًا مع تأسيس دوريات كبرى مثل الدوري الإنكليزي والدوري الإيطالي. ومع الوقت، تحوّلت كرة القدم إلى صناعة ضخمة، نشأت معها نظم المراهنات المنظمة مثل "Fixed Odds Betting" في بريطانيا، التي أصبحت معيارًا عالميًا.

شاهد.. جماهير أول بويز الأرجنتيني ترفع "تابوت إسرائيل" وتلوّح بأعلام فلسطين وإيران

في العقود الأخيرة، ومع انتشار الإنترنت والتطبيقات، تضخم حجم هذه السوق بشكل هائل. وتقدّر تقارير أوروبية أن حجم المراهنات الرياضية عبر الإنترنت بلغ في أوروبا عام 2022 أكثر من 35 مليار يورو، وكانت كرة القدم في الصدارة.

أما في المنطقة العربية، فقد أسهمت المنصات الرقمية في توسيع قاعدة المراهنين، حتى بين المراهقين، لتصبح من أسرع الصناعات الترفيهية نموًا. وتشير الدراسات إلى أن المراهنة ليست مجرد تسلية، بل تنطوي على عوامل نفسية خطيرة، أهمها وهم القدرة على التنبؤ وإثارة المخاطرة التي قد تقود إلى الإدمان.

المراهنات: من لعبة حظ إلى بوابة تطبيع مقنّع

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
    توضح أبحاث في مجال السياسات الرياضية أنّ الرياضة تُستخدم تاريخيًا كأداة لإعادة إنتاج صورة الدول وتطبيع حضورها السياسي

بينما تتوسّع المراهنات على كرة القدم لتشمل كل البطولات الكبرى والصغرى حول العالم، بدأت هذه الظاهرة تأخذ منحًى أخطر في السنوات الأخيرة، يتمثّل بتحوّلها إلى قناة غير مباشرة لتطبيع الوعي الجماعي مع كيان الاحتلال الإسرائيلي. فقد أصبحت منصّات المراهنات الرقمية تعرض البطولات الإسرائيلية إلى جانب البطولات الأوروبية الشهيرة، بلا أي تمييز أو تحذير، ما يرسّخ حضورها كـ"منتج رياضي عادي" في ذهن المستخدمين، خصوصًا المراهقين والشباب.

توضح أبحاث في مجال السياسات الرياضية أنّ الرياضة تُستخدم تاريخيًا كأداة لإعادة إنتاج صورة الدول وتطبيع حضورها السياسي، وأنّ المراهنات تسهم بشكل غير مباشر في تكريس هذا الحضور، لأنها تربط المستهلك عاطفيًا وماديًا ببطولات وأندية يراهن عليها، بغضّ النظر عن سياقها الأخلاقي والسياسي.

وعندما يراهن شخص بشكل متكرر على فريق إسرائيلي، يتابع نتائجه ويشجعه لتحقيق مكاسب شخصية، تتحوّل العلاقة مع هذا الفريق من كونها علاقة رفض أو نفور إلى علاقة اهتمام وربما تعاطف عابر، ما يخلق حالة من "التطبيع العاطفي" الصامتة.

إضافة إلى ذلك، تتعاقد شركات المراهنات العالمية مع دوريات رياضية، ومنها دوري الاحتلال الإسرائيلي، الذي يواصل منذ احتلاله فلسطين جرائمه اليومية وإبادته الجماعية في قطاع غزة. هذا التعاون التجاري لا ينحصر في إطار الترفيه، بل يعني عمليًا أن جزءًا من الأموال التي يضخها المستخدمون في الرهانات يتحوّل إلى رعايات مالية مباشرة أو ضرائب ورسوم تُدفع لتلك الدوريات والجهات المالكة لها. أي أن المراهنين يساهمون "من دون وعي" في تمويل أجزاء من هذه المنظومة الدعائية والاقتصادية التي تعمل على تلميع صورة الاحتلال وإظهارها بصورة الدولة الطبيعية والشرعية داخل السوق الرياضي العالمي.

وبهذا، تتحوّل المراهنة إلى أداة مزدوجة: أداة إدمان فردي على الربح والمخاطرة، وأداة جماعية لزعزعة الوعي التاريخي والسياسي، وإدماج رموز الاحتلال في الحياة اليومية دون مقاومة أو مساءلة.

هذا الارتباط الخفي بين المراهنة والتطبيع له مستويات عدة:

أولًا: المتابعة المستمرة للأخبار والنتائج والإحصائيات عن الفرق الإسرائيلية.

ثانيًا: الانخراط العاطفي في تتبّع اللاعبين والاحتفاء بإنجازاتهم، ما يكرّس تقبّل وجودهم الطبيعي.

ثالثًا: توجيه جزء من الأرباح أو الاشتراكات نحو المنظومة الدعائية والمالية التي تغذّي هذه البطولات.

