العودة إلى الورق: السويد بين حلم الرقمنة وحدود الواقع التربوي

في زمنٍ تُغري فيه الشاشات عقولنا، تُعيد السويد التفكير، ليس رفضاً للتقنية، بل بحثاً عن توازن يعيد للتعلّم عمقه ولمهارات الأطفال جوهرها.

  • العودة إلى الورق: السويد بين حلم الرقمنة وحدود الواقع التربوي
    العودة إلى الورق: السويد بين حلم الرقمنة وحدود الواقع التربوي (الصورة: DW)

في عالمٍ تتزايد فيه السرعة الرقمية، وتندمج فيه الحدود بين الإنسان والتكنولوجيا، جاءت خطوة السويد الأخيرة كصفعة هادئة على وجه حماسة الابتكار غير المشروط.

ففي الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم لتغذية أنظمتها التعليمية بمزيد من الخوارزميات والشاشات والبيانات الضخمة، اختارت السويد — إحدى الدول التي لطالما اعتُبرت مختبراً تقدمياً للأفكار الاجتماعية والتعليمية — أن تتراجع، وأن تُعيد للورق مجده، وللكتاب مكانته، وللطفل تواصله العضوي مع المعرفة.

لكن ما الذي تعنيه هذه العودة؟ وهل هي فعل مقاومة للتكنولوجيا أم بداية لمرحلة نضج رقمي تعترف بحدود الابتكار حين لا يُخدم الهدف البشري الأسمى: الفهم؟

تجربة رقمية جذرية: التعليم كمنصة مفتوحة

منذ العام 2009، دخلت السويد تجربة جذرية في رقمنة التعليم. ولأن السويد لا تعبث حين تجرّب، فقد قرّرت أن تذهب إلى أقصى ما يمكن تخيّله: التخلّص من الكتب الورقية تماماً لصالح التعلّم عبر الشاشات. الحجّة كانت واضحة، بل وتتماهى مع سردية وادي السيليكون: المستقبل رقمي، والمهارات المطلوبة للعمل في القرن الحادي والعشرين لا يمكن تعلّمها من كتب مطبوعة.

وهكذا، تحوّلت الفصول الدراسية إلى بيئات "تفاعلية"، أو هكذا قيل. لوحات ذكية، أجهزة لوحية، تطبيقات تعليمية، ومحتوى رقمي مصمّم لإبقاء الطالب في حالة اندماج دائم.

لكن، كما هي العادة مع كلّ منصة تكنولوجية، فإنّ الواجهة اللامعة كانت تخفي نظام تشغيل غير مستقر. وهنا يكمن جوهر الفكرة: "التقنيات لا تفشل، لكنها تُعيد تعريف النجاح بطريقةٍ قد لا نحبها".
قالت وزيرة التربية لوتا إيدهولم – "تطوير قدرات الأطفال الرقمية وإعدادهم للمستقبل". لكن النتيجة جاءت على عكس التوقّعات. لاحظ المعلمون والأهالي على حدّ سواء تراجعاً ملحوظاً في مهارات الطلاب الأساسية، ولا سيما في القراءة والكتابة، وتدنّي قدرتهم على التركيز.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Sagarika Ray (@sagarikaray22)


عطب التركيز: عندما يصبح التعليم ترفيهاً مشوّشاً

أظهرت التجربة السويدية أنّ التكنولوجيا، حين تُستخدم بلا ضوابط، تُصبح هدفاً بحدّ ذاتها. لم يعد الجهاز وسيلة للوصول إلى المعرفة، بل غاية في ذاته. لم تعد الشاشة نافذة، بل أصبحت الجدار نفسه. هذا التحوّل، بحسب الدراسات التي أجراها المجلس السويدي لبحوث الصحة والحياة العملية والرفاهية (فورتي) خلصت إلى أنّ الاستخدام المكثّف للشاشات يُعيق التركيز ويضعف قدرة الطالب على معالجة المعلومات المعقّدة،مع تراجع خطير في المهارات الأساسية: القراءة، الكتابة، وحفظ المعلومات.
التعليم الرقمي لم يُهمل هذه المهارات فحسب، بل أعاد هندستها بطريقة جعلت الطالب مستهلكاً لمعلومة سريعة الزوال، لا باحثاً عنها. تماماً كما تفعل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي: تمنحك "معلومة" تشعر بأنها كافية، ولكنها تفتقر إلى العمق.

وهكذا، أصبح الطفل السويدي نموذجاً صغيراً لـ "المستخدم الرقمي"، يتنقّل بين تطبيقات التعلّم والألعاب ووسائل التواصل، غير قادر على التمييز بين التجربة التعليمية والتجربة الترفيهية. وهنا نلامس ما يسمّيه كيلي بـ "الإبهار المُعطِّل"— حيث تنجذب العين قبل أن تنخرط الفكرة.


