الذكاء الاصطناعي ومصادرة النصوص كيف يؤثر ذلك على عمل المؤلفين؟
إنّ دخول الذكاء الاصطناعي إلى مهنة الصحافة ليس تطوّراً طبيعياً، بل نقطة انعطاف في معركة السيطرة على التجربة البشرية. ما على المحك ليس الوظائف، بل المعنى نفسه. في زمن الرأسمالية الرقابية، يتحوّل الإبداع من فعل حرّ إلى عملية تُدار وتُقاس بالخوارزميات.
-
ما مدى أهمية تجربة صحيفة "إيل فوليو" التي أصدرت عدداً كاملاً عبر الذكاء الاصطناعي؟ (غرافيك: ندين بدر الدين)
في عالم تتسارع فيه منحنيات التكنولوجيا بقدر لا يُصدّق، لم تعد مسألة استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة مجرّد تجربة طارئة أو طفرة فقط. بل يبدو أننا دخلنا بالفعل مرحلة انتقالية تنذر بإعادة تعريف المهن الإبداعية نفسها. تجربة صحيفة "إيل فوليو" الإيطالية التي أصدرت عدداً كاملاً مكتوباً عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، ليست سوى ملامسة أولى لجدار هذا التحوّل.
اقرأ أيضاً: قتل الصحافة!.. صحيفة إيطالية تطبع نسخة بالذكاء الاصطناعي
في هذا السياق، كان لحوارنا مع الدكتور حكمت البعيني، المدرّب الأكاديمي والخبير في الذكاء الاصطناعي، أهمية مزدوجة. فهو لا يكتفي بموقع المراقب، بل يُعدّ أول كاتب عربي يؤلف كتاباً مشتركاً مع منصة "شات جي بي تي"، ليجعل من تجربته الشخصية نقطة انطلاق لتحليل معمّق لأبعاد هذا التحوّل، وما يعنيه للهوية، للإبداع، وللأخلاق في زمن الخوارزميات.
Italian paper prints fully-AI edition, but not to 'kill' journalismhttps://t.co/DwnM0UufbT pic.twitter.com/uvXyQlyav4
— AFP News Agency (@AFP) March 21, 2025
"إيل فوليو" بين الحدث والرمز – من التجريب إلى التحوّل البنيوي
ينبغي لنا ألّا نقرأ إصدار "إيل فوليو" كحدث تقني فقط، بل كمؤشر على تحوّل سردي أكبر. الصحيفة، بتاريخها الثقافي المحافظ، لم تكن تبحث فقط عن استعراض صحفي، بل ربما كانت ترسل إشارة إلى عصر جديد تُدار فيه غرف التحرير بخوارزميات "تتعلّم"، وتنتج، بل وتُجادل أحياناً.
يقول د. البعيني الذي يحضّر لمؤتمر الذكاء الاصطناعي في لبنان (تموز/يونيو المقبل): "هذه التجربة تسقط الحاجز النفسي بين الصحافي والآلة. نحن لا نرى فقط إنتاج محتوى، بل تصوّراً جديداً لدور الصحافي كمحرّر فوق-بشري، يتحكّم بخوارزميات، يعيد توجيهها، ويضبط إيقاعها، بدل أن يُستبدل بها".
من هذا المنظور، فإنّ ما قامت به "إيل فوليو" ليس "انقلاباً" بل تحوّلاً بنيوياً: الخطوة الأولى في مسار تتقلّص فيه الفجوة بين الذكاء البيولوجي والاصطناعي.
تحذير من "أوتوماتيكية التجربة البشرية"
هنا، نعود إلى قلب فلسفة شوشانا زوبوف التي تُحذّر من "أوتوماتيكية التجربة البشرية"، أي تحويل التجارب الحية إلى بيانات قابلة للتحليل والتوليد. فالخطر لا يكمن فقط في فقدان الوظائف أو تهديد المهن، بل في اختزال التجربة الإنسانية إلى أنماط قابلة للتكرار.