كل هذا يجعل من المراهنات على الدوري الإسرائيلي تحديدًا صورة واضحة لتطبيع مقنّع يمرّ من بوابة التسلية والربح السهل، من دون الحاجة إلى خطاب سياسي مباشر أو تبرير أيديولوجي.

البعد النفسي والإدماني

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
     يصبح تكرار الرهان على مباريات محددة، بما فيها بطولات الاحتلال، عاملًا لترسيخ علاقة اعتيادية مع هذه الفرق واللاعبين

لا يمكن عزل هذه الظاهرة عن بعدها النفسي العميق. فالمراهنات الرقمية توظف تقنيات الإدمان السلوكي المتعمّد، مثل المكافآت الفورية والإشعارات المستمرة، بما يجعل المراهن يعيش حال ترقّب دائم شبيهة بما يحصل في ألعاب المقامرة التقليدية. 

ومع الوقت، يصبح تكرار الرهان على مباريات محددة، بما فيها بطولات الاحتلال، عاملًا لترسيخ علاقة اعتيادية مع هذه الفرق واللاعبين وتفريغ الموقف الأخلاقي والسياسي والانتمائي من مضمونه. الأخطر من ذلك أن تراكم الخسائر قد يقود إلى تراكم الديون، خاصة لدى الفئات الشابة محدودة الدخل.

في كثير من الحالات، يجد الشاب نفسه عالقًا في حلقة من العجز المالي والضغط النفسي، ما يجعله عرضة لأي إغراءات تطرحها شركات الرهان أو جهات مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، سواء عبر تقديم عروض عمل، أو تسهيلات مالية مشروطة، أو ما يُسمّى "برامج استرداد الخسائر". بهذه الطريقة، تتحوّل الديون إلى أداة ابتزاز غير مباشرة، قد تدفع البعض للقبول بالتعاون أو العمل مع الاحتلال، تحت ضغط الحاجة إلى سداد الالتزامات.

هذه الآلية تُظهر كيف يمكن للرهان أن يكون أكثر من مجرد لعبة حظ، بل بوابة مفتوحة لاختراق الوعي وتطويع الأفراد على المستويين النفسي والاقتصادي، يتحول بعدها الفرد من مقامر على المباريات إلى عميل للاحتلال، تحت ذرائع ليست مقبولة وغير مبررة، والسبب! المقامرة.

البعد القانوني والمسؤولية المؤسساتية

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
    تُسهم شركات الإعلان الرقمي في تضليل المستهلكين عبر حملات ترويجية جذّابة تُصمّم خصيصًا للجمهور العربي

في لبنان مثلًا، لم تعد المراهنات على كرة القدم مجرّد نشاط ترفيهي محدود، بل تحوّلت إلى نافذة مفتوحة على بطولات تشمل الدوري الإسرائيلي، في ظل غياب أيّ ضوابط أو تشريعات واضحة تمنع هذا الشكل من التعاطي. فعلى الرغم من أن القانون اللبناني يجرّم التعامل المالي مع العدو الإسرائيلي بشكل مباشر، إلا أن المراهنة الرقمية تتم عبر وسطاء ومنصات دولية مسجّلة في دول لا تعتبر هذا التعامل خاضعًا للعقوبات، ما يخلق ثغرة قانونية يصعب ضبطها.

وبينما تلتزم بعض الدول الأوروبية بقواعد تمييزية في تصنيف البطولات وتصنّف بطولات الاحتلال ضمن قوائم خاصة أو تحذيرية، تكتفي كثير من المنصات الإقليمية بعرض رزم مراهنات على المباريات الإسرائيلية من دون أي إشارة أو تنويه يوضّح الخلفية السياسية والحقوقية لهذه المسابقات.

اقرأ أيضًا.. المجزرة الصامتة.. أرقام صادمة لخسائر الرياضة الفلسطينية في ظل العدوان المتواصل

هذا الواقع يطرح أسئلة جوهرية حول مسؤولية المؤسسات الإعلامية والمنصات الرياضية وشركات التكنولوجيا المالية التي تيسّر عمليات الرهان وتحجبها عن أعين الرقابة. فالمنصات الإلكترونية تمنح المستخدمين وسائل إيداع وسحب ميسّرة وبطاقات مدفوعة مسبقًا أو محافظ رقمية مرتبطة بتطبيقات الهاتف، ما يجعل الشاب أو المراهق في قلب هذه المنظومة من دون وعي بخلفياتها أو آثارها القانونية.

إضافة إلى ذلك، تُسهم شركات الإعلان الرقمي في تضليل المستهلكين عبر حملات ترويجية جذّابة تُصمّم خصيصًا للجمهور العربي، وتخفي تمامًا البُعد السياسي للبطولات أو المخاطر القانونية لبعض المعاملات. كما يفتقر كثير من الدول العربية إلى آليات رقابة إلكترونية قادرة على رصد تدفقات الأموال الصغيرة عبر المحافظ الافتراضية أو العملات المشفّرة، وهو ما يعقّد جهود الملاحقة.