العودة إلى الورق: ليس حنيناً.. بل تصحيح مسار

لم تكن عودة السويد إلى الكتب مجرّد حنين إلى الماضي، بل كانت اعترافاً بأنّ الذكاء الاصطناعي، والشاشات عالية الدقة، وتطبيقات التعليم "الذكية"، لا يمكنها أن تحلّ مكان العلاقة الفيزيائية بين العقل واليد والورقة.

بهذا المعنى، فإنّ قرار الحكومة السويدية باستثمار 104 ملايين يورو لإعادة الكتب الورقية إلى الصفوف لم يكن تراجعاً، بل نوعاً من التقدّم الناضج. هو ما يمكن وصفه بـ"ابتكار عكسي"— عودة إلى البنية التحتية القديمة، لكن بعد فهم عميق للفشل الرقمي.

وكأننا نرى هنا ترجمة حيّة لأحد مبادئ كيفن كيلي الأساسية: "كلّ تقنية جديدة تخلق نوعاً من الاضطراب، ولكن القيمة الحقيقية تظهر عندما نعيد تصميم النظام لامتصاص هذا الاضطراب من دون أن نفقد ما هو إنساني".

بين التكنولوجيا والتقاليد: نحو "توازن ذكي"

في قلب هذا النقاش تبرز الفكرة الأهم: التكنولوجيا ليست شراً، ولا التعليم الورقي خلاصاً. الفكرة الأساسية هي بناء نظام هجين، كما في الطبيعة. لا توجد شجرة تنمو إلى السماء وحدها، بل تتشابك مع شبكة حياة تحتيّة معقّدة. وكذلك التعليم.

دمج الأدوات الرقمية مع الورقية، والتفاعل مع المعلومات إلكترونياً من دون التخلّي عن مهارات التحليل العميق والكتابة باليد، هو ما يمكن أن يُعيد للتعليم معناه الأصلي: بناء العقل، لا فقط تحميله بالمحتوى.

اقتصاد التعليم: هل العودة مكلفة؟ نعم. لكنها استثمار في الإنسان

يُقدّر أنّ السياسة الجديدة ستكلّف الحكومة السويدية أكثر من 60 مليون دولار، فقط في مرحلتها الأولى. بالنسبة لبعض الخبراء، هذا ترف غير مبرّر في عصر الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة. لكن ما قيمة التوفير المالي إذا كانت النتيجة جيلاً لا يستطيع قراءة نص طويل، أو كتابة فقرة مفهومة؟

هنا يظهر البُعد الاقتصادي الأعمق — فكما يذكر كيلي مراراً، "القيمة في التقنية لا تُقاس فقط بالكفاءة، بل بالتأثير طويل الأمد على الإنسان". والاستثمار في قدرات الطفل على الفهم، التركيز، والتحليل هو استثمار في مستقبل لا تبنيه فقط الآلات، بل البشر أيضاً.

الدرس العالمي: السويد ليست في عزلة

ما فعلته السويد هو خلق سابقة. لقد تجرّأت على الاعتراف بأنّ التكنولوجيا، رغم كلّ بريقها، قد تضلّ الطريق. وقدّمت نموذجاً لما يمكن أن يُسمّى "السياسة المرنة" — حيث لا يُعتبر التراجع فشلاً، بل إعادة ضبط للمسار.

وهذا النموذج سيكون محلّ نظر لدول أخرى، خصوصاً تلك التي ترتمي اليوم بكلّ ثقلها في أحضان التعليم الإلكتروني، من دون تقييم حقيقي لأثر ذلك على الطالب والمعلم والمجتمع.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by د.براك القلاف (@doctor_barrak_q8)


 التكنولوجيا ككائن حيّ

وفي النهاية، فإنّ التكنولوجيا ليست أداة جامدة، بل هي "كائن حيّ" يتطوّر ويتفاعل معنا. ولذا فإنّ علاقتنا بها يجب ألا تكون عبودية أو خصومة، بل شراكة مرنة.

السويد، بقرارها الأخير، لم تهرب من التكنولوجيا، بل أعادت تعريف علاقتها بها. وهذا هو جوهر المستقبل: ليس أن نختار بين الورق والشاشة، بل أن نُحسن استخدام كليهما، في الوقت والمكان المناسبين.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by د.براك القلاف (@doctor_barrak_q8)


وبينما نغوص أكثر في عوالم الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والتعليم عبر الميتافيرس، فإن تذكُّر هذه الحقيقة سيكون ضرورياً: التعليم الجيد لا يتطلب دائماً تقنية متقدمة، بل يتطلب بيئة تساعد العقل على التفكير، واليد على الكتابة، والقلب على الفهم.
السويد بدأت هذا التحول. فهل تملك الشعوب الأخرى الشجاعة لتفعل الشيء نفسه؟

اخترنا لك