من الإبداع التوليدي إلى "الوعي الحسابي"– الفارق النوعي
في تحليله لموضوع الإبداع، يلفت د. البعيني إلى التمايز الحاسم بين ما يصفه بـ"الإبداع التوليدي" الذي تنتجه الخوارزميات، و"الإبداع الواعي" الذي ينبع من تجربة بشرية غارقة في الذاكرة والعاطفة.
فهل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يُبدع؟
نعم، يجيب البعيني، ولكن وفق شروط مختلفة جذرياً. الخوارزميات تنتج محتوى بتراكيب لغوية معقّدة، وربما مبتكرة، لكنها لا "تعرف" المعنى ولا "تشعر" بآثار ما تنتجه. الإبداع التوليدي لا يصدر عن ألم أو فَقْد أو تجربة حب، بل عن ملايين المعادلات الموزونة.
لكن هذا لا يعني أنه غير مفيد. العكس هو الصحيح. فالإبداع التوليدي، بحسب البعيني، هو مثل آلة موسيقية جديدة: لا تملك روحاً، لكنها تمنحك احتمالات لحنية لم تكن ممكنة سابقاً. وتماماً كما أن آلة "الساينثسيزر" لم تلغِ الكمان، لكنها أعادت تشكيل مفهوم الموسيقى، فإن الذكاء الاصطناعي يعيد تشكيل مفهوم الكتابة.
أحد الأدلة على ذلك، فوز كاتبة يابانية بجائزة أدبية على نص كتبته بمساعدة الذكاء الاصطناعي. "هذه لحظة شبيهة بلحظة دخول الكاميرا إلى الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر"، يقول البعيني، "عندها، تساءل الرسامون: إذا كانت الآلة تلتقط الواقع، فما الذي بقي لنا؟ والإجابة كانت: التعبير، التحريف، الحلم".
الباحث البعيني لا يرى أنّ الذكاء الاصطناعي يهدّد الإبداع البشري. بل العكس: "هو يُجبِرنا على أن نُعيد تعريف ذاتنا ككُتّاب وصحافيين وفنانين. كل ما يمكن للآلة أن تفعله نيابة عنك، عليك التوقّف عن فعله. وكل ما لا تستطيع فعله، عليك أن تتقنه." لذلك، فإن الإبداع الإنساني ليس مهدّداً، بل هو مدفوعٌ إلى أقصى إمكاناته.
الجوائز الثقافية أمام تحدّي "التهجين الإبداعي"
المؤسسات الثقافية، بحسب د. البعيني، تحتاج إلى إعادة هندسة معاييرها. ماذا يعني أن يكون العمل "أصلياً"؟ وما نسبة التدخّل البشري المطلوبة؟
"نحن بحاجة إلى تصنيفات جديدة… كما أن السينما تعاملت مع المؤثرات الرقمية بإبداع وليس برُهاب، على المؤسسات الأدبية أن تبتكر فئة جوائز لـ"الإبداع الهجين" بين الإنسان والآلة".
هذا الطرح يتماشى مع رؤية راي كورزويل (مخترع، وباحث في الذكاء الاصطناعي) المستقبلية، حيث ستُعاد برمجة الحدود الفاصلة بين الذكاءين. ومع ذلك، تبقى المسألة الأخلاقية قائمة: هل سيظل الإنسان هو صاحب القرار في النهاية؟ أم أننا في طريقنا إلى اعتماد خوارزميات "تقيّم" الإبداع أيضاً؟
هل سيُجبر الذكاء الاصطناعي الكاتب على أن يكون أفضل؟
هنا تتجلى المفارقة الكبرى. يعتقد البعض أن الذكاء الاصطناعي سيلغي الحاجة إلى الكُتّاب والصحافيين. لكن د. البعيني يرى عكس ذلك: لن يبقى في الميدان سوى من يملك صوتاً لا يمكن تقليده.
"في السابق، كان التميّز امتيازاً. اليوم، صار ضرورة للبقاء. لأنّ الآلة قادرة على توليد الجيد، فعلى الإنسان أن يقدّم الاستثنائي."