كل ذلك يجعل من الضروري توسيع النقاش القانوني والمؤسساتي في لبنان والمنطقة حول مسؤولية هذه الجهات، وتحديث التشريعات لتلزم المنصات بالإفصاح الواضح عن خلفية الدوريات المستهدفة، وإضافة تحذيرات واضحة، بل وربما حجب بطولات الاحتلال عن قوائم الرهانات المتاحة للمستخدمين العرب.

أثر المراهنات على الهوية والانتماء

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
    ينشأ ما يشبه "التطبيع العاطفي" مع التكرار حيث يختفي الشعور بالنفور أو الرفض

لا يقتصر التأثير على الجانب المادي فحسب، بل يمتد إلى الهوية والانتماء الجمعي، بما له من تداعيات بعيدة المدى على الوعي السياسي والثقافي. فالمراهنة المنتظمة على فرق تمثّل كيان الاحتلال تخلق بمرور الوقت علاقة نفسية مشوشة، يصبح فيها الانتماء التاريخي للقضية الفلسطينية مفرغًا من مضمونه الأخلاقي، ويتحوّل الفريق الإسرائيلي إلى "مجرد طرف رياضي" يستحق الرهان عليه والتعاطف معه في سياق الفوز والخسارة.

ومع التكرار، ينشأ ما يشبه "التطبيع العاطفي"، حيث يختفي الشعور بالنفور أو الرفض، وتستبدله علاقة اعتيادية قائمة على متابعة النتائج والإحصاءات ومناقشة أداء اللاعبين، وكأن هذه الفرق منفصلة عن الواقع الاستعماري والسياسي الذي تمثّله.

كما يسهم هذا النمط في إنتاج جيل جديد أقل حساسية تجاه رمزية الاحتلال، وأكثر استعدادًا لقبوله كأمر واقع، خاصة عندما يصبح الرهان على فوز فريق إسرائيلي مصدر ربح مالي أو مناسبة للتفاخر في محيط الأصدقاء. وفي المجتمعات التي تشهد أزمات اقتصادية وضغوط معيشية خانقة، قد يزداد هذا الانجراف النفسي، إذ يقدّم الرهان شعورًا وهميًا بالتحكّم والنجاح، على حساب المبادئ والقيم الوطنية.

هذا التآكل التدريجي للهوية والانتماء لا يحدث فجأة، بل يتسلل على شكل خطوات صغيرة: متابعة مباراة، رهان عابر، نقاش بسيط، ثم تكرار التجربة إلى أن يصبح حضور الاحتلال في تفاصيل الحياة اليومية أمرًا مألوفًا لا يثير تساؤلًا أو رفضًا.

لذلك، تبدو المراهنات الإلكترونية على بطولات الاحتلال أخطر بكثير من مجرد سلوك استهلاكي، فهي أداة لتطبيع الوعي وتفكيك المعنى الرمزي للتاريخ والنزاع والذاكرة الجماعية، في سياق ترفيهي يبدو للوهلة الأولى بريئًا وعابرًا.

قصص وتجارب فردية

  • المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
     تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة فتح نقاش تربوي ومجتمعي جاد حول أثر المراهنات على القيم والانتماء

على هامش هذا المشهد، تبرز قصص شبان وقعوا في فخ المراهنات اليومية، فتطورت علاقتهم تدريجيًا بالدوري الإسرائيلي حتى باتوا يحفظون أسماء اللاعبين والفرق، ويتبادلون التهاني عند الفوز، من دون أي وعي بخطورة هذا التورط. 

في عام 2019، دخل مراهق في سن الـ14 إلى محل لألعاب الفيديو، يراهن بشكل مستمر على مباريات كرة القدم من خلال تطبيق "App"، وعلى الرغم من أن المبالغ كانت صغيرة، لكنه لم يترك هاتفه ليتابع النتائج، وكانت حالته النفسية والعصبية تتغير بحسب الفوز أو الخسارة، وجزء من هذه النتائج كان مرتبطًا بالدوري الإسرائيلي، تحت عنوان "المهم نربح". هذه القصة تكشف كيف تصبح القضية عادية وسط منطق الترفيه والربح، وكيف يتم تفريغ المجتمع من القيم التي نشأ عليها ومن بينها العداء لـ "إسرائيل".

في ظل هذا المشهد المتسارع، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة فتح نقاش تربوي ومجتمعي جاد حول أثر المراهنات على القيم والانتماء. فغياب الوعي بخلفية هذه البطولات يعمّق هشاشة الموقف الأخلاقي لدى الأجيال الجديدة، ويحوّل الاحتلال إلى حال طبيعية في اللاوعي الجمعي. وهذا ما يجعل من حملات التوعية والتحصين الرقمي أولوية لا تقل أهمية عن أي موقف سياسي أو قانوني.

اقرأ أيضاً.. الاتحاد الأردني يرفض خوض مواجهة "إسرائيل" في مونديال الشباب!

اخترنا لك