وذلك يتطلّب إعادة تصميم برامج التدريب الإعلامي، بحيث لا تركّز فقط على أدوات التحرير، بل على تعزيز الحس النقدي، والقدرة على التأمّل، وصياغة الأسئلة الكبرى التي لا تطرحها الخوارزميات.
من "الأداة" إلى "الشريك" – تجربة شخصية في الكتابة والإعلام والتعليم
أبرز ما يميّز حديث د. حكمت البعيني هو نقله للتجربة من المجرد إلى الشخصي. فهو لا يتحدّث فقط كأكاديمي، بل كممارس استخدم الذكاء الاصطناعي بشكلٍ يومي في الكتابة، الإعلام، والتعليم.
"لم يكتب عني أو لي. لكنه ساعدني على أن أكتب أفضل مما كنت أظن أنني أستطيع. حفّزني على إعادة صياغة أفكاري، تحسين لغتي، وتوسيع بصري النقدي".
الإنسان لا يُلغى..
في الإعلام، تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى مساعد بحثي خارق، قادر على تحليل اتجاهات وتقارير ضخمة في دقائق. وفي التعليم، أصبح أداة لتوليد أفكار تعليمية وتفاعل أكاديمي يتجاوز الطرق التقليدية.
هنا تظهر ملامح ما يسميه كورزويل بالتكامل الذكي: الإنسان لا يُلغى، بل يُعاد تعزيزه، تقويته، ورفع قدراته إلى حدود جديدة.
اقرأ أيضاً: إنهم يراقبونك طوال الوقت.. أليس هذا مخيفاً؟
هذا الاستخدام الواعي للتقنيات هو ما تدعو إليه الأستاذة في جامعة هارفرد "شوشانا زوبوف " في مواجهة منطق "الرأسمالية الرقابية". أي أن نستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة تحرير للخيال، لا كآلية اختزال للفكر. إنها لحظة انعطاف: إمّا أن نُخضع الآلة لقيم الإنسان، أو نسمح لها بإعادة تشكيله وفق منطق السوق والخوارزمية.
أزمة "ما بين السطور"… الذكاء الاصطناعي لا يقرأ النيّات
دراسة جامعة "جون هوبكنز" الأخيرة كانت حاسمة: أنظمة الذكاء الاصطناعي، رغم تفوّقها في تحليل الصور والنصوص، لا تزال عاجزة عن فهم التفاعلات الاجتماعية الدقيقة. لا تستطيع تفسير الإشارات، التلميحات، أو السخرية – أي "ما بين السطور".
فإن هذه الثغرة ليست تقنية فقط، بل وجودية. "فهم ما بين السطور يعني امتلاك وعي بالتاريخ، بالثقافة، بالوجدان الجمعي. وهذا ما لا يمكن للآلة، مهما كانت متطورة، أن تُحاكيه. وهنا يكمن دور الإنسان الذي يحمل حمولة رمزية وثقافية معقّدة".
التكنولوجيا كأداة تحرير… أم استعمار جديد؟
في النهاية، فإن الذكاء الاصطناعي ليس خصماً أو حليفاً بذاته، بل يتحدّد موقعه وفق كيفية استخدامنا له. إما أن يتحوّل إلى أداة تحرير للإبداع والخيال، أو إلى أداة استبدال للذات البشرية. وتجربة الدكتور حكمت البعيني تُظهر الوجه المضيء لهذا التفاعل، حيث الشراكة بين الإنسان والآلة تُنتج معرفة أعمق، وأسلوباً أكثر نقاءً.
لكن، كما تحذّر شوشانا زوبوف، فإنّ التحدّي الحقيقي يكمن في الحوكمة، في سَنّ التشريعات، وفي الدفاع عن الكرامة الإنسانية أمام عولمة الخوارزميات. وحده الإنسان، المدرك لأبعاده، هو القادر على إبداع المعنى. والبشر، لا الآلات، هم من يجب أن يظلوا في موقع القيادة.